حسن نافعة
لماذا طلبت المملكة العربية السعودية عقد قمتين طارئتين، الأولى للدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي والثانية للدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، على الرغم من أن جميع الدول الأعضاء في هاتين المنظمتين الإقليميتين هي في الوقت نفسه أعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، التي تستضيف السعودية قمتها الاعتيادية الرابعة عشرة في نهاية الشهر الجاري، وما دلالة الإصرار على عقد هذه القمم الثلاث في مكة المكرمة بالذات، أي على بعد خطوات من الحرم المكي الشريف، أقدس أماكن العبادة لدى عموم المسلمين، وخلال العشرة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، أكثر أيام العام روحانية عندهم؟ فهل نحن هنا إزاء حملة علاقات عامة تستهدف التذكير بالمكانة الدينية لدولة يطلق على رئيسها لقب «خادم الحرمين الشريفين»؟ أم أننا إزاء حملة دبلوماسية تستهدف التأكيد على زعامة السعودية للدوائر الثلاث مجتمعة: الخليجية والعربية والإسلامية؟ أم أن الأمر كله لا يعدو كونه مناورة لتشكيل غطاء سياسي يسمح بتبرير وتمرير الحرب الأمريكية الإسرائيلية المحتملة على إيران؟
الواقع أن انعقاد القمم الثلاث في مكة المكرمة بالذات، وفي هذا التوقيت بالذات، ينطوي على شيء من ذلك كله. فمن الواضح هنا أن السعودية تسعى لتوظيف مشاعر دينية وروحية مرتبطة بالمكان والزمان في عملية حشد وتعبئة، تجري الآن استعدادا لمواجهة كبرى مع إيران، سياسية واقتصادية وربما عسكرية أيضا، مستغلة ما تعرضت له بعض ناقلاتها من تخريب في ميناء الفجيرة، وما تعرضت له بعض منشآتها النفطية في نجران من هجوم مسلح نفذته طائرات حوثية مسيرة. لذا يتوقع أن تلقي السعودية بثقلها كي تحصل من القمم الثلاث على بيانات تدين النظام الإيراني، وتندد بسلوكه الداعم للجماعات الإرهابية وللميليشيات المسلحة في المنطقة. ومن الواضح كذلك أن السعودية تتعمد هنا خلط الأوراق بين ما هو سياسي وما هو ديني، وأنها لا تعبأ كثيرا بما قد يلحقه هذا الخلط من أضرار بالنسبة لمصالح شعوب المنطقة، بما فيها مصالح شعبها، خاصة على المدى الطويل.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الصراع بين إيران والمملكة العربية السعودية ظل يحتدم ويتصاعد بدون انقطاع منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران، وإلى أن هذا الصراع لم يكن أبدا صراعا سياسيا تقليديا، يدور حول اختلاف المصالح والمواقف بين الدول، وإنما كان في حقيقته صراعا بين نظامين «إسلاميين»، يسعى كل منهما لزعامة العالم الإسلامي ككل، وفرض رؤيته الخاصة وسياساته العامة عليه. فالنظام الإيراني، الذي تأسس في أعقاب ثورة قادها رجال دين، وأطاحت بنظام حليف للولايات المتحدة وإسرائيل، هو نظام ، معاد بطبيعته للسياسات والمصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، أما النظام السياسي السعودي، الذي ارتبط منذ تأسيسه في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، داخليا بالمذهب الوهابي، وخارجيا بالولايات المتحدة، فهو نظام تقليدي بطبيعته ومتحالف مع الولايات المتحدة ومدافع عن مصالحها في المنطقة. ولأن كلا النظامين يتطلعان لزعامة عالم إسلامي تدعي إيران أنها تريده ثوريا ومقاوما للمشروع الأمريكي الصهيوني للهيمنة على المنطقة، بينما تريده السعودية عالما تابعا وحليفا للولايات المتحدة، فمن الطبيعي أن تتناقض مصالحهما وسياساتهما على الصعيدين العالمي والإقليمي.
في سياق كهذا، وفي ضوء خبرة تاريخية مستمدة من تطور العلاقات السعودية الإيرانية منذ اندلاع ثورة إيران الإسلامية وحتى الآن، يمكن فهم طبيعة الأهداف التي تسعى المملكة العربية السعودية لتحقيقها من وراء عقد هذه القمم الثلاث في مكة بالذات، وفي هذا التوقيت بالذات.
فمن المعروف أن السعودية، التي ربطتها علاقات حميمة بنظام الشاه، لم تكن تشعر بأي ارتياح تجاه الثورة الإيرانية، وسعت لإجهاضها بكل الوسائل المتاحة لديها. ولأنها أدركت أن موازين القوة بين البلدين لا تسمح لها بتحقيق هذا الهدف منفردة، اعتمدت على الآخرين ممن يشاركونها الهدف نفسه، وهو ما يفسر قيامها بتشجيع صدام حسين لشن الحرب على إيران عام 1980 وبتقديم دعم مادي سخي له طوال تلك الحرب، التي استمرت ثماني سنوات كاملة. غير أن هذه السياسة لم تكن مصممة في الواقع لخدمة أهداف سعودية أو عربية خالصة، بقدر ما كانت مصممة لخدمة أهداف ومصالح الولايات المتحدة، التي كانت تسعى لاستنزاف وإضعاف كل من إيران والعراق، وترى فيهما معا خطرا كبيرا محتملا على إسرائيل. وحين انتهت الحرب بانتصار نسبي للعراق، شاركت السعودية جهودا أمريكية استهدفت حصار العراق وإضعافه عقب الحرب، الأمر الذي ساهم في استدراجه لغزو الكويت، وانتهى بتدميره واحتلاله في نهاية المطاف. المثير للتأمل هنا أن السعودية، التي تصورت أن إسقاط صدام يخلصها من عدو تاريخي يرفع شعار القومية العربية، لم تنتبه إلا متأخرا لحقيقة أن تدمير العراق أسقط خط الدفاع الأول في مواجهة إيران، وحول العراق إلى ساحة خالصة لنفوذها وإلى معمل لتفريخ الإرهاب في الوقت نفسه.
حين وجدت السعودية نفسها وحيدة على خط المواجهة مع إيران، وجدناها تعود لتتبنى كالمعتاد سياسات تجعلها في حالة هروب دائم إلى الأمام. فبدلا من العمل على إعادة ترميم النظام العربي، وتقوية سياساته الدفاعية في مواجهة إيران، راحت تراهن مرة أخرى على الولايات المتحدة وتعتمد عليها في حماية أمنها، الأمر الذي قادها للارتماء في أحضان إسرائيل في النهاية. وفي سياق هذا التوجه المعتاد من السعودية، يمكن فهم الأسباب التي دفعتها لرفض وإجهاض كافة المبادرات التي استهدفت دعم العمل العربي المشترك، بدءا بإعلان دمشق عام 1991 وانتهاء بالاقتراح الذي تقدم به السيسي عام 2014 لتشكيل قوة عربية مشتركة تتولى حماية الأمن في المنطقة، كما يمكن فهم الأسباب التي دفعتها للتدخل لإجهاض ثورات الربيع العربي، التي وصلت إلى حد إعلان الحرب على اليمن، بدعوى حماية الشرعية والقضاء على ميليشيات حوثية مدعومة إيرانيا، وهي السياسات التي قادتها في النهاية للتنسيق الأمني مع إسرائيل، بدعوى مواجهة «الخطر الإيراني المشترك»، التي تستغلها الولايات المتحدة حاليا لتمرير «صفقة القرن» التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، بتحويلها إلى قضية إنسانية تتطلب حلولا اقتصادية وليست سياسية.
يوحي هذا السياق لتطور العلاقات الإيرانية السعودية بأن الهدف الحقيقي من عقد القمم الثلاث في مكة هو الحصول على غطاء سياسي يسمح بتبرير الحرب على إيران، أو على الأقل مواصلة الضغط عليها، عبر الحصار الاقتصادي والحشود العسكرية، إلى أن تستسلم لمجمل المطالب الأمريكية. غير أن تحقيق هذا الهدف دونه عقبات كثيرة: 1- مجلس التعاون الخليجي منقسم على نفسه بسبب الحصار المفروض على دولة قطر من جانب كل من السعودية والبحرين، وبمشاركة مصرية، وبسبب تبني سلطنة عمان ودولة الكويت وإمارة قطر نهجا إزاء إيران، يختلف عن النهج الذي تتبناه السعودية والإمارات والبحرين. 2- جامعة الدول العربية تبدو اليوم في أضعف حالاتها، فمعظم دولها مشغولة بقضاياها وأوضاعها الداخلية، ولأن الأوضاع الداخلية لن تسمح لدول مثل العراق أو لبنان، إضافة إلى دول مجلس التعاون الخليجي الثلاث السابق ذكرها، بأي تصعيد في مواجهة إيران. 3- منظمة التعاون الإسلامي ليست في وضع يسمح لها بتبني موقف متشدد إزاء إيران، خصوصا أنه يتوقع أن تشهد القمة الإسلامية تنسيقا قويا بين إيران وتركيا لإجهاض المناورات السعودية.
في جميع الأحوال، وحتى بافتراض أن تتمكن السعودية من حمل هذه القمم الثلاث على إصدار بيانات شجب وتنديد بالسياسات الإيرانية، فلن يكون لهذه البيانات أي تأثير على مسار الصراع. فقرار توجيه ضربة عسكرية سيكون في النهاية قرارا أمريكيا إسرائيليا مشتركا، وليس قرارا عربيا خالصا، أو يسمح للعرب بالمشاركة في اتخاذه، وبالتالي سيخدم مصالح أمريكية وليس مصالح عربية. أما إذا كان القرار سينتهي إلى رفض توجيه مثل هذه الضربة، فسيكون أيضا قرارا أمريكيا خالصا، ولن يكون له سوى معنى واحد وهو فشل إسرائيل في جر إدارة ترامب إلى حرب مع إيران بسبب حسابات أمريكية خالصة تتعلق بالمكاسب والخسائر المتوقعة، خصوصا أن أسلوب الحرب الخاطفة لن ينجح مع إيران التي تستطيع في جميع الحالات خوض حرب استنزاف طويلة المدى ليس فقط ضد المصالح الأمريكية والإسرائيلية، وإنما أيضا ضد مصالح حلفائهما في المنطقة.
لكل ما تقدم، نأمل أن تستفيق السعودية وأن تنتهز فرصة انعقاد هذه المؤتمرات الثلاث لتوفير مناخ ملائم لعقد مصالحات تسمح بإعادة بناء النظامين الخليجي والعربي على أسس أكثر صلابة، ولبناء عمق إسلامي داعم للجهود الرامية لنزع فتيل الصراعات المحتدمة في المنطقة، ولإعادة تأكيد العالم العربي على أن القضية الفلسطينية ما تزال هي قضيته الأولى، وأن الدول العربية ما تزال موحدة الإرادة ومصممة على تسوية سياسية بالشروط الموضحة في المبادرة التي تبنتها قمة بيروت العربية عام 2002، وهي: انسحاب إسرائيل من كافة الأراضي العربية المحتلة عام 67، بما فيها الجولان والقدس الشرقية، وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، في مقابل اعتراف الدول العربية بدولة إسرائيل في حدود 67، وإبداء الاستعداد لإقامة علاقات دبلوماسية معها بعد إتمام عملية الانسحاب من كافة الأراضي العربية المحتلة، ووفقا للقواعد المقررة في القانون الدولي.
قد يبدو هذا الأمل حلما بعيد المنال لكنه، في تقديري، هو الطريق الوحيد الملائم لإخراج العالم العربي من أزماته الراهنة.
المصدر: القدس العربي