حسن عباس
أظهر تقرير يستند على تحليل وثائق سرية، أُخذت من مرافق حكومية كانت تابعة للنظام السوري قبل أن تنسحب قواته منها، أساليب ممارسات الأجهزة الأمنية السورية، وكشف “أنماط انتهاك حقوق الإنسان بشكل كبير وممنهج”، كما أوضح أن هذه الأجهزة تعمل فوق القانون.
هذه الخلاصات أتت في تقرير بعنوان “للجدران آذان: تحليل وثائق سرية من أجهزة الأمن السورية”، أصدره في 21 مايو “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، وهو منظمة سورية غير ربحية تعمل على “تعزيز عمليات العدالة الانتقالية والمساءلة في سوريا من خلال جمع وحفظ الوثائق”.
والتقرير هو نتيجة تحليل تجريبي لعيّنة مؤلفة من 5003 صفحات، وهدف إلى “تحديد أنماط في الوثائق تؤدي لتوفير المزيد من المعلومات حول طريقة عمل أجهزة الأمن في سوريا قبل الأزمة وبعدها”، وتم جمعها من محافظات الحسكة ودرعا ودير الزور والرقة وإدلب.
وهذه العيّنة هي جزء من 438 ألف صفحة أُخذت من مرافق حكومية ويمتلك بعضها المركز السوري للعدالة والمساءلة، فيما البعض الآخر جمعته اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة.
وحصل المركز على قسم من وثائقه عام 2013، عندما دخل فريقه إلى مرافق في الطبقة والرقة بعد انسحاب الحكومة منها، وحصل على قسم آخر منها عام 2015، عندما انسحبت الحكومة من مواقعها في محافظة إدلب.
وأوضح التقرير أن “بعض الوثائق تتضمّن تعليمات للمرؤوسين تورّط الحكومة السورية في انتهاكات حقوق إنسان أو تُبين مسؤولية ضباط محددين عن انتهاكات قوانين الحرب”، فمن بين الوثائق مجموعة “تتضمن تعليمات واضحة باستهداف الأقليات أو قمع الحق في التجمع والتعبير عن الرأي”.
الكلّ يراقب الكلّ
تبيّن الوثائق أن مستوى رصد الحياة اليومية للمواطنين السوريين كان عالياً جداً، ففي وثائق يعود تاريخها إلى ما قبل عام 2011 عُثر عليها في إدارة الأمن السياسي “تقارير حول نشاطات المواطنين اليومية، بما فيها أولئك الذين لا يبدو عليهم أنهم يشكلون أي تهديد، كرحلة قامت بها مجموعة من الشباب المسيحيين إلى كنيسة تاريخية”.
وسنة 2011، بدأت الوثائق تركز بشكل واضح على التظاهرات والكتابة على الجدران وأعمال المعارضة السياسية الأخرى، وظهر بوضوح “أنه كان يتم العمل على تمحيص أي عمل معارض للحكومة مهما كان بسيطاً كالبصق قرب تمثال الرئيس أو التذمر من الحكومة في عشاء عائلي”.
وكانت أجهزة الأمن تتنصت على هواتف المواطنين. وإذا كان ذلك يتم في بعض الحالات بسبب مخاوف أمنية وصفها التقرير بـ”المشروعة”، كشراء وبيع ونقل الأسلحة أو مخططات لهجمات على بلدات أو مدارس، إلا أنه في حالات أخرى كان يتم “على ما يبدو… لمجرد مشاركة أصحابها في نشاطات سياسية سلمية”.
وكشفت الوثائق مراقبة هواتف مسؤولين حكوميين ومسؤولين في أجهزة الأمن الأخرى، مثل مراقبة مكالمة بين قائد شرطة ورئيس شرطة حول كتابات معادية للحكومة على الحائط “تمت مناقشتها بالرغم من عدم وجود أيّة إشارة إلى أن أياً من المسؤوليْن كان متعاطفاً مع هذه الكتابات”، ومكالمة أخرى بين شخصين يعملان لصالح إدارة المخابرات العامة.
وكانت إدارات وفروع الأجهزة الأمنية تتجسس على بعضها البعض وتتشارك في ما بينها بنصوص المكالمات.
وأظهرت الوثائق أنه في اليوم الذي بدأت فيه التظاهرات في سوريا، أمرت إدارة المخابرات العسكرية برفع مستوى الاستنفار و”تفعيل المخبرين” في جميع أنحاء البلاد، إضافة إلى زرع المخبرين في التظاهرات لتفريقها.
وكان المخبرون يرفعون تقارير بحق أفراد لارتكابهم أفعالاً مثل إهانة الرئيس، أو التحريض على التظاهر أو بسبب وجود صلات بينهم وبين ما يسمّونه بـ”الجماعات الإرهابية المسلحة”.
ومن ضمن الإفادات وشايات من مجندين بمجندين آخرين، ومن ضباط بضباط آخرين، ومن جنود بضباط، ومن موظفي مستشفى بزملائهم، ومن أطباء بمرضى، وحتى أنه كانت هناك وشايات بالأقارب أيضاً.
أساليب الاعتقال وأهدافه
ألقت مجموعة من الصفحات التي تناولت موضوع الاعتقال (وليس الاختطاف من قبل أطراف غير حكومية) الضوء على الممارسات التي تتبعها الحكومة في التوقيف.
معظم الصفحات المتعلقة بالاعتقال في العيّنة تحدثت عن أفراد تم اعتقالهم بسبب التظاهر أو بسبب أشكال أخرى من التعبير عن الرأي، “بما فيها على سبيل المثال شتم الرئيس خلال دعوة عشاء”.
وصنفت الوثائق المتظاهرين والصحافيين المنتقدين للحكومة (أي “الإعلام المعادي”) وأفراد الجماعات المسلحة والإرهابيين بأنهم “عناصر تحريضية”، و”في بعض الحالات يبدو أن المصطلحات كانت تُستخدم بشكل مختلط أو عشوائي”.
كذلك، احتوت العيّنة على إقرار بمعرفة الجهات الرسمية أن من بين المعتقلين أطفال ونساء، إذ “طلبت واحدة من الصفحات الصادرة عن رئيس شعبة الأمن السياسي في دمشق جميع أسماء النساء والأطفال المحتجزين في الفرع المحلي”.
وتؤكد الوثائق أنه جرى أحياناً “توقيف أفراد العائلة لإجبار المطلوبين على تسليم أنفسهم”. ولكن بعد إدراك الحكومة أن ممارسات أخذ الأقارب رهائن كانت تتسبب بالمزيد من الاستياء بين الناس، أظهرت واحدة من الصفحات أن فرعاً أمنياً حظرها، وأمر بدلاً من ذلك باستخدام تكتيكات أخرى، من ضمنها زيادة الاعتماد على المخبرين السريين.
واقترحت وثيقة صادرة عن مكتب الأمن القومي إيقاف الاعتماد على مخبرين من طائفة واحدة (العلوية على الأغلب) للتعرف على المطلوبين على الحواجز الأمنية، “في محاولة للحد من الضغائن بين الطوائف”، إذ شاع قبل ذلك استخدام المواطنين العاديين للتعرّف على المطلوبين على نقاط التفتيش، لتوقيفهم.
وتبيّن الوثائق أن التوقيف كان يُستخدم أيضاً كتكتيك لردع تنظيم التظاهرات من الأساس. فهناك تقرير يومي يتوقع أن تتضمن تظاهرات مرتقبة عدداً أقل من المتظاهرين إذا تم اعتقالهم قبل موعد التظاهرة، وهناك صفحات تتضمن معلومات عن اعتقال أشخاص لإجبارهم على الامتناع عن المشاركة في تظاهرات.
ويؤكد التقرير أنه “بالرغم من أن الغالبية العظمى من الصفحات الموجودة في العيّنة لا توفر معلومات حول مصير المعتقلين بعد توقيفهم، أشار عدد قليل منها إلى أن المعتقلين لقوا حتفهم في التوقيف”.
الخلط بين المدنيين والمسلحين والإرهابيين
في الوثائق الصادرة بين عامي 2011 و2012، إشارات عدّة إلى أن هناك تظاهرات يشارك فيها “محرضون” و”عصابات مسلحة” بشكل عام وبدون التمييز بين هؤلاء وبين المدنيين غير المسلحين. فعلى سبيل المثال، عند إعطاء أمر بقمع تظاهرات بسبب العصابات لا يتضمن العرض أيّة تعليمات حول كيفية حماية المتظاهرين السلميين أو تحديد العناصر الإجرامية بين الجموع.
وفي منتصف عام 2011، بدأت كلمة “إرهابي” بالظهور أكثر في إشارة إلى أي شخص يعارض الحكومة، و”بما أن الأجهزة الأمنية تنظر إلى جميع المعارضين للحكومة بنفس العدسة فإنها لم تميّز بين الفصائل المقاتلة”.
وظهرت في الوثائق معلومات عن اعتقال قاصرين بسبب ميولهم المناوئة للحكومة، فقد وثّقت واحدة من الصفحات توقيف قاصرين بسبب مشاركتهم في التظاهرات، بينما سجلت صفحة أخرى حادثة توقيف قاصرين بسبب قولهم “يا للعار” عند مرورهم أمام “صورة الأسد”.
التخويف من “المؤامرة”
وردت كلمة “مؤامرة” في صفحات عدة من الوثائق. وكانت أحياناً تتحدث عن “توقعات غير معقولة”، مثل توقع مخططات “كشفت عن مستوى عالٍ من الارتياب وجنون العظمة لدى أجهزة المخابرات أو الرغبة في نشر الارتياب ضمن صفوفها”، كما الحال في برقية حذّرت من أن الجماعات الإرهابية تخطط لنقل سمك ولحوم فاسدة إلى سوريا عبر الحدود التركية الجنوبية لتوزيعها على عدد من المناطق، دون أن تتضمن أيّة تعليمات محددة حول كيفية مواجهة هذا الخطر.
وفي أحيان أخرى، تحدثت الوثائق عن “المؤامرة الدولية ضد سوريا”، و”المؤامرة المحاكة ضد القوات السورية المسلحة”، ودعت إلى “تعريف الجمهور والعاملين في أجهزة الأمن بالمؤامرة الدولية الواسعة لتقويض الحكومة السورية”.
“إجراء اللازم”
تكررت عبارة “إجراء اللازم” (أو “اتخاذ الإجراءات اللازمة”) في الوثائق بكثرة، واستُخدمت بشكل روتيني للغاية، ووجد التقرير صعوبة في فهم ما إذا كانت مؤشراً هاماً على وجود انتهاكات محتملة أو أنها مجرد عبارة عامة تُستخدم حتى في الظروف العادية.
وبحسب التقرير، تعطي هذه العبارة المطاطة مساحة واسعة لتقدير كيفية تنفيذ الأوامر، “الأمر الذي يفسر إلى حد كبير سبب تباين أساليب القمع التي استُخدمت تحديداً في بداية التظاهرات في مختلف المناطق في سوريا”.
وتدعم أدلة استنتاج أن عبارة “إجراء اللازم” يمكن أن تتضمن استخدام “القوة المميتة”، فعام 2011، قامت منظمة “هيومن رايتس ووتش” بإجراء مقابلات مع 36 منشقاً عن الجيش وأجهزة المخابرات شهدوا على وقوع جرائم محتملة ضد الإنسانية بحق المتظاهرين، وأشارت في تقرير إلى أن “المنشقين قالوا إنه حتى في الحالات التي لم يتم فيها تحديد ذلك، إلا أنهم جميعاً كانوا يفهمون عبارة ’جميع الوسائل اللازمة‘ على أنها تصريح باستخدام القوة المميتة، خاصة وأنه كان يتم تزويدهم بالذخائر الحية بدلاً من وسائل ضبط الجموع”.
قمع الأكراد والأقليات الأخرى
تضمنت بعض الوثائق اعترافات بانتهاك حق الأكراد بالتعبير عن الرأي وحقوقهم الثقافية، وتعليمات بمراقبة عمليات نقل الملكية بينهم ونشاطاتهم السياسية بشكل أوسع، وفيها صفحات “يمكن أن تُستخدم كأدلة مباشرة على اضطهاد الأكراد”.
ففي بعض الصفحات وردت أوامر مباشرة بفض تظاهرات بما فيها تظاهرات نُظمت رداً على مقتل فتاة كردية خلال احتفال النيروز (رأس السنة الكردية) في ربيع 2010، ومسيرات اليوم الدولي للعمال عام 2010، وبالتصدي لاحتمال خروج تظاهرات في المناطق الكردية بعد انطلاق الربيع العربي.
وتضمنت بعض الصفحات شروحاً لـ”كيف تمت معاقبة الأكراد الذين تجمعوا وعزفوا الموسيقى في السيارات في الشوارع”، وأمرت بتحريك الدوريات لمنع الأكراد من التجمع، وأوصت بتهديد القادة الأكراد لردعهم عن المشاركة في التظاهرات.
ونصت صفحتان على أن التعبير عن الثقافة واللغة الكردية يهدد الوحدة السورية، بينما وصفت صفحة واحدة التعبير عن الثقافة الكردية بأنه “خيانة” لسوريا. ورداً على النشاط الكردي السياسي المتزايد وصفت واحدة من الصفحات خطة لتجريم جميع النشاطات الكردية “القومية”.
وتضمنت واحدة من الصفحات أوامر بالضغط على العشائر العربية لتنتقل للعيش في الحسكة، و”ذلك على ما يبدو في محاولة للحد من الأغلبية الكردية في تلك المنطقة”. وتوصي صفحة أخرى بشكل خاص باتخاذ إجراءات لمنع تشكيل الأكراد أغلبية إثنية في أيّ من المناطق لمنع سيطرتهم على النشاطات السياسية.
وأشارت صفحة إلى استخدام أسلوب “الترهيب والترغيب” من أجل إغراء وتهديد القادة الأكراد ودفعهم للاصطفاف إلى جانب الحكومة. ولكن نفس الصفحات تضمّنت أوامر باستخدام أساليب تعسفية بما فيها المراقبة والتجريم والتهديد من قبل قوات الأمن والعشائر العربية، و”إحكام القبضة” على القرى الكردية واستخدام ما وصفته إحدى الصفحات “بالأسلوب التركي في التعامل مع الحالة الكردية”.
ولم يجد المركز السوري عدداً كبيراً من الصفحات التي تذكر المجموعات الإثنية أو الدينية الأخرى في سوريا، مرجعة ذلك إلى أسباب من بينها أن المواقع التي أخذت منها غالبية الوثائق كانت تتضمن أعداداً أكبر من الأكراد مقارنة بالأقليات الأخرى، ولكن التقرير يؤكد أن “الصفحات الموجودة في العينة تضمّنت معلومات عن مراقبة المسيحيين في سوريا”.
خلاصة
يعترف التقرير بأن ما يظهره تحليل الوثائق يكشف أموراً يعرفها معظم السوريين منذ زمن، وبأن عدداً من المنظمات نشرت تحليلات حول قطاع الأمن في سوريا وعملياته منذ بداية النزاع توصلت إلى نتائج متشابهة إلى حد كبير حول بنية النظام وأخطائه، ولكنه يشير إلى أنه “التقرير الأول الذي يعتمد على وثائق أصلية صادرة عن فروع المخابرات”.
وفي تقديمه للتقرير، دعا المدير التنفيذي لـ”المركز السوري للعدالة والمساءلة” محمد العبد الله إلى “أن يكون إصلاح قطاع الأمن، بما فيه عمليات الغربلة والتطهير، مكوناً رئيسياً في أيّة اتفاقية سلام تنطوي على أمل حقيقي في تحقيق سلام مستدام في سوريا”.
وأعرب عن أمله في “أن يشكل هذا التحليل خطوة مبدئية نحو إيجاد فهم عميق وواقعي لدور أجهزة الأمن في سوريا وتورطها في انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي خلال فترة النزاع”، وفي “أن يكون خطوة أولى في طريق تحقيق العدالة للسوريين”.
المصدر: رصيف