أندرياس ويمر ترجمة: علاء الدين أبو زينة
للقومية Nationalism اليوم سمعة سيئة. إنها، في أذهان العديد من الغربيين المتعلمين، أيديولوجية خطيرة. ويعترف البعض بفضائل الوطنية patriotism، التي تُفهم على أنها المودة الحميدة لوطن المرء؛ وفي الوقت نفسه، ينظر هؤلاء إلى القومية على أنها أيديولوجية ضيقة الأفق وغير أخلاقية، وتعزز الولاء الأعمى لبلد ما على حساب الالتزامات الأعمق بالعدالة والإنسانية. وفي خطاب ألقاه في كانون الثاني (يناير) 2019 أمام أفراد من السلك الدبلوماسي لبلاده، عبر الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، عن هذا الرأي بعبارات صريحة: “القومية”، قال، “سم أيديولوجي”.
في السنوات الأخيرة، سعى الشعوبيون في مختلف أنحاء الغرب إلى قلب هذا الهرم الأخلاقي على رأسه. وادعوا لأنفسهم بكل فخر ارتداء عباءة القومية، ووعدوا بالدفاع عن مصالح الأغلبية ضد الأقليات المهاجرة والنخب المفتقرة إلى المعرفة والتعاطف. وفي الوقت نفسه، يتمسك منتقدوهم بالتمييز الثابت بين القومية الخبيثة والوطنية الجديرة. وقد أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، في انتقاد مبطن للرئيس الأميركي دونالد ترامب، القومي المعلَن ذاتياً، أن “القومية خيانة للوطنية”.
يردد الفارق الشائع بين الوطنية والقومية صدى ذلك التمييز الذي أقامه الباحثون بين القومية “المدنية”، والتي بموجبها يُعتبر جميع المواطنين، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية، أعضاء في الأمة، وبين القومية “الإثنية”، التي تحدد فيها السلالة العرقية واللغة الهوية الوطنية. ومع ذلك، تتجاهل الجهود المبذولة لرسم خط صارم بين الوطنية المدنية الحميدة والقومية العرقية السيئة تلك الجذور المشتركة لكليهما. إن الوطنية هي شكل من أشكال القومية. وهما في الحقيقة شقيقان أيديولوجيان، وليسا أبناء عمومة بعيدة.
في جوهرها، تشترك جميع أشكال القومية في نفس المبدأين: أولاً، أن على أفراد الأمة، الذين يُفهمون على أنهم مجموعة من المواطنين المتساوين الذين لهم تاريخ مشترك ومصير سياسي واحد في المستقبل، أن يحكموا الدولة؛ و، ثانياً، أن عليهم أن يفعلوا ذلك لما فيه مصلحة الأمة. وهكذا، فإن القومية تعارض الحكم الأجنبي الذي يتولاه أعضاء في دول أخرى، كما هو الحال في الإمبراطوريات الاستعمارية والعديد من السلالات الحاكمة، وكذلك الحكام الذين يتجاهلون أراء واحتياجات الأغلبية.
خلال القرنين الماضيين، تم دمج القومية مع كل أنواع الأيديولوجيات السياسية الأخرى، فازدهرت القومية الليبرالية في القرن التاسع عشر في أوروبا وأميركا اللاتينية؛ وانتصرت القومية الفاشية في إيطاليا وألمانيا خلال فترة ما بين الحربين؛ وحفزت القومية الماركسية الحركات المعادية للاستعمار التي انتشرت عبر “الجنوب العالمي” بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. واليوم، يقبل الجميع تقريباً، من اليسار واليمين على السواء، شرعية المبدأين الأساسيين للقومية. ويصبح هذا أكثر وضوحاً عند مقارنة القومية بالمبادئ الأخرى لشرعية الدولة. في الأنظمة الدينية، يجب أن تُحكم الدولة باسم الله، كما هو الحال في الفاتيكان أو خلافة الدولة الإسلامية (داعش). وفي ممالك السلالات الحاكمة، تمتلك الدولة وتحكمها عائلة، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية. وفي الاتحاد السوفياتي، كانت الدولة تُحكَم باسم طبقة: البروليتاريا الأممية.
منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، أصبح العالم واحداً من دولٍ قوميّة تُحكَم وفقاً للمبادئ القومية. ويعني تحديد القومية حصرياً باليمين السياسي سوء فهم لطبيعة القومية وتجاهل لمدى عمق تأثيرها في كل الإيديولوجيات السياسية الحديثة تقريباً، بما في ذلك الليبرالية والتقدمية. فقد وفرت الأساس الأيديولوجي لمؤسسات مثل الديمقراطية، ودولة الرفاهية، والتعليم العام، والتي كان تبريرها كلها وجود شعب موحد مع شعور مشترك بالهدف والالتزام المتبادل. وكانت القومية واحدة من القوى المحركة الكبرى التي ساعدت في هزيمة ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية. كما حرر القوميون الغالبية العظمى من أبناء الإنسانية من الهيمنة الاستعمارية الأوروبية.
ليست القومية مشاعر غير عقلانية يمكن نفيها من السياسة المعاصرة بالتعليم المنير؛ إنها أحد المبادئ التأسيسية للعالم الحديث وهي مقبولة على نطاق أوسع بكثير مما يعترف به منتقدوها. مَن في الولايات المتحدة سيوافق على أن يحكمه النبلاء الفرنسيون؟ ومَن في نيجيريا يمكن أن يدعو علناً إلى عودة البريطانيين؟
مع استثناءات قليلة، نحن كلنا اليوم قوميون.
الأمة مولودة
القومية اختراع حديث نسبياً. في العام 1750، كانت الإمبراطوريات الشاسعة متعددة الجنسيات -النمساوية والبريطانية والصينية والفرنسية والعثمانية والروسية والإسبانية- تحكم معظم العالم. ولكن، بعد ذلك جاءت الثورة الأميركية في العام 1775، والثورة الفرنسية في العام 1789. وبالتدريج، انتشرت العقيدة القومية -الحكم باسم شعب مُعرَّف قوميّاً- في جميع أنحاء العالم. وعلى مدار القرنين التاليين، انحلت الإمبراطوريات واحدتها بعد الأخرى إلى سلسلة من الدول القومية. في العام 1900، كان ما يقرب من 35 في المائة من سطح الكرة الأرضية تحكمه الدول القومية؛ وبحلول العام 1950، كانت النسبة قد بلغت 70 في المائة مسبقاً. واليوم، لم تبق أكثر من نصف دزينة من ممالك السلالات والدول الدينية.
من أين جاءت القومية، ولماذا أثبتت أنها تتمتع بشعبية كبيرة؟ تعود جذور القومية إلى أوروبا الحديثة المبكرة. وقد تميزت السياسة الأوروبية في تلك الفترة -من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر تقريباً- بحرب مكثفة بين الدول التي تصبح أكثر مركزية وبيروقراطية باطراد. وبحلول نهاية القرن الثامن عشر، كانت هذه الدول قد حلت إلى حد كبير محل المؤسسات الأخرى (مثل الكنائس) كمزود رئيسي للسلع العامة داخل أراضيها، وأقصت -أو احتوت- مراكز القوى المتنافسة، مثل النبلاء المستقلين. وعلاوة على ذلك، عززت مركزة السلطة انتشار لغة مشتركة داخل كل دولة، على الأقل بين المتعلمين، ووفرت تركيزاً مشتركاً لمنظمات المجتمع المدني الناشئة التي أصبحت بعد ذلك مستغرقَة بشؤون الدولة.
دفع نظام أوروبا متعدد الدول، التنافسي والمشحون باحتمالات الحرب، الحكام، إلى استيفاء ضرائب متزايدة باطراد من شعوبهم وإلى توسيع دور عامة الناس في الجيش. وأعطى هذا بدوره لعامة الناس وسائل نفوذ لمطالبة حكامهم بزيادة مشاركتهم السياسية، والمساواة أمام القانون، وتحسين توفر المنافع العامة. وفي النهاية، ظهر ميثاق جديد: يجب على الحكام أن يحكموا لخدمة مصالح السكان، وطالما فعلوا ذلك، فإن الناس يدينون لهم بالولاء السياسي، والجنود، والضرائب. وسرعان ما عكست القومية على الفور هذا الميثاق الجديد وبررته. واعتبر الميثاق أن الحكام والمحكومين ينتمون جميعاً إلى نفس الأمة، وبذلك يتقاسمون أصلاً تاريخياً مشتركاً ومصيراً سياسياً مستقبلياً مشتركاً. وسوف تهتم النخب السياسية بمصالح عامة الناس بدلاً من سلالاتها الخاصة.
لماذا كان هذا النموذج الجديد للدولة جذاباً للغاية؟ سرعان ما أصبحت الدول القومية المبكرة -فرنسا وهولندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة- أقوى من الإمبراطوريات وممالك السلالات القديمة. وقد سمحت القومية للحكام بتقاضي المزيد من الضرائب من المحكومين والاعتماد على ولائهم السياسي. وربما الأهم من ذلك، أثبتت الدول القومية قدرتها على هزيمة الإمبراطوريات في ساحة المعركة. فقد مكَّن التجنيد العسكري العالمي -الذي ابتدعته حكومة فرنسا الثورية- الدول القومية من تجنيد جيوش ضخمة ينطوي جنودها الحافز للقتال من أجل وطنهم الأم. ومن 1816 إلى 2001، كسبت الدول القومية ما بين 70 و90 في المائة من حروبها مع الإمبراطوريات أو دول السلالات الحاكمة.
مع سيطرة الدول القومية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة على النظام الدولي، سعت النخبة الطموحة في جميع أنحاء العالم إلى مضاهاة القوة الاقتصادية والعسكرية للغرب من خلال محاكاة نموذجه السياسي القومي. ولعل المثال الأكثر شهرة هو اليابان؛ حيث أطاحت مجموعة من النبلاء اليابانيين الشباب في العام 1868 بالأرستقراطية الإقطاعية، وقامت بتركيز السلطة في عهدة الإمبراطور، وعكفت على برنامج طموح لتحويل اليابان إلى دولة قومية صناعية حديثة -وهو تطور أصبح معروفاً باسم “إصلاح ميجي”. وبعد جيل واحد فقط، تمكنت اليابان من تحدي القوة العسكرية الغربية في شرق آسيا.
لم تنتشر القومية فقط بسبب جاذبيتها للنخب السياسية الطموحة. كانت جذابة أيضاً للناس العاديين، لأن الدولة القومية عرضت علاقة تبادلية أفضل مع الحكومة من أي نموذج سابق لإقامة الدولة. بدلاً من الحقوق المتدرجة على أساس الوضع الاجتماعي، وعدت القومية بالمساواة بين جميع المواطنين أمام القانون. وبدلاً من قصر القيادة السياسية على النبلاء، فُتحت المهن السياسية للموهوبين من العامة. وبدلاً من إسناد مهمة توفير المنافع العامة للنقابات والقرى والمؤسسات الدينية، جلبت القومية سلطة الدولة الحديثة لتضطلع بمهمة تعزيز الصالح العام. وبدلاً من إدامة ازدراء النخبة للعوام غير المثقفين، رفعت القومية مكانة عامة الناس بجعلهم مصدراً جديداً للسيادة، وقامت بنقل الثقافة الشعبية ووضعها في مركز الكون الرمزي.
فوائد القومية
في البلدان التي تحقّق فيها الميثاق القومي بين الحكام والمحكومين، أصبح السكان يتماهون مع فكرة الأمة كأسرة ممتدة يدين لها أفرادها بالولاء والدعم. وحيثما أوفى الحكام بحصتهم من الصفقة، اعتنق المواطنون رؤية وطنية للعالم. وأرسى هذا الأساس لمجموعة من التطورات الإيجابية الأخرى.
أحد هذه التطورات كان الديمقراطية، التي ازدهرت حيث تمكنت الهوية الوطنية من أن تحل محل الهويات الأخرى، مثل تلك التي تركز على المجتمعات الدينية أو الإثنية أو القبلية. وقدمت القومية الإجابة عن السؤال الكلاسيكي المحدِّد للديمقراطية: من هم الأشخاص الذين يجب أن تحكُم الحكومة باسمهم؟ ومن خلال قصر هذا الامتياز على أعضاء الأمة واستبعاد الأجانب من التصويت، دخلت الديمقراطية والقومية في زواج مقيم.
في نفس الوقت الذي أسست فيه القومية تسلسلاً هرمياً جديداً للحقوق بين الأعضاء (المواطنين) وغير الأعضاء (الأجانب)، فإنها مالت إلى تعزيز المساواة داخل الأمة نفسها. ولأن الأيديولوجية القومية ترى أن الشعب يشكل هيئة موحدة من دون فروقات في المكانة، عزز هذا الواقع مبدأ “عصر التنوير” القائل إن جميع المواطنين يجب أن يكونوا متساوين في نظر القانون. وبمعنى آخر، دخلت القومية في علاقة تكافلية مع مبدأ المساواة. وفي أوروبا، على وجه الخصوص، غالبا ما سار الانتقال من حكم الأسرة الحاكمة إلى الدولة القومية يداً بيد مع الانتقال إلى شكل تمثيلي من الحكومة وسيادة القانون. وفي البداية، قصرت هذه الديمقراطيات المبكرة الحقوق القانونية والتصويتية الكاملة على أصحاب الممتلكات من الذكور، لكن هذه الحقوق امتدت مع مرور الوقت لتشمل جميع مواطني الأمة -في الولايات المتحدة، أولاً إلى الذكور البيض الفقراء، ثم إلى النساء البيض والملونين.
كما ساعدت القومية أيضاً على تأسيس دول الرفاهية الحديثة. فقد أدى الشعور بالالتزام المتبادل والمصير السياسي المشترك إلى تعميم فكرة أن أعضاء الأمة -حتى الغرباء المثاليين- يجب أن يدعموا بعضهم بعضا في أوقات الشدة. وتم إنشاء أول دولة رفاهية حديثة في ألمانيا خلال أواخر القرن التاسع عشر بناءً على طلب من المستشار المحافظ، أوتو فون بسمارك، الذي رأى فيها وسيلة لضمان ولاء الطبقة العاملة للأمة الألمانية بدلاً من الولاء للبروليتاريا الدولية. ومع ذلك، تم تأسيس غالبية دول الرفاهية في أوروبا بعد فترات من الحماس القومي، ومعظمها بعد الحرب العالمية الثانية، استجابة لنداءات التضامن الوطني في أعقاب المعاناة والتضحيات المشتركة.
شعارات دموية
لكن للقومية، كما يعرف أي طالب في التاريخ، جانب مظلم أيضاً. يمكن أن يؤدي الولاء للأمة إلى شيطنة الآخرين، سواء كانوا من الأجانب أم الأقليات المحلية المزعومة. وعلى الصعيد العالمي، زاد صعود القومية من تواتر الحرب: على مدى القرنين الماضيين، ارتبط تأسيس أول منظمة قومية في بلد ما بزيادة في الاحتمال السنوي لاختبار تلك الدولة حرباً شاملة، صعوداً من معدل 1.1 في المائة إلى 2.5 في المائة في المتوسط.
ولدت حوالي ثلث جميع الدول المعاصرة من حرب استقلال وطنية ضد الجيوش الإمبريالية. كما ترافقت ولادة دول قومية جديدة أيضاً ببعض من أكثر أحداث التاريخ تطرفاً وعنفاً من التطهير العرقي، بشكل عام ضد الأقليات التي اعتبرت غير مخلصة للأمة أو التي يشتبه في تعاونها مع أعداء الأمة. وخلال حربي البلقان اللتين سبقتا الحرب العالمية الأولى، تقاسمت كل من بلغاريا واليونان وصربيا التي كانت قد استقلت حديثاً الأجزاء الأوروبية من الإمبراطورية العثمانية فيما بينها، وطردت ملايين المسلمين عبر الحدود الجديدة إلى بقية أنحاء الإمبراطورية. ثم، خلال الحرب العالمية الأولى، انخرطت الحكومة العثمانية في عمليات قتل جماعية للمدنيين الأرمن. وخلال الحرب العالمية الثانية، أدى وصم هتلر لليهود -الذين ألقى باللوم عليهم في صعود البلشفية، وهو ما اعتبره تهديداً لخططه لإقامة إمبراطورية ألمانية في أوروبا الشرقية- إلى “الهولوكوست” في نهاية المطاف. وبعد نهاية تلك الحرب، تم طرد ملايين المدنيين الألمان من الولايات التشيكية السلوفاكية والبولندية التي أعيد إنشاؤها. وفي العام 1947، قُتل عدد هائل من الهندوس والمسلمين في أحداث عنف طائفية عندما أصبحت الهند وباكستان دولتين مستقلتين.
ربما يكون التطهير العرقي أكثر أشكال العنف القومي فظاعة، لكنه نادر الحدوث نسبياً. أما العنصر الأكثر تكراراً فهو الحروب الأهلية التي تخوضها إما الأقليات القومية التي ترغب في الانفصال عن دولة قائمة، أو بين مجموعات عرقية تتنافس على السيطرة على دولة مستقلة حديثاً. ومنذ العام 1945، شهدت 31 دولة عنفاً انفصالياً، وشهدت 28 دولة صراعات مسلحة على التكوين العرقي للحكومة الوطنية.
شمولية وحصريّة
على الرغم من أن القومية تميل إلى العنف، فإن هذا العنف يظل موزعاً بشكل غير متساو. فقد ظلت العديد من الدول سلمية بعد انتقالها إلى دول قومية. ويتطلب فهم السبب التركيز على كيفية ظهور الائتلافات الحاكمة وكيف يتم رسم حدود الأمة. في بعض البلدان، يتم تمثيل الأغلبيات والأقليات في أعلى مستويات الحكومة الوطنية منذ البداية. وعلى سبيل المثال، قامت سويسرا بدمج مجموعات الناطقين بالفرنسية والألمانية والإيطالية في ترتيب دائم لتقاسم السلطة، والذي لم يستنطقه أحد على الإطلاق منذ تأسيس الدولة الحديثة في العام 1848. وفي المقابل، يصور الخطاب القومي السويسري جميع المجموعات اللغوية الثلاث كأعضاء يتمتعون بنفس القدر من الجدارة في الأسرة الوطنية. ولم تظهر هناك أي حركة من جهة الأقلية السويسرية الناطقة بالفرنسية أو تلك الناطقة بالإيطالية للانفصال عن الدولة.
مع ذلك، في بلدان أخرى، استولت النخبة من مجموعة عرقية معينة على الدولة، ومضت بعد ذلك إلى إبقاء مجموعات أخرى خارج السلطة السياسية. ولا يقتصر أثر ذلك على إثارة شبح التطهير العرقي الذي تمارسه نخب الدولة المصابة بجنون العظمة، وإنما يثير النزعات الانفصالية أو الحرب الأهلية التي تخوضها الجماعات المستبعدَة نفسها، التي تشعر أن الدولة تفتقر إلى الشرعية لأنها تنتهك المبدأ القومي المتعلق بالحكم الذاتي. وتقدم سورية المعاصرة مثالاً متطرفاً على هذا السيناريو: الرئاسة، والحكومة، والجيش، والأجهزة السرية، والمستويات العليا من البيروقراطية، كلها يسيطر عليها العلويون، الذين يشكلون 12 في المائة فقط من سكان البلاد. ولا ينبغي أن يكون مفاجئاً أن العديد من أعضاء الأغلبية العربية السنية في سورية كانوا على استعداد لخوض حرب أهلية طويلة ودموية ضد ما يعتبرونه حكماً غريباً.
أما إذا كان تكوين السلطة في بلد معين قد تطور في اتجاه أكثر شمولية أو حصرية، فمسألة تاريخية، والتي تمتد وراء إلى ما قبل صعود الدولة القومية الحديثة. وتميل الائتلافات الحاكمة التي تتبنى الاشتمال -والقومية الشاملة الناشئة في المقابل- إلى الظهور في البلدان ذات التاريخ طويل من نظم الدولة المركزية البيروقراطية. واليوم، تبدو هذه الدول أكثر قدرة على تزويد مواطنيها بالسلع العامة. ويجعلها ذلك أكثر جاذبية كشركاء في التحالف بالنسبة للمواطنين العاديين، الذين يحولون ولاءهم السياسي بعيداً عن الزعماء الإثنيين والدينيين والقبليين وإلى الدولة، مما يسمح بظهور تحالفات سياسية أكثر تعددية وتنوعاً. كما يعزز التاريخ الطويل من الدولة المركزية أيضاً تبني لغة مشتركة، مما يجعل من السهل مرة أخرى بناء تحالفات سياسية عابرة للانقسامات العرقية. وأخيراً، في البلدان التي تطور فيها المجتمع المدني مبكراً نسبياً (كما حدث في سويسرا)، كان ظهور تحالفات متعددة الأعراق من أجل تعزيز المصالح المشتركة أكثر احتمالاً، وهو ما أدى في النهاية إلى ظهور نخب حاكمة متعددة الأعراق وهويات وطنية أكثر شمولاً.
بناء قومية أفضل
لسوء الحظ، تعني هذه الجذور التاريخية العميقة أنه من الصعب، خاصة بالنسبة للأجانب، تعزيز تحالفات حاكمة شاملة في البلدان التي تفتقر إلى الظروف اللازمة لظهور هذه التحالفات، كما هو الحال في أجزاء كثيرة من العالم النامي. ويمكن للحكومات الغربية والمؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي، المساعدة على توفير هذه الظروف من خلال اتباع سياسات طويلة الأجل تزيد من قدرة الحكومات على توفير المنافع العامة، وتشجيع ازدهار منظمات المجتمع المدني، وتشجيع التكامل اللغوي. لكن مثل هذه السياسات يجب أن تقوي الدول، لا أن تقوضها أو تسعى إلى أداء وظائفها نيابة عنها. ويمكن للمساعدة الأجنبية المباشرة أن تقلل، بدلاً من أن تعزز، شرعية الحكومات الوطنية. ويُظهر تحليل المسوحات التي أجرتها “مؤسسة آسيا” في أفغانستان للفترة من العام 2006 إلى العام 2015 أن لدى الأفغان نظرة أكثر إيجابية تجاه عنف طالبان بعد أن تولى الأجانب رعاية مشاريع السلع العامة في مناطقهم.
في الولايات المتحدة والعديد من الديمقراطيات القديمة الأخرى، تختلف مشكلة تعزيز الائتلافات الحاكمة الشاملة والهويات الوطنية. فقد تخلت قطاعات الطبقة العاملة البيضاء في هذه البلدان عن أحزاب يسار الوسط بعد أن بدأت تلك الأحزاب في اعتناق الهجرة والتجارة الحرة. كما تشعر الطبقات العاملة البيضاء بالاستياء من تهميشها الثقافي من قبل النخب الليبرالية، التي تدافع عن التنوع بينما تقدم البيض والمثليين جنسياً والذكور كأعداء للتقدم. وتجد الطبقات العاملة البيضاء القومية أن الشعبوية جذابة لأنها تعِد بإعطاء الأولوية لمصالح هذه الطبقة، وبحمايتها من منافسة المهاجرين أو العمال ذوي الأجور المنخفضة في الخارج، وباستعادة مكانتها المركزية والجليلة في الثقافة الوطنية. لم يكن على الشعبويين أن يخترعوا فكرة أن الدولة يجب أن تهتم في المقام الأول بالأعضاء الأساسيين في الدولة؛ كانت هذه الفكرة دائماً متأصلة بعمق في النسيج المؤسسي للدولة القومية، وهي جاهزة للتفعيل بمجرد ازدياد جمهورها المحتمل بدرجة كافية.
سوف يتطلب التغلب على شعور هؤلاء المواطنين بالتغريب والاستياء حلولاً ثقافية واقتصادية. يجب على الحكومات الغربية تطوير مشاريع السلع العامة التي تعود بالنفع على الناس من جميع الألوان والمناطق والخلفيات الطبقية، وبالتالي تجنب تشكل ذلك التصور السام عن المحسوبية العرقية أو السياسية. وقد تقطع طمأنة الطبقة العاملة والسكان المهمشين اقتصادياً، بأنهم هم أيضاً يستطيعون الاعتماد على تضامن مواطنيهم الأكثر ثراءً وتنافسية، شوطاً طويلاً نحو التقليل من جاذبية الشعبوية المدفوعة بالاستياء والمناهضة للهجرة. ويجب أن يسير هذا الجهد يداً بيد مع شكل جديد من القومية الشاملة لجميع الأطياف. وفي الولايات المتحدة، اقترح الليبراليون، مثل المؤرخ الفكري مارك ليلا، والمحافظون المعتدلون مثل العالم السياسي فرانسيس فوكوياما مؤخراً كيف يمكن بناء مثل هذه الرواية الوطنية: من خلال احتضان كل من الأغلبيات والأقليات، وتأكيد مصالحهم المشتركة بدلاً من تحريض البيض ضد تحالف الأقليات، كما يفعل اليوم كل من التقدميين والقوميين الشعبويين على حد سواء.
في كل من العالمين؛ المتقدم والنامي، تبدو القومية موجودة هنا لتبقى. لا يوجد حالياً أي مبدأ آخر يمكن أن يقوم عليه نظام الدولة الدولي. (ليس لدى الكوزموبوليتانية العالمية، على سبيل المثال، سوى القليل مما تعرضه خارج أقسام الفلسفة في الجامعات الغربية). وليس من الواضح ما إذا كانت المؤسسات عبر-الوطنية، مثل الاتحاد الأوروبي، سوف تكون قادرة على تولي المهام الأساسية للحكومات الوطنية، والتي يمكن أن تتيح لها اكتساب شرعية شعبية، بما في ذلك توفير الرفاهية والدفاع.
يتمثل التحدي الذي يواجه كلاً من الدول القومية القديمة والجديدة في تجديد العقد الوطني بين الحكام والمحكومين عن طريق بناء -أو إعادة بناء- الائتلافات الشاملة التي تربط بين الطرفين. وتنبع الأشكال الحميدة من القومية الشعبية من الإدماج السياسي. ولا يمكن فرضها من خلال الشُرَطية الإيديولوجية من الأعلى، ولا من خلال محاولة تثقيف المواطنين حول ما ينبغي اعتباره مصالحهم الحقيقية. من أجل الترويج لأشكال أفضل من القومية، يتعين على القادة أن يصبحوا قوميين أفضل، وأن يتعلموا البحث عن مصالح شعوبهم كلها، بلا استثناءات.
المصدر: (فورين أفيرز) / الغد الأردنية