محمود الوهب
لنفترض الآن أن الحرب في سورية انتهت، وحلَّ السلم في ربوعها، وأفسح في المجال لعودة السوريين إلى ديارهم، ما الصورة التي سوف يكون عليها السوريون؟ وما حال سورية وطناً؟ هل ستكون على ما تُركت عليه؟ حصلت أمور كثيرة، وحدثت تغيراتٌ كبرى، لا في البناء والأشياء فحسب، بل في رؤى الناس، وأهوائهم، ومشاعرهم، فالحروب وحدها، فيما يبدو، تمنح الإنسان أفقاً آخر وقيماً جديدة، قد تنفي القديمة أو تخلخل في بنائها.. وبإيجاز، يمكن طرح السؤال: هل ستكون الهوية السورية المحفوظة في الذاكرة باقيةً على حالها، أم أنَّ أمراً ما من التبدّل أو التحول قد أصابها؟ وهل ثمّة إمكانية لإعادتها إلى وضعها السابق بشيء من الترميم؟
في خريف العام 2010، زار مدينة حلب وزير الدفاع السوري السابق، ورئيس الأركان فيما بعد، العماد حسن تركماني.. كان غرض الزيارة، آنذاك، إلقاء محاضرةٍ عن العلاقات السورية التركية في مديرية الثقافة في حلب، مساهمة منه في توطيد تلك العلاقة التي كان يشرف على ملفها، ولم تكن العلاقة بحاجةٍ إلى تدعيم أكثر، بل يمكن القول إنَّ سورية وتركيا كانتا سياسياً “سمناً على عسل..” والسياسة تعكس الفعل الاقتصادي المتزايد بين الطرفين، فالمستثمرون الأتراك بالمئات، وشركات إنشائية كثيرة تنفِّذ عقوداً لدى القطاع العام السوري في الزراعة وغيرها بنجاح تام.. والحقيقة أن العلاقة مع تركيا كانت قد أخذت بعد اتفاقية أضنة عام 1998 في التوسّع، ثم مع وساطة تركيا بين سورية وإسرائيل، وما عمّق ذلك حادثة سفينة التضامن مرمرة مع أهالي غزة، وعلى متنها أتراك وسوريون وعرب آخرون… لكن محاضرة الوزير السابق جاءت في جوهرها لجلاء بعض ما كان عالقاً في الأذهان من بقايا إيديولوجيات قومية/ ماركسية أسقطتها المتغيرات الدولية في عقد التسعينيات من القرن الماضي (سقوط الاتحاد السوفييتي المدوي)، إذ أشار المحاضر إلى أن الرأسمالية قد انتصرت، ولا بد من مسايرة رياحها!
في الصالة، كان واحد من قيادات الصف الثاني لحزبٍ من أحزاب الجبهة الوطنية التقدّمية يحوم حاملاً كتاباً له، يؤكد تلك العلاقات ويباركها، إذ صدَّر صفحته الثالثة بصورة تجمع كلاً من رجب طيب أردوغان، وبشار الأسد، وعبد الله غُل، وعبارة تحتها تقول: “هؤلاء الأبطال يصنعون الحياة الجديدة..” ويأتي العام 2011 وتختلف نوايا النظام السوري، إذ تميل كفته باتجاه أطراف إقليمية أخرى، ويميل هوى بشار الأسد، وجبهته التقدمية، وموالاتهما عكس مطالب الشعب، فيتوغل الجيش السوري في جسر الشغور وعدد من قرى ريف إدلب، وتفتح تركيا حدودها أمام السوريين، ليحتضنهم المجتمع التركي بكل ما يرمز إليه حسن الجوار من معانٍ إنسانية، وتتزايد أعداد المهاجرين السوريين مع احتدام المعارك، واشتداد القبضة الأمنية داخل سورية، ليتوطن هؤلاء السوريون خلال سنوات قليلة الشريط الحدودي من كلس إلى ماردين.. وبأعداد وصلت إلى ما نسبته 20% من عدد سكان تركيا في تلك المدن. وفي يوليو/ تموز من العام 2012 يقدِّم النظام العماد حسن تركماني، وقادة آخرين، قرابين لآرائهم .
وإذا كان نحو ثلاثة ملايين سوري قد شكّلوا حزام أمن سلمي لتركيا، اعترافاً منهم بجميل تركيا، فعلى الطرف الآخر من الخريطة السورية، وخصوصا في الجنوب (حول دمشق) وفي الشرق (قرب الحدود العراقية) قد تنامى الوجود الإيراني، ولقي تعاطفاً من سوريين آخرين هواهم مختلف.. فمنذ جمعية المرتضى التي أسسها جميل الأسد، شقيق حافظ الأسد، وامتد نشاطها التشييعي إلى بعض العشائر، بعد أن كانت قد شيَّعت عائلات فقيرة في ريفي اللاذقية وطرطوس.. وتجد اليوم في المناطق المذكورة أنشطة إيرانية عبر مستشاريَّات ثقافية تغلِّف “الثقافة” بطابع شيعي، وشعارات يفرضها الولي الفقيه.. وتسهيلاً لهذا الأمر، تساهم السلطة السورية، لقاء مساعدتها في حربها ضد شعبها، بتقديم العون للإيرانيين، فتنزع ملكية الأوقاف للقبور والمقامات التي ينسبها أئمة الشيعة لآل البيت لتمنحها لهم، إضافة إلى بعض الأملاك الخاصة التي يملكها مواطنون سوريون. كما أُعطيت إيران عقارات وأراضي زراعية استملكت من أصحابها بمبالغ تافهة، لترتفع فوقها حسينيات وحوزات دينية تزايد عددها فغدت بالعشرات، إن لم أقل بالمئات.. فقد أنشئت، إضافة إلى ريف دمشق والرقة ودير الزور في ريف حلب الشمالي الغربي، وفي ريف حمص كالمختارية وأم العمد والكاظمية والدلبوز.. وفي دير الزور، تشيّع عدد كبير من سكان قرية الحطة (نحو ألف نسمة) ينتمون إلى عشيرة البكارة/ فخذ البوبدران، إضافة إلى قرى الصغير، الكسرة، الصورة، المو حسن مقابل راتب شهري نحو خمسة آلاف ليرة سورية، وكسوتين للشتاء والصيف ومؤونة موسمية، ومواد غذائية أساسية (رز، سكر، زيت، سمن.. إلخ).
أمَّا تآكل الهوية السورية، أو تفتتها الذي يأتي من الميول السياسية والولاءات الكثيرة الموزّعة بين المتدخلين الكبار، كالروس والأميركان الذين كسبوا موالين لهم، على نحو خاص، من بين العسكر والمشتغلين في الأحزاب السياسية والجيش والمليشيات، والفصائل المختلفة، وكذلك من الأقوام والأديان والطوائف المختلفة. ناهيكم بالعمل المخابراتي القادم عبر المنظمات الداعمة، والتابعة لهذه الدولة أو تلك! حتى إسرائيل لم تعجز عن إيجاد من يخدمها، أو يراها أرحم ممن يقاتله على هذه الجبهة أو تلك، كما يرى فيها نظاماً ديمقراطياً تفتقر إليه بلده ومعظم البلدان العربية.
الأخطر من ذلك كله في تمزيق الهوية السورية لعله يكمن في الشروخ العميقة التي أحدثت في النفوس والأرواح، وجعلت كل طيفٍ سوري ينظر، جرَّاء حوادث القتل والاغتصاب ومرارة السجون والمعتقلات، ونشر ثقافة الفرقة والكراهية.. إلى الآخر عدواً لدوداً! ومن هنا، لم تعد المسألة تتعلق بعدم فاعلية السوريين، نظاماً ومعارضة، فيما يُخطط لهم اليوم فحسب، بل غدت المسألة على الأرض أعمق، إذ طاولت الهويَّة السورية تآكلاً وتفتتاً.. وما مردُّ ذلك كلِّه إلا إلى نقطة البدء، أي إلى النظام الذي أبى أن يكون له شريكٌ في إدارة شأن الوطن الذي حسبه مزرعة. ومن هنا استكباره على الجميع تحت شعار: “الأسد أو لا أحد..”.
إذا كانت عصابة “داعش” قد انتهت اليوم، بتطرّفها وتخلفها، وهي في الأصل عدو وهمي، ما جاء إلا بفعل فاعلٍ لإيقاف المد الشعبي الشبابي الذي انتفض من عمق الموت والقهر، متأثراً بـ”الربيع العربي” لمقاومة إرهاب الدولة وتخلفه وفساده، فإن بقاء النظام هو استمرار لإتمام تآكل الهوية السورية. وإذا كان ثمّة مسعىً لإعادتها، فلا بد من استبداله بآلياته وأدواته كافة، للعمل وفق عقد اجتماعي جديد، يعيد لمّ شمل السوريين على أسسٍ تكفل مواطنة فعلية مرجعها الإنسان، وفي وطنٍ يقول التاريخ: إنه الوطن الأصلي لكل إنسان، بحسب أندريه بارو عالم الآثار الفرنسي المتخصص في الشرق الأدنى القديم، والمشرف على حفريات في لبنان والعراق وسورية!
المصدر: العربي الجديد