عمر كوش
جاء الاتفاق التركي الأميركي بشأن إنشاء منطقة آمنة شرقي نهر الفرات في شمالي سورية، بعد التهديدات التي أطلقها كبار المسؤولين الأتراك باجتياح المنطقة، وجعلها آمنة بالقوة العسكرية، الأمر الذي استدعى تحرّكاً أميركياً سريعاً، لاحتواء الوضع وتبريده، عبر تهدئة مخاوف الأتراك، فأرسلت واشنطن، في الآونة الأخيرة، وفوداً ديبلوماسية وعسكرية إلى أنقرة. وبعد محادثاتٍ استمرت ثلاثة أيام، بين أعضاء وفد عسكري أميركي مع نظرائهم الأتراك، أعلن عن التوصل إلى الاتفاق الذي يقضي بإنشاء مركز تنسيق مشترك بشأن إنشاء المنطقة الآمنة وإدارتها، وبتنفيذ سريع لتدابير أولية، تعالج المخاوف الأمنية التركية.
وعلى الرغم من أن تفاصيل الاتفاق لإنشاء المنطقة الآمنة لم تتضح بعد، أو على الأقل لم يُعلن عنها، إلا أنه كان بمثابة الحل الوسط، أو ما يمكن تسميته اتفاق الحدّ الأدنى، كونه أرضى الطرف التركي، من جهة الإقرار الأميركي بضرورة إنشاء منطقة آمنة شرقي الفرات في سورية، وأبعد، في الوقت نفسه، إمكانية القيام بعمل عسكري تركي ضد مليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، خصوصا وأن تركيا استكملت حشودها العسكرية على الطرف المقابل للحدود مع سورية، وأعلنت عزمها على القيام بعمل عسكري لإنشاء منطقة آمنة بمفردها. غير أن التوصل إلى هذا الاتفاق لا يفضي، بالضرورة، إلى تنفيذه وفق ما يريده القادة الأتراك، إذ سبق وأن حصل اتفاق ما بين الولايات المتحدة وتركيا حول منبج في بداية شهر يونيو/ حزيران 2018، وكان يقضي بانسحاب مليشيات وحدات حماية الشعب الكردية من المدينة، وتسليم أسلحتها الثقيلة، وانتخاب مجلس محلي، لكن الاتفاق لم يتم تنفيذه، على الرغم من تشكيل مجموعة عمل مشتركة بين الولايات المتحدة وتركيا من أجل ذلك، وهذا ما يفسّر تحذير وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، من أن بلاده لن تسمح بالمماطلة الأميركية في تنفيذ الاتفاق التركي الأميركي حول المنطقة الآمنة شرقي الفرات.
ويبدو أن الطرف التركي يريد من المنطقة الآمنة أن تكون خالية من مليشيات حماية الشعب الكردية والمليشيات المتخارجة عنها، وسحب سلاحها الثقيل، واتخاذ التدابير التي تبعدها عن المنطقة الآمنة، لكن الطرف الأميركي يعتبر هذه المليشيات حلفية له، ويريد الإبقاء عليها، وحمايتها وتجنيبها أي عمل عسكري تركي، بل وإشراكها في ترتيبات المنطقة الآمنة التي يتصوّرها بمثابة منطقة عازلة، تفصل بين الطرفين، وتمنع أي احتكاكٍ بينهما، وهذا يخالف الرؤية التركية التي تعتبر هذه المليشيات والحزب الذي شكلها منظمة إرهابية، وتشكل خطراً على الأمن القومي التركي. لذلك ستكون تفاصيل المنطقة الآمنة موضع خلاف بين الطرفين، التركي والأميركي، وخصوصا التفاصيل المتعلقة بطول المنطقة وعمقها، حيث تريدها تركيا أن تكون بعمق يتراوح بين 32 و40 كيلومتراً، وتمتد على طول 460 كم، وتبدأ من الضفة الشرقية لنهر الفرات، وصولاً إلى الحدود السورية العراقية، وذلك كي تمنع التواصل بين الوحدات الكردية ومقاتلي حزب العمال الكردستاني في جبال سنجار وجبال قنديل، بينما تريد الولايات المتحدة أن تكون المنطقة الآمنة بعمق 15 كيلومترا، وعلى طول لا يتجاوز 140 كيلومتراً، وأن تكون مدينة عين العرب والحسكة والقامشلي خارج المنطقة الآمنة. وهناك خلاف بين الطرفين بشأن القوات التي ستنتشر في المنطقة الآمنة، والمسؤول عن أمنها وسوى ذلك.
اللافت هو التوافق التركي الأميركي حول تسميتها “ممر سلام”، في إشارة إلى التفهم الأميركي للمسعى التركي حول إعادة اللاجئين السوريين في تركيا إلى مناطق في الشمال السوري. وليس مصادفةً أن يأتي ذلك في وقتٍ تطبق الحكومة التركية سياسة جديدة حيال اللاجئين السوريين التي بدأتها في الحملة على وجود اللاجئين في إسطنبول، وما يرافقها من حملات ترحيل بعضهم إلى مناطق في إدلب وعفرين وسواهما. وهنا يطرح السؤال عن أعداد اللاجئين الذين ستتم إعادتهم إلى المنطقة الآمنة، هل هم من سكان المنطقة الذين تمّ تهجيرهم منها من قبل، أم من سكان مناطق أخرى؟ وما هي التبعات التي تستجلبها إعادتهم إليها؟
ولعل التغيير في الخطاب السياسي التركي في تسمية منطقة شرقي الفرات من “ممر الإرهاب” إلى “ممر السلام”، يشير إلى عزم أنقرة على تجريد مليشيات حماية الشعب الكردية من المناطق التي تسيطر عليها، وجعلها منطقةً لإعادة اللاجئين السوريين الذين كانوا مهاجرين استضافهم الأنصار الأتراك، لكنهم لم يعودوا كذلك، ويتوجب ترحيلهم إلى المنطقة الآمنة التي ستتحول، وفق الخطاب الرسمي التركي، إلى ممر سلام. وهذا يعني أن هذا الممر سيشكل نوعاً من الحزام أو المنطقة العازلة بين المناطق التي تسيطر عليها مليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية والحدود التركية، وهو أمر تقبلته إدارة الرئيس دونالد ترامب، وستتحمل تبعاته.
والواقع أن المسؤولين الأتراك لن يهدأ لهم بال، حتى يتحقق مطلبهم في إنشاء منطقة آمنة في منطقة شرقي الفرات، كونها باتت ضرورة ملحة للأمن القومي التركي، وتحكمها جملة من الحسابات والضرورات الحزبية الداخلية، تتعلق بالتنافس ما بين حزب العدالة والتنمية (الحاكم) وأحزاب المعارضة، إضافة إلى عوامل خارجية. ولكن مهما كانت حيثيات التوافق التركي الأميركي حول المنطقة الآمنة، من الصعب القول إن طريقها بات سالكاً، هذه المرة، نحو الإشادة والتحقق على الأرض، إذ إنها تتطلب ليس فقط توافقات دولية وإقليمية، بل دعماً لوجستياً ومادياً من مختلف الأطراف الدولية والإقليمية الخائضة في الدم السوري.
المصدر: العربي الجديد