أكرم عطوة
في البدء لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الشعب الفلسطيني، وبوعي متأصل به، اكتسبه من خلال نضاله الطويل والعسير قبل وبعد النكبة، عَرف تماما أنّ فلسطين لن تعود إليه، ولن يعود إليها، إلا بفعل عربي، يتمُّ من منطلق أنّ الخطر الذي يمثله الكيان الصهيوني في فلسطين لايقتصر على الفلسطينيين، وإنما يستهدف المنطقة كلها، وعَرف أيضا أن هذا الفعل لن يتحقق إلا إذا تحررت إرادةُ الشعوب العربية، وانتزعت حريتها من قيود أنظمة الاستبداد.
من هنا وقف شعبنا الفلسطيني وبحماس شديد مع الشعوب العربية التي انتفضت في عام 2011 بوجه رموز الاستبداد .
ولايشوهْ .. ولايجوزْ أن يشوه هذا الموقف، قلّةٌ من الفلسطينيين من الذين جنّدوا أنفسهم ومن والهم للدفاع عن هذه الأنظمة المستبدة أو للدفاع عن بعضها، بما يتوافق مع مصالحهم الشخصية وطموحاتهم الانتهازية .
والفلسطينيون لم يفاجئهم ذلك الحضن الشعبي الدافئ الذي احتضنهم في سوريا، لأن فلسطين هي جزء من سوريا، وأن التداخل السكاني التاريخي بين السوريين والفلسطينيين يؤكد أنّهم كانوا ومازالوا شعباً واحداً، وأنّ هذا الاحتضان الرائع، لم يكن في يومٍ من الأيام مكرُمة أو مِنّة من الأسد الأب أو الابن.
فحين فتح السوريون أبوابهم وبيوتهم لأخوتهم الفلسطينيين من لاجئي عام 1948 لم يكن هناك أيّ وجود لهذه الطغمة الحاكمة التي تاجرت بالقضية الفلسطينية.
ولا بدّ أن نذكر حقيقة يجب أن لا تغيب عن الأذهان، وهي أنّ المساواة في الحقوق والواجبات بين السوري والفلسطيني، هي من نتاج الديمقراطية السورية في الخمسينيات، أيّ في زمن الديمقراطية وليس في زمن الاستبداد الأسدي.
فالقانون (260 ) الذي تمّ إقراره عام 1956 وبالإجماع من البرلمان السوري، هذا القانون هو الذي ساوى الفلسطيني بالمواطن السوري من حيث الأنظمة المتعلقة بحقوق التوظيف والعمل والتجارة وخدمة العلم في القوات المسلحة السورية، ولاحقاً في جيش التحرير الفلسطيني بعد تأسيسه، مع الاحتفاظ بالجنسية الفلسطينية.
إن القانون رقم (260) لعام 1956 وفّرَ فرص اندماج الفلسطينيين السوريين في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في هذا البلد بما تَضَمَنَهُ من نصٍ واضحٍ يُعتبر من خلاله اللاجئين الفلسطينيين المُقيمين فوق الأراضي السورية والمُسجلين في سوريا منذ لجوئهم القسري عام 1948 يعتبرهم كالسوريين أصلاً في جميع ما نصت عليه القوانين. ومَرَدُ ذلك يعود للوحدة الجغرافية والبشرية والسكانية، ووحدة النسيج الوطني والقومي والاجتماعي الذي يجمع بين فلسطين وسورية، حيث كانت فلسطين عبر التاريخ إقليماً سوريًّا وجزءاً من بلاد الشام .
بالمقابل ساهم فلسطينيو سوريا مع أخوتهم السوريين ببناء سورية الحديثة، وكان دورهم مهماً خاصة في مجال العمل التربوي والتعليمي، حيث تواجد المدرسون والمعلمون الفلسطينيون على كامل امتداد الأراض السورية، ولم تخل منطقة ولو صغيرة في سوريا من وجود مُعلم أو مدرس فلسطيني، خاصة في الأعوام (1948 ــ 1965) .
ويُشار في هذا الصدد بأن غالبية فلسطينيي سوريا هم من أبناء شمال فلسطين، وتحديداً من مناطق الجليل والجليل الأعلى التي تَضُمُ مدن حيفا وعكا وصفد والناصرة وطبريا إضافة إلى وجود أسر ليست بالقليلة مُهجرة من وسط فلسطين خاصة من القدس ويافا واللد والرملة، وهذه المدن هي الأكثر تطورا في فلسطين والأكثر احتكاكا بالمدن السورية تاريخياُ بحكم أنها الأقرب جغرافيا إلى المدن السورية، حيث كان أبناء هذه المدن يأتون إلى زيارة المدن السورية وخاصة دمشق، أكثر من قيامهم بزيارة المدن التي تقع في جنوب فلسطين.
وقد لجأ الفلسطينيون إلى سورية في مراحل زمنية متعاقبة، بدأت منذ عام النكبة عام 1948، حيث لجأ إلى سوريا في ذاك الوقت، ما يقارب ( 90،000) لاجئ فلسطيني، ثم تضاعفت أعدادهم خلال سبعة عقود بحكم الزيادة الطبيعية للسكان، وموجات اللجوء والنزوح المتواصلة إلى سوريا، حتى بلغ عددهم أخيراً (560000 ) لاجئ مسجل في قيود وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين لغاية منتصف العام 2015،
والان ونظرا لهروب ولجوء أعداد كبيرة منهم خلال سنوات التقتيل والتدمير التي اتبعها النظام الاسدي وحليفيه الروسي والايراني، إلى دول أخرى، حيث تشير التقديرات إلى أن هناك أكثر من (300 الف ) لاجئ فلسطيني أصبحوا خارج حدود سورية ما بين الأعوام 2011 و2017،
عموما يتوزع الفلسطينيون في سورية على (14) مخيماً، أقيم معظمها خلال العقدين الأولين إثر لجوئهم عام ( 1948) وهذه المخيمات هي: ّ
مخيم اليرموك وخان دنون وجرمانا والست زينب وسبينة وخان الشيح والحسينية والرمدان في دمشق وريفها
مخيم العائدين في حماة
مخيم العائدين في حمص
مخيم النيرب وحندرات في حلب
مخيم العائدين(الوافدين) والطوارئ في درعاّ
مخيم الرمل في اللاذقية
وقد قام النظام بتدمير أكثر من خمس مخيمات بما فيها المخيم الأكبر والأهم الذي هو مخيم اليرموك والذي كان يضم لوحده أكثر من نصف عدد الفلسطينيين السوريين
ومن المفيد أن نشير هنا إلى وجود أعداد أخرى من اللاجئين الفلسطينيين في المدن السورية لا يسكنون في المخيمات وإنما يسكنون في الأحياء التي يسكنها السوريين، كما أن هناك بعض السوريين يسكنون مع الفلسطينيين في مخيم اليرموك، مما جعل المعاناة واحدة ومشتركة من ظلم وبطش الاستبداد.
خلاصة القول، أن معظم فلسطينيي سوريا قد ولدوا وعاشوا ودرسوا وتزوجوا وعملوا في سورية، وعانوا كما عانى السوريين تماما، وبالتالي فإن وجودهم في سورية ليس بالحالة الطارئة، بالرغم من أن سبب وجودهم الأصلي والقسري كان بفعل النكبة وتداعياتها.
ومن المؤكد إن الفلسطينيين يهمهم جدا وجود ديمقراطية حقيقية في سورية، وذلك من أجل أن يتمكن الشعب السوري من التعبير عن مواقفه القومية والوطنية بحرية تامة، وبدون أيّة إملاءات سلطوية، لثقتهم التامة بأنّ لفلسطين وللفلسطينيين مكانة متميزة في عقول وقلوب السوريين، وهذا برأيي أهمّ دافع من دوافع انخراط الفلسطينيون في الحراك الثوري السوري، وأيضا من أجل أن يعيشوا مع أخوتهم السوريين في أجواء من الحرية واحترام حقوق وكرامة المواطن التي انتزعها منهم النظام القمعي والأمني المتسلط في سورية،
ومنذ بدايات الثورة السورية، شهدت المخيمات الفلسطينية وخاصة مخيم الرمل في اللاذقية، ومخيم الوافدين (العائدين) في درعا استهدافاً عنيفاً ووحشياً من قبل قوات النظام، لأن أهلنا في هذه المخيمات ساهموا في كافة الأنشطة الثورية التي تمّت في ذلك الوقت. ولن ننسى تلك الشتائم البذيئة التي أطلقها زبانية النظام بحقّ الفلسطينيين، والاتهام الذي وجهته “بثينة شعبان” للفلسطينيين في بداية الثورة بأنّهم هم وراء مشروع الفتنة.
ومن المؤكّد أنّه خلال فترة الحكم الأسدي لم يكن الفلسطينيين شركاء للسوريين بالحقوق فقط، بل كانوا أيضا شركاء في المعاناة الناتجة عن ظلم النظام وقمعه واستبداده، وقسوة ووحشية أجهزته الأمنية، وشركاء أيضا بما لحقهم من أذى الجرائم التي ارتكبها النظام الأسدي بحقّ السوريين والفلسطينيين، مما جعل الفلسطينيين مثل السوريين، يندفعون بعفوية تلقائية في المظاهرات السلمية التي انطلقت في بداية الثورة، وليهتفوا مع أخوتهم السوريين (الموت ولا المذلة) (وسوريا بدها حرية)، وليدفعوا مع أخوتهم السوريين ثمنا باهظاً لقاء هذا الهتاف، فمنهم من قُتل ومنهم من اعتقل وعذب حتى الموت في سجون أجهزة الأمن المختلفة، ومنهم من عانى من قسوة الهجرة والتشرد أو من حصار وصل الى حدّ الموت جوعا أو عطشا أو قهرا.
وتشير إحصائيات مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية إلى أنه قد مات حوالي أربعة ألاف من الفلسطينيين منذ اندلاع الثورة السورية في آذار-مارس / 2011 ولغاية الان نتيجة الأعمال القتالية أو الحصار أو التعذيب حتى الموت داخل السجون والمعتقلات، أو على دروب الهجرة أو في دول الشتات الجديد.
وللأسف أقول أنّ هذا الموقف العفوي للفلسطينيين في والمشاركة الفاعلة في ثورة الشعب السوري، كان بمعزلٍ عن مواقف معظم التنظيمات والفصائل الفلسطينية التي اتخذت موقف الحياد السلبي، حفاظا على وجودها غير المستقل في سوريا، وسآتي بمثال واحد من عشرات الأمثلة التي تؤكد عدم استقلالية هذه الفصائل الفلسطينية المتواجدة في دمشق في مواقفها السياسية والإعلامية، فحينما دعا بوش الأبن إلى مؤتمر (أنوبولس) في أواخر عام 2007 لمناقشة خطة مشبوهة للسلام في الشرق الأوسط، دعت فصائل التحالف المتواجدة في دمشق إلى مؤتمر شعبي فلسطيني للتنديد بمؤتمر (أنوبولس) وبالمشاركين به، ظنّا منهم أنّ النظام الأسدي لن يشارك في هذا المؤتمر، وقد قاموا بتوزيع الدعوات التي تحدّد مكان وزمان انعقاد المؤتمر الشعبي المناهض لـ (أنوبولس) لكنْ حين عرفوا أن النظام الأسدي سيشارك في (أنوبوليس)، تأجل المؤتمر إلى إشعار آخر وعقد في بدايات عام 2008 في نفس المكان، لكن تحت عنوان آخر، ومن أجل هدف آخر .
إنّ موقف الحياد السلبي الذي اتخذته الفصائل التي تدّعي استقلالية قرارها واستقلالية موقفها كحركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والديمقراطية وفتح، إضافة الى الموقف المخزي والقذر للقيادة العامة وفتح (الانتفاضة)، جعلت التضحيات التي قدمها الفلسطينيون من خلال مشاركتهم في الحراك الثوري بمختلف أشكاله غير ملحوظة إعلاميا، وبالتالي لم يتم تغطية هذه المشاركة إعلاميا بالشكل الذي تستحقه، بل أنّنا وجدنا الإعلام في معظم الأحيان يغضّ الطرف عن هذه المشاركة، ويُظهر الموقف المخجل للتنظيمات الفلسطينية الانتهازية، التي وقفت فعلا أو قولا الى جانب النظام الأسدي .
وفي هذا المجال لا بدّ من أن نشير إلى تلك المواقف الشجاعة التي نَعتزّ ونفتخر بها لبعض الكوادر في بعض الأطر التنظيمية في هذه الفصائل حين تمرّدت على قيادتها، والتحقت بصفوف الثورة السورية، مثلما حصل في الجبهة الشعبية القيادة العامة، وفي جيش التحرير الفلسطيني.
وأكثر ما يؤلمنا نحن الفلسطينيون أنْ نُتهم بموالاة الانظمة الاستبدادية، ونحن الذين كنّا ومازلنا الضحية الأولى للاستبداد، لأنّنا كنا ومازلنا الحلقة الأضعف في همجية ووحشية أنظمة الاستبداد في مختلف الاقطار العربية.
أمّا ما يخص نظام الاستبداد الأسدي في سوريا، فلا يمكن أنْ ينسى الفلسطينيون مواقفه وأعماله التي استهدفتهم شعباً وقضيته، كرفض حافظ الاسد حين كان وزيرا للدفاع مدَّ يد العون للمقاومة الفلسطينية، التي كانت تُذبح في الأردن عام 1970 (مجازر أيلول الأسود)، وأيضا تعاونه مع النظام الأردني عام 1971 في مجازر أحراش جرش وعجلون، والحيلولة دون السماح لقوى المقاومة ولجيش التحرير الفلسطيني من الدفاع عن الفدائيين المحاصرين في تلك المنطقة، مما مكّن جيش النظام الأردني من إبادة معظم أولئك الفدائيين الأبطال واستشهاد القائد أبو علي إياد .
وبعد هذه المجازر، تؤكّد العلاقة الحميمة التي نشأت بين النظامين السوري والأردني إلى حد التطابق في المواقف السياسية والاعلامية، أنّ النظام الأسدي في دمشق كان متوافقا ومتواطئا مع النظام الأردني في تصفية المقاومة الفلسطينية في الأردن .
وكذلك لا يمكن أن ينسى الفلسطينيون ما فعله النظام الأسدي بالمقاومة الفلسطينية واللبنانية في عام 1976، وخاصة مجازر تل الزعتر .
وكذلك تخاذله في الدفاع عن لبنان وعن بيروت عندما اجتاحها الصهاينة في عام 1982
أضافة إلى مجازر صبرا وشاتيلا، والتي لانشك في دور مشبوه للنظام الأسدي في هذه المجازر مكملا للدوري الكتائبي والصهيوني، وإلا ما معنى أن يصبح قائد هذه العملية الإجرامية “إيلي حبيقة” الشخص الأقرب إلى النظام الأسدي
ثم مأساة حرب المخيمات ودعم النظام الأسدي المباشر لحركة أمل لتنفيذ أسوأ حصار على المخيمات الفلسطينية في الضاحية.
والاسوأ من كل ما سبق هو أن النظام لم يسمح بتواجد أي مقاومة للمحتل الصهيوني في الجولان السوري طوال فترة وجوده في السلطة .
ومن المؤكد أن معظم الفلسطينيين في سورية على يقين من وجود حالة تكاملية بين النظام السوري والعدو الصهيوني، خاصة بعد تصريح رامي مخلوف السارق الكبير للاقتصاد السوري في بداية الثورة السورية الذي قال فيه ” أن استمرار وجود النظام الأسدي في سوريا هو عامل استقرار لإسرائيل”
لهذا كان الفلسطينيون في سورية ومنذ بدايات الثورة السورية في خضمّ الثورة وسوف يستمرون فيها حتى تُحقق هذه الثورة “ثورة الكرامة والحرية والديمقراطية” أهدافها كاملة.