جهاد عدلة
إمام أوغلو خاطب أردوغان، قائلا: “أنا مستعد للعمل معك بتناغم، وأنا أضع نفسي في جهوزية لذلك أمام سكان إسطنبول جميعا”. من باب أن ما يحصل في تركيا يعنينا، بل يمسنا، مباشرة، فنحن مطالبون بمحاولة قراءة ما يحصل، لصوغ وعينا السياسي إزاء هذه التفاعلات، والأمر كذلك: لماذا اختار إمام أوغلو هذا المدخل، بله هذه الاستراتيجية؟! باختصار، لأن الرجل لا يستطيع أن يعمل بمفرده، وهو بحاجة لتوقيع الرئيس لتمرير مشاريعه ووعوده للشارع الإسطنبولي من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن أردوغان يستطيع التحكم “بصنبور” ميزانية بلدية إسطنبول، وعرقلة أداء إمام أوغلو وخططه، وإن كان في هذا المسار مخاطرة تتمثل في احتمال رفع أسهم إمام أوغلو في الشارع التركي. وثمة بعد آخر في استراتيجية أوغلو، وهو الأهم تماما، ذلك أن الرجل يمتلك طموحا سياسيا كبيرا وواضحا، يتعدى كرسي البلدية، حتى لو كانت بحجم مدينة إسطنبول، ظهر جليا في أدائه خلال حملته الانتخابية البلدية وذلك عبر مستويات عدة: أظهر احتراما لأردوغان، وحرص على مخاطبته دائما بعبارة: “رئيسي”، داعيا إياه في كل مرة إلى العمل والتعاون، وفي ذلك محاولة جريئة لترقية حضوره في الساحة السياسية التركية، ورسالة إلى عشاق أردوغان، مكتوبة بلغة العرف التركي الذي يقدر الكبير، ويحترم المقام، ويرفع من أسهم الأدب. ولجأ أوغلو إلى لغة “هادئة”، مبتعدا عن الاستقطاب، وتخفف كثيرا من الخطاب الأيديولوجي، وحرص جدا على تضمين حملته روح “محبة كل مواطن في إسطنبول”. وبالرغم من أنه عَلماني التوجه، وينتمي إلى حزب متطرف في علمانيته، وفي موقفه من الإسلام، فإنه حضر صلاة الغائب على ضحايا الهجوم الإرهابي على مسلمي نيوزيلندا، قبل أكثر من أسبوعين، وقرأ عددا من الآيات القرآنية. المشكلة بالنسبة للفريق الآخر، ليست في قدرات إمام أوغلو الإدارية، وهو خريج إدارة أعمال، ولا في نباهته السياسية وحنكته، بل في وجود مزاج تركي عام، على مستوى الأحزاب السياسية، وكثير من النخب، يرى في إمام أوغلو، القادم من نجاحات إدارية سابقة في بلدية بيليك دوزو، حصان طروادة الذي يمكن أن يخلصهم من “قبضة” أردوغان، وهذا التعبير مستوحى من الروح التي تسري في خطابات أحزاب المعارضة ومثقفيها، ولذلك فإن عند إمام أوغلو التقت متناقضات، واجتمع ألد الأعداء: الأكراد والأتاتوركيون، وشريحة من القوميين والإسلاميين المحسوبين على حزب السعادة، فقط من أجل تظهير الرجل وتضخيمه في مواجهة أردوغان، وإذا سألت أي مواطن تركي: كيف يمكن لحزب الشعوب الديموقراطي الكردي أن يلتقي سياسيا، لو مرحليا، مع نقيضه التام: حزب الشعوب الجمهوري، فليس أمامه إلا إجابة واحدة: العداء لأردوغان. وهناك نغمة غير مريحة في “طنبور” السياسة التركية الداخلية، تتمثل في الخلافات الحادة، ولكن النائمة، بين الإسلاميين أنفسهم، بل داخل تيار حزب العدالة والتنمية نفسه، أبطالها شخصيات كبيرة أمثال أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء السابق، وبابا جان مهندس الاقتصاد التركي في حكومات أردوغان حينما كان على رأس الوزارة، ناهيك عن عبد الله غل، الرئيس السابق، وكل ما يثار عن إمكانية إنشاء تلك الكتلة حزبا سياسيا للدخول إلى حلبة المنافسة. ما حصل في انتخابات الأحد، أكبر بكثير من مجرد انتخابات بلدية، بل من السذاجة التربيت على أكتاف الناس، والقول لهم إن إمام أوغلو لا يعدو أن فاز برئاسة بلدية، وهي سذاجة تشهد عليها المضايقات التي تتعرض لها الليرة التركية، ومحاولة الانقلاب التي شهدتها البلاد في عام ٢٠١٦، وهي كلها آثار لأصابع من خارج الحدود، تريد العبث بنهج رجب طيب أردوغان الذي يسعى إلى منح تركيا قدرا معقولا من الاستقلالية عن مركز القرار الدولي، والتوسع في نفوذ تركيا نحو الشرق الإسلامي، على حامل أيديولوجي، بغض النظر عن الموقف من طريقته ومدى نجاعتها في نظر منتقديه من الإسلاميين. ربما تكون تركيا في مرحلة تحول دقيق وحساس، وربما يمكن استدراك أي آثار محتملة لهذا التحول، لا تحمد عقباها، لكن كيف؟ وما الثمن؟