عبد الرحيم خليفة
الحزن الذي عم السوريين على اختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية، ومواقفهم ومواقعهم من الثورة، في الداخل السوري وبلاد الشتات والغربة، على استشهاد حارس الثورة الأمين عبد الباسط الساروت ليس إلا تعبيرًا عن حاجتهم لبطل يثقون به ويمثل تطلعاتهم وأهدافهم، يشكل رمزًا لهم يتعلقون به، هو منهم، ويشبههم في عفويتهم وصدقهم في مواجهة نظام قاتل ومجرم، سلبهم حقوقهم سابقًا، ومارس كل صنوف القهر والإذلال لاحقًا، وجرب بهم كل صنوف القتل والإبادة، واختبر معهم كل أشكال الموت وأنواعه.
يختزل استشهاد الساروت ومسيرته في سنوات الثورة حكاية شعب وثورة، فهو نازح من وطنه الصغير الذي تخلى عنه نظام “المقاومة والممانعة”، ومن الطبقات الشعبية التي لم يعرها النظام أي عناية واهتمام، رغم أنه كان يحكم باسمها وينطق بالتعبير عنها، كما يدعي. لم يتلق تعليمًا عاليًا وتخصصيًا، عاش وتربى في منطقة طالها الحرمان والتهميش، وهي ذات المواصفات التي تنطبق على البيئة التي انطلقت منها الثورة، ومن ثم عموم المناطق التي شملتها، وخرجت لاحقًا عن سيطرة النظام، محررة من بطشه وقمعه وسيطرته الأمنية المطلقة، وطغيانه الذي بلا حدود.
الشهيد الساروت، أيضًا، عبر في صفاته كقائد شعبي أفرزه الواقع والأحداث، ويوميات الثورة، عن حالة جموع الثائرين والمنتفضين، التي تجاوزت كافة الأحزاب والتشكيلات السياسية التي كانت قائمة وتناهض النظام وتناكفه، دون حسابات أو مراهنات إقليمية ودولية، ودون خلط بين المرحلي والاستراتيجي، ودون اعتبارات للخطوط الحمر، وتدرج الألوان القانية التي كان أصدقها لون الدم الفاصل بين الجد واللعب.
في شخصية “بلبل الثورة” وعفويته، عبر التعبير عن طروحاته، ومن خلال أحاديثه الدائمة ما يذكر عموم السوريين ببساطة شعاراتهم وعمقها، دون تكلف أو تصنع، وباندفاعتهم، وهبتهم لكسر حواجز الصمت الرهيب، في آذار / مارس 2011، التي منعت عن السوريين الهواء والحرية والكرامة الإنسانية، وفرقتهم مذاهب وشيع وطبقات اجتماعية، عقود طويلة.
اختزل في مشوار الثورة المعقد والمتعرج كل المحطات التي مرت بها، من السلمية إلى العسكرة، ومن العسكرة إلى الأسلمة والتطيُّف، وبقي في كل ذلك يحلم بسورية موحدة أرضًا وشعبًا، محررة خالية من كل الأمراض والأدران التي تسبب بها النظام/ العصابة من طائفية ومذهبية، ولم يرتمِ بأحضان الدول المتسابقة على التهام الكعكة السورية، برغم كل الإغراءات والممكنات التي كانت متاحة له ومفتوحة أمامه.
فقد الساروت من أشقائه أربعة قبل أن يلتحق بهم دون أن يضعف أو يتراجع ما جعله رمزًا كبيرًا يقف الجميع أمامه بإجلال واحترام، وهو يبث فيهم روح الصمود والمتابعة والاستمرار حتى يكتب لهم النصر على قاتلهم، ومن ثم محتليهم، عانى الجوع والحصار وظلم ذوي القربى، وشاهد المتسلقين والناطقين باسم الثورة والشعب السوري، ولم ينزو أو يتقوقع على ذاته، أو ينسحب من المشهد ويخلي مكانه الذي اختارته الأقدار ليكون البطل المتوج على مسرح الأحداث.
لكل ذلك، وغيره، مثل الشهيد الساروت حاجة ماسة للسوريين، فهو بطلهم، يختزل معاناتهم وطموحاتهم، لذلك هم عندما بكوه كانوا يبكون ذاتهم وفقدهم وهوانهم على الدول والمنظمات وكل المعنيين بقضايا الحرية وحقوق الإنسان. من “حق السوريين” ومن الطبيعي أن يبكوا الساروت فهم يبكون حالهم ومصيرهم الذي تتناهشه الدول، والمشاريع المتصارعة.
الساروت منا، نحن الذين خرجنا كحلم ليلة صيف، يحدونا الأمل بغد مشرق، وبهي جميل، كإطلالات الساروت التي تشي بالأمل والنصر. هو منا نحن الشهداء الذين قضوا أو مازالوا على قارعة الحلم، أو المعتقلين الذين ينتظرون شمس الحرية. هو منا نحن اليتامى والثكالى…الأرامل والمشردين … هو منا نحن الأبرياء الذين مازلنا نحلم.! الساروت منا وهو نحن.
المصدر: صحيفة اشراق