د_ زكريا ملاحفجي
كلنا يعرف القوة الصلبة التي تملكها الدول عبر الجيوش والترسانة العسكرية وحجمها وقدرتها، لكن بالموازي للقوة الصلبة هناك قوة ناعمة أو قوة ذكية وهي أعمق أثراً وجاذبية ويندر مواجهتها وهي تعتبر من القوى الحضارية الهادئة الذكية والعميقة الأثر، والقوة الناعمة والقوة الصلبة تعتبر وسيلتان في الصراع الإنساني حيث تسلك ذلك بعض الدول للوصول إلى الهدف المنشود لها وتكون استراتيجية مهمة، والقيادة الناجحة الذكية تسعى لامتلاك كلتا القوتين.
النظرية الواقعية التي تتمثل بدرجة قوة الدولة وهيمنتها عبر ترسانتها العسكرية، من هنا كانت القوة الناعمة ممثلة في النظرية الليبرالية التي تدعو إلى السلم والأمن من خلال التكامل الاقتصادي ونشر قيم الديمقراطية والعدالة.
والقوة الناعمة هي القدرة في الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية وليس الإرغام، الترغيب والاقناع وليس الترهيب، نحن بحاجة لأن نكون مهابين، لكننا أحوج أن نكون محبوبين وجاذبين ومقنعين بأهدافنا ومشاريعنا. ترتكز القوة الناعمة على القيم والسلوك والأخلاق، وهي القوة الجاذبة لاسيما أمام الغطرسة والتوحش.
وفي فن القيادة هناك قائد محبوب وقائد مرهوب، وهناك من يجمع بين الأمرين وهذه صفة عظيمة قلّ من يتمتع بها.
قبل أربعة قرون نصح نيقولا ميكافلي (أحد أبرز منظري مدارس التحليل السياسي) أن يكون الأمير مرهوباً أهم من كونه محبوباً. لكن في عالم اليوم نحن بحاجة للصفتين معاً.
وفي الصراع الإنساني عندما تتمكن من جعل الآخرين يعجبون بمُثلِك ويريدون ما تريد فإنك لن تضطر إلى الانفاق كثيراً على العصي والجزرات أي على الإرغام والإغراء، أو على الإغواء والإغراء.
خلال فترة الحرب الباردة استخدمت الولايات المتحدة المعونات الأجنبية بشكل أكبر مع الدول التي تتعاون معها من أجل الدفاع عن مجالها ، فقد استطاعت من خلال القوة الناعمة إسقاط الاتحاد السوفيتي عبر الغزو الفكري والثقافي داخل مناطق نفوذ الاتحاد السوفيتي، و أصبحت المساعدات وسيلة في السياسة الخارجية للبلدان القوية و المتوسطة، وأصبح ارتداد استعمال القوة الصلبة كارثي، وكما ذكر جوزيف ناي مساعد وزير الدفاع الأمريكي عن آثار استعمال القوة الصلبة والارتدادات في أعقاب الحرب الأمريكية على العراق في عام 2003 م و كما تحدث غير واحد من المسؤولين الأمريكيين وكذلك مراكز الدراسات حيث أظهر استطلاع رأي أجراه مركز بيو للبحوث هبوطاً مفاجئاً حاداً في شعبية الولايات المتحدة الأمريكية بالمقارنة مع الحالة قبل ذلك بعام، حتى في بلدان حليفة للولايات المتحدة مثل اسبانيا وايطاليا
كما هبطت مكانة أمريكا هبوطاً عمودياً في البلدان الإسلامية من المغرب لتركيا إلى جنوب شرق آسيا.
وكما أن القوة الناعمة هي أقل تكلفة وأعظم نتائج لكنها تحتاج الصبر الاستراتيجي والعقل الاستراتيجي والنظرة الثاقبة والتغلب على التعامل بمفهوم الثأر والتشفي فنجاح الهدف عموماً أهم من بعض التفاصيل الفرعية.
وإذا عرفنا القوة بأنها القدرة على التأثير في أسلوب الآخرين لجعل تلك الأشياء تحدث. يبقى هناك طرق عديدة للتأثير في سلوك الآخرين، فإيمان الناس بمشروعية الهدف واقتناعهم بذلك يكسبك تأثيراً عريضاً وعميقاً. والملاحظ في تركيا لاسيما في الخمسة عشرة سنة الأخيرة كان هناك تحول في صنع السياسة الخارجية لتركيا، حيث استطاعت شق طريقها من خلال الاعتماد على عدد من الأدوات مثل المساعدات الخارجية والدبلوماسية الإنسانية والوساطة في الدول الإفريقية والشرق الأوسط والانفتاح التجاري وزيادة البعثات الدبلوماسية والمنح للطلاب الأجانب الذين يرجعون لبلدانهم بلغة تركية وقيم وأفكار إيجابية خلال الدراسة وتسهيلها.
المؤسسات غير الحكومية التركية كان لها دور بارز في المساعدة عبر الإغاثة والوجود في عدد من الدول الافريقية والآسيوية وحتى بعض الدول الأوربية، فحسب تقرير دول التعاون الاقتصادي OECD تأتي تركيا في المركز السادس عالمياً إلا أنها حلّت في المركز الأول مقارنة مع إجمالي الناتج المحلي. وحسب تقرير المساعدات الإنسانية العالمية فإن تركيا قدمت 6 مليار وجاءت في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية التي قدمت 6.3 مليار، وهذا يعبر عن الدور الذي تسعى تركيا إليه في الشرق الأوسط والعالم من خلال القوة الناعمة لاسيما أنها وريثة امبراطورية كبيرة، لاسيما الجغرافية التي كان لها وجود فيها تاريخياً، حيث يسهل الوجود والتفاعل من خلال القوة الناعمة والقوة الذكية.
في العقدين الأخيرين كان للإعلام التركي دور في الانتشار لاسيما في الأوساط العربية والإسلامية وكان الإعلام طريقة مسلية لإيصال رسائل وتفاعل مهم، فقلما تجد شخصاً عربياً لا يتابع مسلساً تركياً أو أخبارًا تركية ، وإتقان عدد من الأتراك للكثير من اللغات ومنها العربية وتجنيس بعض العرب من ذوي المهارات أيضاً ساعد في نقل الصورة والظهور على شاشات مختلفة بلغات مختلفة لم يكن ليتوفر من قبل، فتعبر عن تركيا ومواقفها وأهدافها عبر أشخاص يحملون الهوية التركية وينتمون لمجتمعات متعددة ومختلفة فكانوا قنوات مهمة لمجتمعاتهم تحمل القيم التركية ورسائلها، وقد استطاعت إلغاء القطيعة وتحقيق الانفتاح والتقدم والاندماج.
إن المساعدات الإنسانية تتحول إلى مصالح واقعية مع الزمن، وقد رأينا يوم انخفاض الليرة التركية الحاد كيف كان التفاعل الدولي وشعوب المنطقة، وهذا يعبر عن دول القوة الناعمة والقوة الذكية في التأثير والنفوذ الذي ينعكس إيجاباً على سياسة الدولة الخارجية وعلى مصالحها وتنميتها المستمرة.
المصدر: صحيفة اشراق