أحمد طرقجي
«هل حان الوقت لأن نحزم أمتعتنا ونترك إدلب؟» سألني خالد قبل بضعة أشهر عندما زرته في إدلب، وقال: «لقد رأيت كيف تعرض زملاؤنا في غوطة دمشق ودرعا للتهديد والاضطهاد والاعتقال خلال الهجوم لاستعادة هذه المناطق من قبل الحكومة السورية في عام 2018»، الدكتور خالد هو مدير أحد أكبر المراكز الطبية في الشمال السوري، وزميل الدراسة السابق.
قُتل أكثر من 1100 طبيب وممرض في سوريا في أثناء تأديتهم واجبهم خلال السنوات الثماني الماضية. 3900 آخرون ما زالوا معتقلين في سجون النظام السوري، بينما هناك 170 آخرون معتقلون لدى جهات أخرى. مثل العديد من العاملين في المجال الإنساني الآخرين في سوريا، كان على خالد أن يوازن بين رغبته في المساعدة وبين الحاجة إلى حماية أسرته في ظل سلام هش جداً.
نهاية الشهر الماضي، شنت الحكومة السورية وحلفاؤها هجوماً على جنوب إدلب وريف حماة الشمالي. قد يكون الهدف السيطرة على الطرقات الرئيسية أو استعادة السيطرة على المنطقة ككل. استهدف الهجوم العنيف المدنيين والمرافق المدنية مما أجبر أكثر من 300 ألف شخص على النزوح إلى الأماكن القريبة من الحدود التركية. هذا التكتيك أصبح معروفاً في سوريا، وهو الهجوم على المرافق المدنية بضراوة فتصبح المدن غير قابلة للحياة مما يجبر السكان على المغادرة. عندما زرت تلك المنطقة قبل بضعة أشهر، كانت المنطقة تستضيف معظم المهجّرين سابقاً من مدن أخرى في سوريا كالغوطة وشرق حلب ودرعا، حيث يبحث هؤلاء عن مكان آمن بعيداً عن القصف وبعيداً عن مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام.
في الأسابيع الثلاثة الماضية تعرض 19 مرفقاً صحياً للضربات الجوية، العديد من هذه المراكز هي مستشفيات معروفة تدعمها الأمم المتحدة. الإحداثيات الدقيقة لستة من هذه المراكز الطبية معروفة أيضاً للأمم المتحدة من خلال آلية تحييد المنشآت الإنسانية.
في عام 2014 قام مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة (أوتشا) بوضع آلية لتحييد المرافق الإنسانية تتضمن مشاركة إحداثيات المرافق الإنسانية مع كل الدول أطراف النزاع في سوريا، لم يكن ذلك مقنعاً للمنظمات الإنسانية ولا للعاملين في هذه المنظمات على الأراضي السورية، حيث من غير المنطقي مشاركة الإحداثيات مع الجهات نفسها التي تستهدف هذه المرافق.
كان أحد الأهداف حماية هذه المرافق والهدف الآخر هو التحقيق في هذه الهجمات. في سوريا، تم توثيق أكثر من 500 هجوم على مرافق طبية، كانت حصتنا منها في «سامز» ما يقارب الثلث. حصيلة هذه الهجمات لم تكن محاسبة مرتكبي الهجمات بل كانت إحساسنا كمنظمات إنسانية بأننا استنفدنا كل الوسائل، من تحصين للمشافي إلى توثيق وتتبع للهجمات إلى مناصرة حماية العاملين في الشأن الإنساني في سوريا عبر كل منصة استطعنا الوصول إليها، دبلوماسية أو إعلامية وكل ما نستطيع رفع صوتنا من خلاله. خلال شهادتي أمام الكونغرس الأميركي في عام 2017، أبلغت أعضاء الكونغرس بأننا فشلنا جميعاً في حماية العاملين في المجال الإنساني في سوريا وأخشى أن يؤثر الإفلات من العقاب والهجمات على المستشفيات وعمال الإغاثة في سوريا إلى استخدامه في نزاعات أخرى في المستقبل. في سوريا غادر 27 ألف طبيب البلاد من مجمل 40 ألفاً إلى دول أخرى يطلبون الأمان بينما يرفض آخرون، مثل خالد، المغادرة، وقد اختاروا البقاء وخدمة مجتمعاتهم على الرغم من المخاطر ومع العلم بأنهم سيكونون الهدف الرئيسي في حالة وقوع هجوم على إدلب. إن التزامهم الثابت يجب احترامه وتقديره عالياً. وإذا كانوا على استعداد لتحمل هذا الخطر الكبير، عندئذ يجب على قادة العالم على الأقل أن يقتربوا قليلاً من التزام هؤلاء الأطباء لضمان حمايتهم. وعلينا جميعاً أن نعمل معاً لإعادة وضع هذا المعيار: المستشفيات ليست هدفاً وتجب حمايتها بموجب القانون الدولي الإنساني.
كان قرار العاملين في هذه المرافق بمشاركة إحداثيات مرافقهم هو نتيجة يأسهم أن هناك من سيتحرك لينقذهم. لم يكن قراراً سهلاً ولذلك لم تقدم عليه كل المرافق، واقتصر بدايةً على مرافق معروفة أو استُهدفت تكراراً. حتى الآن لم يتجاوز عدد المرافق التي شاركت إحداثياتها في سوريا الألف بينما يتجاوز العدد 14 ألفاً في بلدان أخرى، مما يدل بشكل واضح على تأثير ديناميكيات الصراع السياسية على العمل الإنساني وعلى عجز آليات الأمم المتحدة في سوريا.
في سبتمبر (أيلول) الماضي، كان التهديد بشن عملية عسكرية واسعة النطاق في إدلب وشيكاً، قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب: «سيرتكب الروس والإيرانيون خطأ إنسانياً خطراً للمشاركة في هذه المأساة الإنسانية المحتملة». بعد فترة وجيزة، تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار برعاية تركيا وروسيا.
بعد أيام قليلة من إعلان وقف إطلاق النار، زرت إدلب. بحلول ذلك الوقت، كان ما بين 20 و30 ألف شخص قد خرجوا من جنوب إدلب غير واثقين من اتفاق وقف إطلاق النار، لكن كان من الواضح أن وقف النار المؤقت قد جلب بريق الأمل إلى الأهالي. في أثناء السير على الطريق السريع «M – 5»، شاهدنا مواقع بناء جديدة من قِبل السكان المحليين الذين يحاولون إعادة بناء منازلهم وإعادة بعض الأمور الطبيعية.
رغم هذه العلامات الإيجابية، كانت الحياة في إدلب هشة. زرت خمسة مستشفيات في شمال غربي سوريا، حيث أخبرني زملائي بالمصاعب المستمرة التي يواجهونها. وذكروا أن إمدادات الأدوية تستمر أقل من أسبوع واحد كل شهر، ما يترك المرافق الطبية بالفعل تحت ضغط شديد لتأمين الأدوية لمرضاهم. برأي الزملاء في سوريا، فإن وكالات الأمم المتحدة لا تلبي احتياجات المستشفيات في إدلب. خوفهم هو أن الأمم المتحدة تقبع تحت ضغط الحكومة السورية للحد من الموارد الإنسانية للمناطق خارج سيطرتها كاستخدام جديد للإغاثة الإنسانية سياسياً. بينما استُنفدت موارد المنظمات المتخصصة كـ«سامز» وشركائها نتيجة الهجمات الممنهجة على المرافق وموجات النزوح الكبيرة. يرى الزملاء عجز الأمم المتحدة عن حمايتهم واضحاً في الإحاطة الأخيرة عن الوضع في سوريا لمجلس الأمن في السابع عشر من مايو (أيار) الجاري، حيث ذكرت الإحاطة الكثير من الحقائق والأرقام والمعلومات عن الوضع الإنساني دون القدرة على إحداث أي تغيير.
رغم الأمل الظاهر على وجوه المدنيين في العودة عندما كنت في سوريا العام الماضي، فإن كل شخص قابلته لم يكن مقتنعاً بأن وقف النار سيكون مستداماً. سكان إدلب يريدون الاستقرار طويل الأجل والسلام. إنهم يدعون المجتمع الدولي وقادة العالم إلى ضمان استمرار وقف إطلاق النار وتجميد الصراع والعمل على محاسبة الجناة، ولا تختلف آمالهم كثيراً بالهدنة التي بدأت في 18 مايو الحالي عن تلك التي بدأت في سبتمبر الماضي.
في أثناء مغادرتي، أخبرني خالد: «لا يهمني أن أموت، ولكني آمل أن أوصل رسالتي، وأن أحترم الثقة التي أُوليت لي كطبيب. آمل أن تكون عائلتي آمنة، وأدعو لأطفال سوريا أن يكون لهم مستقبل أفضل من دون قنابل أو جوع أو تهجير».
المصدر: الشرق الاوسط