باسل بو حمدة
ليس أدل على ضرورة وحيوية الموجة الأولى من الربيع العربي في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، إلا موجته الثانية، وليست الأخيرة ربما، في كل من السودان والجزائر، التي جاءت لتصوب مسار الأحداث وتعيدها إلى سيرتها الطبيعية الأولى، متمثلة في استحقاق التغيير السياسي في أنظمة الحكم الاستبدادي القائمة في المنطقة، بعد أن تعرضت للكثير من محاولات التشويه، وحرف المسار على يد قوى الثورة المضادة، في مشهد من شأنه إزالة كل ذلك الدرن الزائف الذي علق على جدران تجارب ثورية عبّرت ولا تزال عن تطلعات شعوب المنطقة إلى الانعتاق من قبضة ديكتاتوريات مستوطنة بشكل مزمن، على طريق إعادة بناء مجتمعاتها على أسس ديمقراطية صحيحة أسوة بسائر شعوب الأرض.
ثمة تقصير فادح في قراءة مشهد الربيع العربي في موجته الأولى والثانية على حد سواء، وثمة حساسيات كثيرة ظهرت في الموجة الأولى وألقت ظلالا قاتمة على إمكانية الولوج إلى قراءة صحيحة لمجريات الأحداث، لكن من حسن الحظ أن يصار الآن وهنا إلى تصويبها في موجته الثانية الصاعدة، فقد جرت العادة، في هذا السياق، على قراءة هذا المشهد من منظور ما آلت إليه تلك التجارب الثورية من نتائج، تزامنا مع استبعاد المقدمات التي جعلت منها، أصلا، استحقاقات ملحة لا يمكن للمجتمعات والدول أن تمضي قدما من دون تجسيدها على أرض الواقع، من خلال القطع مع أنظمة سياسية باتت تشكل عبئا هائلا على مجتمعاتها ومستقبلها الاجتماعي السياسي.
في هذا السياق، فإن وحدة القياس التي يمكن اعتمادها عندما يتعلق الأمر بشرعية تلك التجارب الثورية الممتدة منذ نحو عقد من الزمن، والتي ظلت خامدة لعقود أطول، تتلخص في وجاهة الأسباب التي أدت إليها وليس بالنتائج التي حققتها على الأرض، أو لم تتمكن من تحقيقها حتى الآن. من هنا تستمد تلك التجارب شرعيتها وصيرورتها ومسوغات وجودها في عملية سياسية ممتدة أفقيا وعاموديا، فيها الكثير من الربط والتكامل والمشتركات، فأسباب نجاح الموجة الثانية من الربيع العربي هي الأسباب ذاتها التي أدت إلى إخفاق الكثير من جوانب الموجة الأولى، ولكن معكوسة، فبينما غرقت الموجة الأولى في أوحالها، اشتغلت الموجة الثانية على تجاوزها، ونجحت في مشهد يدل على التتابع والتكامل والاستمرارية عندما ينظر للأمر من منظور صيرورة التغيير السياسي وحتميته طالما بقيت دواعيه ماثلة أمام المجتمع.
خلف ملامح الواقع السياسي المتقدم الذي أسست له الموجة الثانية من الربيع العربي، تتراءى جملة من المعطيات النظرية والعملانية، التي يمكن أن تؤسس لمنهج فكري قادر على الولوج باستحقاق التغيير السياسي، إلى أرض الواقع في بلدان الشرق الأوسط. معطيات ربما تشكل مقدمة لازمة لدراسة وفهم حالات الإخفاق العابرة، في تجارب الموجة الأولى منه (الربيع العربي)، رغم المسافة الكبيرة التي تفصل بين الموجتين من ناحية المعطيات الميدانية، بعد أن أغرقت قوى الثورة المضادة تجارب الموجة الأولى في دوامة العنف والمجهول، الأمر الذي لا يزيل الأسباب العميقة التي أدت الى اندلاع تلك الثورات، بل يعززها أكثر من أي وقت مضى.
أولا: الانتقال بمحاولات نقد مكامن الإخفاق في الموجة الأولى من الحيز النظري المائع، إلى حالة من النقد الميداني المفيد، المرتكز على ممارسات سياسية بعينها، بغية قطع الطريق على قوى الثورة المضادة، في سعيها لفرض سرديتها المزيفة حول أسباب اندلاع ثورات الربيع العربي، ومحاولات ربطها بمؤامرات خارجية مزعومة، ووسمها بإرهاب مفبرك بات يشكل ذريعة لسائر السياسات المارقة، ليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب وإنما في أرجاء المعمورة قاطبة أيضا.
أسباب نجاح الموجة الثانية من الربيع العربي هي الأسباب ذاتها التي أدت إلى إخفاق الكثير من جوانب الموجة الأولى، ولكن معكوسة
ثانيا: الحفاظ على الطابع السلمي للاحتجاجات، والنأي الإيجابي بالنفس عن حالات التقوقع في خندق الأيديولوجيات والانتماءات القاتلة، والانفتاح على جوهر الثورات، متمثلا بالإعلاء من شأن المواطن والمواطنة، بما يتطلب ذلك من ضرورة حضور العمل الجبهوي الوطني العريض الذي يخاطب مصالح واهتمامات سائر فئات المجتمع، بصرف النظر عن انتماءاتها الدينية أو الجهوية أو القومية.
ثالثا: حماية الثورة من محاولات عسكرتها وجرها إلى مواقع لا تخدم برامجها، تزامنا مع ضبط العلاقة بين المؤسسة العسكرية وقوى الحراك الثوري حفاظا على طابعها المدني السلمي.
رابعا: الحد من التدخلات الخارجية، وبناء علاقات متوازنة مع الدول والقوى الخارجية، يجب أن تصب أولا وأخيرا في قناة التغيير السياسي، والوقوف في وجه حرف المسار باتجاه أجندات خارجية مغرضة.
خامسا: الحرص على تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية، بما لا يسمح لمجرمي الأنظمة والقوى السياسية السابقة، أو الحالية، التملص من المحاسبة والمساءلة، بطريقة تضمن احترام مبدأ عدم الإفلات من العقاب، على قاعدة إعادة بناء المجتمع وليس انتقاما منهم.
سادسا: انتهاج تكتيك التصعيد التدريجي على سلم استراتيجية التغيير الجذري في البنى الفوقية للمجتمع، بحيث يصار إلى اختيار الشعارات والتحركات الجامعة المناسبة في اللحظات المناسبة الممكنة من عمر الحراك.
سابعا: تسييل العلاقة المفترضة التي تربط بين خطابات مختلف الأجيال العمرية، صاحبة المصلحة في التغيير، وإعطاء الأجيال الشابة الدور الريادي، مع حضور المخضرمين منهم، أفرادا وقوى سياسية واجتماعية ونقابية، فضلا عن إبراز دور المرأة والطبقات المهمشة في المجتمع.
لكن تبقى كل هذه المعطيات والتوجهات مجرد جزء يسير من القراءات المنجزة والمحتملة في هذا الاتجاه، وهي لا تدعي تغطية شاملة لما يحدث أو يمكن أن يحدث في مسارات الحراكات الثورية في بلدان المنطقة، مع التأكيد على تماثل عناصرها الرئيسية لجهة ما تمثله تلك الحراكات من حالات استحقاق تاريخية، لن تخمد نيرانها إلا بزوال أسباب اشتعالها، مهما حاولت الأنظمة السياسية الفاسدة والمستبدة وحلفاؤها حرف مسار الأحداث باتجاهات مغايرة، تسعى من خلالها إلى طمس الحقائق، وخلق سرديات تعتقد أنها تقيها مصيرها المتدحرج نحو الزوال. وهنا لا بد من التذكير بأن مستوى ومتانة التنسيق بين هذه الأنظمة، لا يقابله مستوى مماثل على ضفة الحراكات المنادية بتغييرها، وهذا خلل بنيوي لم يصر إلى رصده حتى الآن مع أنه يشكل بذاته، إن كتب له أن يرى النور، سلاحا لا غنى عنه في المواجهة المفتوحة مع أنظمة الفساد والاستبداد، مثلما تشكل ثورات الربيع العربي في كلا موجتيه الأولى والثانية أجزاء متراصة من فسيفساء واحدة.
المصدر: القدس العربي