عبد الحليم قنديل
في أول أيام عيد الفطر الأخير، كان حزن المصريين سابغا، بسبب هجوم إرهابي خسيس على نقطة تفتيش شرطية، حول «العريش» في أقصى شمال شرق سيناء، وفي أيام تالية، أقام المصريون فرحا غير مسبوق في محبة السوريين على شبكة الإنترنت، وكان هاشتاج (السوريين منورين مصر) هو الأكثر تداولا ومشاركة من الشباب المصري، وبروح من الولع الغامر الساحر، وبدت الظاهرة مفاجئة لمراقبين من خارج مصر، ولم تستطع تجاهلها منابر إعلام كارهة لمصر لأسباب معلومة، وفوجئ السوريون المقيمون في مصر بنوبة فرح ومهرجان «معايدة» المصريين، وصرخت الفنانة السورية كندة علوش من شدة الفرح، وهي مقيمة في القاهرة ومتزوجة من فنان مصري، وردت التحية بأحسن منها، وأطلقت هاشتاج (# المصريين_منورين_الدنيا).
ولا أحد يعرف حجم محبة المصريين للسوريين إلا إذا كان مصريا، ولا عمق محبة السوريين للمصريين إلا إذا كان سوريا، ودعك هنا من اختلاف أو اتفاق وتعاقب الأنظمة السياسية في مصر أو في سوريا، فكلها طوارئ وحوادث عرضية، مثلها مثل سخافات قد تصدر من شخص هنا أو هناك، على طريقة ما تورط فيه محام مصري باحث عن الشهرة، بأي ثمن أو وسيلة، وحتى لو كانت صادمة لشعور الرأي العام المصري، وكان هاشتاج محبة المصريين للسوريين ردا فوريا وبليغا، استبق صمت النائب العام المصري على بلاغ المحامي المتلهف لصناعة خبر مثير، عبر تقدمه ببلاغ يطلب فيه الكشف عما سماه «مصادر» ثروة السوريين المقيمين في مصر، وبدا الكلام الغريب ثقيلا على أسماع المصريين، وداعيا للتبرؤ التلقائي من وزره، فشعور المصريين الجماعي ـ تجاه السوريين المقيمين ـ في مكان آخر، معاكس بالضبط لتفوهات المحامي العجيب، فلا يكاد يوجد بيت مصري واحد له احتكاك ما بالسوريين، ومن أي طبقة اجتماعية، غنية كانت أو متوسطة أو فقيرة، لا تكال فيه قصائد المديح والإعجاب بنشاط السوريين الاقتصادي في مصر، بالذات في مجالات المأكولات والمطاعم ومعامل الغزل والنسيج، حتى أصبح السوريون علامة جودة وافتخار، ولا تكاد تسمع من المصريين سوى إشادات لا تنتهي بذكاء وحيوية ودأب وذوق السوريين، وهو ما بدت علاماته ظاهرة جدا في السنوات الأخيرة، فأشهر وأكبر شركة مصرية للملابس الداخلية، يملكها رجل أعمال سوري، ومحلات ومطاعم مصرية كثيرة، باتت تفضل أن تحمل أسماء ذات نفس سوري أو شامي عموما، حتى لو لم يكن يعمل فيها سوري واحد، فضلا عن الإقبال العفوي الهائل من المصريين على المطاعم السورية في مصر.
وفي مصر اليوم نحو نصف مليون سوري، لجأوا إليها هربا من الحرب الكافرة الدائرة في سوريا، لا يقيم أحد منهم في مخيم لجوء، لا سمح الله، فليس في مصر مخيمات لجوء، ولا تجمعات عشوائية للاجئين من أي جنسية، وفي مصر ذات المئة مليون مصري وأكثر، نحو ثمانية ملايين مقيم من غير المصريين، يلاقون ما يلاقيه المصريون من وجوه عناية أو عنت، كل بحسب طبقته الاجتماعية، ولا يكاد يحس أحد أو يلتفت لاختلافات الألوان والأعراق، فليس في مصر شعور عرقي من أي نوع، وإن وجدت مشاعر عنصرية أحيانا، فهي دائما على الهامش، وفي زوايا النسيان والازدراء، فما بالك بالشعور المرحب الفياض تجاه السوريين بالذات، وهو يفوق شعور المحبة الفطرية، وأقرب إلى امتزاج بشري كامل الأوصاف، فالسوري المقيم في مصر، لا يحس فقط بأنها بلده الثاني، بل يشعر بأن مصر بلده الأول، تماما كما لو كان مقيما لا يزال في سوريا الحبيبة، وحتى لو وجدت استثناءات نادرة توحي بالعكس، فهى دائما مجرد استثناء على قاعدة الامتزاج المصري السوري، وهو الشعور ذاته الذي تنتهى إليه كل تجارب المصريين، الذين زاروا سوريا، أو أقاموا فيها لوقت قصر أو طال، فلا يكاد يوجد شعب عربي أكثر حفاوة وولعا بالمصريين من الشعب السوري.
ليس القصد هنا، أن نؤكد على محبة المصريين والسوريين المتبادلة، فهذا تأكيد للمؤكد بطبائع الأمور، نتحدث هنا عن الشعور الشعبي، لا عن ممارسات الأنظمة واعتبارات أجهزة الأمن، ولا عن حملات إعلام ملوث، فيد الله ويد التاريخ هي التي جمعت قلوب المصريين بالسوريين إلى أن يرث الله الأرض، وسوريا التي نقصدها هنا، ليست فقط سوريا الحالية، ولا الشام الذي صار معناه مقصورا على دمشق وما حولها، بل نقصد الشام بمعناه الأوسع، وسوريا بمعناها التاريخي، الذي يضم إلى جوار سوريا الراهنة، دولا وأقطارا أخرى فصلتها يد الاستعمار، كلبنان والأردن وفلسطين المحتلة، وهي منطقة الجوار المباشر إلى شرق الوجود المصري، كشعب ودولة عمرها سبعة آلاف سنة، ففي مصر ولد فجر الضمير الإنساني، ووجدت أقدم دولة وحضارة في التاريخ، وكان الخطر الأكبر دائما عليها يأتي من جهة الشرق، وكان اجتياح الشام يؤذن دائما ويهدد باجتياح مصر، وهو ما كون عقيدة أمن راسخة عند المصريين، فمصر دائما في خطر، إن كان الشام كذلك، وهو ما يفسر طبيعة جغرافيا المعارك الوجودية الكبرى في حياة المصريين، فقد دارت كلها إلى الشرق، وفى منطقة الشام وسوريا التاريخية بالذات، وفى كل عصور ومعارك مصر، من «مجدو» تحتمس إلى «قادش» رمسيس، ومن «عين جالوت» قطز إلى «حطين» صلاح الدين الأيوبي، ومن معارك إبراهيم باشا «ساري عسكر عربستان» ـ أي أمير عام الجيوش العربية ـ إلى معارك جمال عبد الناصر، وإلى حرب أكتوبر 1973 بالقيادة العسكرية المشتركة المصرية السورية، ورغم كل ما مر بمصر والمنطقة بعدها من فصول هوان متصل إلى اليوم، فلم تختف أبدا المظاهر الرمزية الموحية بما كان، ففي توزيع تشكيلات الجيش المصري إلى الآن، تلحظ تسميات الجيشين «الثاني» و»الثالث» في سيناء، ولا تجد تشكيلا في الجيش المصري يحمل اسم «الجيش الأول»، فالتسمية لا تزال محجوزة للجيش السوري، وهو «الجيش الأول» في عقيدة العسكرية المصرية، ومنذ زمن الوحدة المصرية ـ السورية تحت قيادة جمال عبد الناصر، رغم أن الانفصال جرى قبل نحو الستين سنة، وهو عدد كبير من السنوات في الظاهر، لكنه قد لا يعني شيئا عند شعب هائل التاريخ كالشعب المصري أو الشعب السوري بمعناه الأوسع، فلم تدم وحدة مصر وسوريا تحت قيادة جمال عبد الناصر، ولم تستمر تجربة الجمهورية العربية المتحدة سوى ثلاث سنوات ونصف السنة، كانت فيها سوريا مهد القومية العربية الحديثة، تحتفي بجمال عبد الناصر المصري على نحو أسطوري غير مسبوق ولا ملحوق، وكان زحف السوريين المليوني لحمل سيارة عبد الناصر، وهو مشهد لم يتكرر مثله، سوى مع رحيل عبد الناصرالمفاجئ، وجنازاته التي عمت الدنيا العربية كلها، وكانت الأضخم عددا وكثافة وتلقائية في كل التاريخ الإنساني، فلم تكن الوحدة المصرية السورية المعاصرة قصيرة العمر حدثا عابرا، ولا هي مقصورة على الثلاث سنوات ونصف السنة، منذ أن قامت في 22 فبراير 1958، وإلى أن نجحت مؤامرة الانفصال في 28 سبتمبر 1961.
وفي اليوم ذاته الذي رحل عنده عبد الناصر بعدها بتسع سنوات، كانت دراما التاريخ تصل إلى أعلى ذراها، فلم تكن الوحدة الموؤدة عملا من باب المصادفات، أو استطرادا لجريان الحوادث، بل استعادة لقانون وجود وحركة، صنعته مئات السنين التي سبقت، فقد لا يعلم كثيرون، أن مصر وسوريا التاريخية الكبرى، كانتا ولاية وكيانا سياسيا واحدا لنحو 650 سنة متصلة في زمن عصور الخلافة الإسلامية، منذ حكم أحمد بن طولون في القاهرة، وإلى لحظة الغزو العثماني لسوريا ومصر معا، بدءا بمعركة «مرج دابق» شمال سوريا الآن، قبل وحدة الستمئة والخمسين سنة، كانت مصر ولاية منفصلة عن ولاية سوريا، وفي زمن الوحدة طويلة الأمد، وبفضلها، كسبت مصر أهم معارك التاريخ الإسلامي ضد غزوات التتار والصليبيين، وجاء الغزو العثماني ليفصل مصر مجددا عن سوريا، وإلى أن شاءت الأقدار أن تسترد مصر استقلالها النسبى عن حكم العثمانيين المباشر في الآستانة (إسطنبول حاليا)، كانت مصر قد ضعفت إلى حد مفزع تحت الحكم العثماني، وكانت لقمة سائغة للأتراك وجماعات المماليك، ثم كانت أولى محطات الغزو الاستعماري الأوروبي للمنطقة العربية، وزحفت إليها حملة نابليون بونابرت عام 1798، وكان الغزو الفرنسي لمصر، تمهيدا لخطة احتلال تشمل سوريا الكبرى، وكشفت وثائق الحملة الفرنسية عن نية مبكرة لإقامة دولة يهودية في فلسطين، وقطع الشعب المصري وقتها الطريق على الخطة كلها، وهزمت الحملة الفرنسية في ثلاث سنوات، رفض المصريون بعدها قرار الآستانة تنصيب وال عثماني جديد، وفضلوا اختيار محمد علي «الألباني» حاكما لمصر، وسرعان ما تمصرت طموحات محمد علي، وأنشأ جيشا من الفلاحين المصريين لأول مرة منذ عصور بعيدة، وجعل قيادته لابنه إبراهيم باشا، كان جيشا حديثا متفوقا بمعايير زمانه، فاق في قوته جيوش العثمانيين جميعا، وتوالت حملاته في الشام، وعبر الحدود التركية إلى حد الاقتراب من «الآستانة»، وتحالفت ضده جيوش أوروبا الاستعمارية مع الخلافة التركية المريضة، وأجبروا محمد علي على توقيع اتفاقية لندن سنة 1840، التي عاد بموجبها الجيش المصري إلى داخل حدود مصر.
وفي طريق العودة، تخلف جنود وضباط مصريون، واتخذوا من مدن وقرى الشام الواسع سكنا لهم، وهو ما يفسر ألقاب «المصري» التي ينتهى إليها نسب عائلات كبرى في سوريا والأردن وفلسطين ولبنان اليوم، وتسمية النقود «مصاري» في اللهجة الشامية، وبعد رحيل محمد علي وخلفيه إسماعيل وسعيد من بعده، وقعت مصر فريسة لاحتلال بريطاني امتد حتى سنة 1954، لم ينقطع خلالها وفود السوريين الحديث الأول إلى مصر المستقلة اسميا عن الخلافة العثمانية، وامتزج السوريون والشوام عموما بالمصريين، وصاروا عنصرا أصيلا مؤثرا في الفن والصحافة والاقتصاد المصري، وظهرت مئات الأسماء الشامية المتمصرة، وأسس الشوام المصريون دور النشر والصحف المصرية الكبرى، من «الأهرام» إلى «دار الهلال» و»روز اليوسف» و»دار المعارف»، المستمرة إلى الآن، فضلا عن عشرات الصحف والمجلات التي ظهرت وتوقفت، وكانت من كل ألوان الطيف الفكري والسياسي، بينها «المقطم» و»المقتطف» و»الأهالى» و»منار» رشيد رضا وغيرها كثير، ناهيك من نجوم المسرح والغناء والتمثيل المصري من أصول شامية، وهي أسماء كثيرة تستعصي على الحصر، من فرقة سليم نقاش المسرحية إلى جورج أبيض ودولت أبيض وعزيز عيد ونجيب الريحاني وعبد السلام النابلسي، ومن أسمهان وفريد الأطرش وصباح وفايزة أحمد ونجاح سلام، إلى أصالة وجمال سليمان وكندة علوش ورغدة وسوزان نجم الدين الآن، ولا فرصة هنا لحصر الأسماء، فمجرد ذكرها يحتاج إلى مجلدات، تروى سيرة امتزاج ومحبة المصريين والسوريين.
المصدر: القدس العربي