عبد الوهاب بدرخان
أي تقويم لتشكيل اللجنة الدستورية السورية، وأي تحليل لمسارها ومآلها المتوقّعين، لا يمكن أن يخلص الى أنها آلية حل للأزمة، أو أنها تمهّد لـ “انتقال سياسي”، أو أنها يمكن أن تحقّق طموحات شعب يتعرّض لمأساة هي الأكبر في هذا العصر ولأفظع ظلم وخذلان دوليين. وما قيل مع بدء الحديث عن اللجنة، قبل نحو عامين، لا يزال هو الأدقّ: لجنة دستورية للشكل، أما الحلّ فسيُصنع، حين يحين أوانه، في مكان آخر وعلى مستوى آخر، أي عندما يتفاهم الروس والأميركيون.
ولدت اللجنة يوم صارت حاجة للأمم المتحدة لتُظهر عدم فشلها واستمرار دورها، ويوم صارت حاجة لروسيا لتؤكّد أن “الحرب انتهت” (لافروف) وأنها باشرت صنع الحل السياسي، كذلك يوم صدرت أوامر روسية لبشار الأسد كي يوافق على تركيبتها بعدما ضمنت موسكو وجود اختراق روسي – أسدي للائحة الثالثة (المجتمع المدني) التي تتبنّاها الأمم المتحدة. وفيما شُكّلت لائحة النظام على نمط وفده الى ما سمّي “مؤتمر الحوار الوطني” في سوتشي (ك2/ يناير 2018)، أي مجموعة صغيرة من المختصّين المعروفين الى جانب من هبّ ودبّ ممن لا علاقة لهم بشيء اسمه كتابة دستور، فإن لائحة المعارضة استُبعد منها عمداً أو قسراً العديد من ألمع الأسماء المشهود لأصحابها بالكفاءة في الشأن الدستوري، وثمّة في لائحة المجتمع المدني أشخاص يمكن التعويل على جدّيتهم وإن كان الروس والنظام أقحموا فيها العديد عضواً في “مجلس الشعب” وبعثيين معلنين وأشباه معارضين.
هذه التوليفة التي استغرق طبخها ما يقرب من عامين، وأُعدّ لها نظام عمل انطوى تقريباً على كل شروط النظام. صحيح أن المعارضة استطاعت إدخال بعض التعديلات إلا أنها احتاجت لتركيا والمبعوث الأممي لتمريرها. في تجارب سابقة لكتابة الدساتير كانت يمكن وصف هذه التوليفة بأنها تتيح حواراً مفتوحاً بحثاً عن توافقات مجتمعية يعكسها الدستور، غير أنها في التجربة السورية الراهنة ترمي مسبقاً الى ترجيح موقف النظام وتفتقد الى ممثلين يتمتعون بمشروعية من جانب مكوّناتهم.
من شأن أنطونيو غوتيريش أن يحتفل بـ “اللجنة” التي توصّل إليها مبعوثه غير بيدرسون، والترويج بأنها “ذات مصداقية ومتوازنة وشاملة ومملوكة لسورية وبقيادة سورية وتسيير أممي”، لكن كلاً من هذه التوصيفات يحتاج الى تدقيق شديد ولن يتأكّد إلا بعد أن تغوص اللجنة في العمل. وعندما قال أن اللجنة استيفاء لأحد بنود القرار 2254 كان حريّاً بالأمين العام أن يعتذر للسوريين وللعالم عن عجز الأمم المتحدة عن فرض أو تطبيق أيٍّ من البنود الأساسية في هذا القرار، ليكون مبرّراً اليوم القفز الى الدستور. ليس مألوفاً في المنظمة الدولية أن يُجهر باعتذار أو أسف، فعذرها الدائم أنها تعمل بما يُتاح لها من توافق دولي. كان القرار 2254 بني على مفهوم “الانتقال السياسي” الذي رُسمت له مراحل: وقف شامل لإطلاق النار، إجراءات لبناء الثقة (أهمها إطلاق المعتقلين وجلاء مصير المفقودين وعودة المهجّرين والنازحين)، هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة… كلّ ذلك أمكن للروس أن يتلاعبوا به عبر جولات التفاوض في جنيف ثم أفشلوه بالحل العسكري وجعلوه نسياً منسيّاً، الى شطبوا “الانتقال السياسي” وفرضوا الانتقال الى مرحلة الدستور مبدّدين عامين لتشكيل لجنتها. وللجميع أن يتخيّلوا الآن بأي طريقة سيُدار العمل في هذه اللجنة.
في لقائه مع وفد إيراني قال الاسد إن التنسيق السوري – الإيراني – الروسي أنجز لجنة “مناقشة الدستور” وربط نجاحها فقط بـ “عدم تدخّل الأطراف الخارجية”، مشيراً خصوصاً الى الولايات المتحدة والغرب. وإذ يعتبر الأسد أن اللجنة باتت أداة لتثبيت نظامه وعنواناً لـ “انتصاره” فإنه عندما يتحدّث عن “مناقشة الدستور” يعني تحديداً “دستوره” (2012) الذي لا يحترم أي كلمة فيه وفي ذلك الذي سبقه، مع أنه فبرك برلماناً لاعتماده واستفتاءً للمصادقة عليه كما يفبرك إعادة انتخابه، “دستوره” الذي لم يطبّقه ألا في إدارة التوحّش على الشعب قبل 2011 وبعده، بل لم يتردّد في تبرير مجازر نظامه والعمليات المشتركة مع الايرانيين للتطهير والتغيير الديموغرافيين كي يحصل على “مجتمع متجانس” يتغنّى به في احتقارٍ خالصٍ لمن يفترض أنه شعبه. ليس هناك دستور في العالم يجيز للحاكم أن يعتنق الإبادة الجماعية ويعمل للتخلص من أكثر من نصف شعبه، وإنما هناك حكامٌ يكون أوّلَ ما يفعلونه رمي الدستور في القمامة.
فور الإعلان عن اتفاق بيدرسون مع الوزير وليد المعلم على اللجنة الدستورية كان هناك شبه اجماع على التذكير بعبارة لهذا الوزير: “سنغرقهم في التفاصيل”… دلّ ذلك الى توقعات متواضعة لفاعلية المسار الدستوري، فضلاً عن خبرة في العقلية العفنة التي يشغلها بقاء النظام أكثر مما تهتمّ بمستقبل سورية. ليس واضحاً بعد كيف سيدور العمل في اللجنة، وكيف ستعمل رئاستها “المزدوجة”، وهل سيُصار الى الشروع في كتابة دستور جديد أم أنه سيُفسح في المجال لطرح ما يمكن اعتماده من دساتير سابقة. لا شك أن هذه المقدمات ستستغرق وقتاً، وقد لا يستقيم العمل في اللجنة قبل مرور سنة ولن يجد النظام مشكلة في المماطلة واضاعة الوقت لتحلّ 2021 فيعيد مسرحية الانتخابات الرئاسية ويُجَدّد للأسد لسبع سنوات أخرى، ولتستمر لعبة الدستور الى ما لا نهاية.
لا شيء غير واقعي في ما ورد، إذ سبق أن جُرّب النظام والروس في استحقاقات سابقة، وكان الإيرانيون دائماً في خلفية الصورة حيث يراقبون أداء الروس لمنعهم من الاستئثار بالنظام أو التفرد في تحديد مصير الأسد. فالمعلوم أنه إذا كان هناك محك في مسألة الدستور فهو “صلاحيات الرئيس”، وإذا كان من جديد يُفترض ترقّبه فهو كيفية تركيز السلطة لدى رئيس الوزراء. لكن قبل الوصول الى المحك الملتهب سيحرص الأسد وحليفاه على أن تبقى الصلاحيات على حالها، فأي نقاش لنزعها من يد الرئيس كفيلٌ بنسف اللجنة الدستورية وعملها. ولاستباق ذلك تأخرت ولادة اللجنة بسبب تهديدات وضغوط تعرّض لها مرشحون لعضويتها، حتى للذين رشّحهم النظام للائحته وامتنعوا عن المشاركة فيها، بالإضافة الى مَن رشّحوا للائحة المجتمع المدني. ولذلك هناك تكهنات بأن اللجنة قد تشهد لاحقاً انسحابات أعضاء فيها كلما توغّلت في صلب الموضوع.
لاحظت تقارير إعلامية أن تشكيل اللجنة الدستورية وضع النظام على قدر المساواة مع المعارضة، ومن دون التقليل من هذه المعادلة فإن أهميتها الشكلية ينبغي أن تترجم بفاعليتها. ذاك أن الحل العسكري الذي ينتزع السيطرة على الأرض من المعارضة كان ولا يزال يُترجم بانتزاع أوراق من الحل السياسي لتغيير وجهته. وقد تحوّل “ثلاثي استانا” (أو رباعيّها إذا أضيف النظام)، بفضل تركيا، الى محفل لإدارة تراجعات المعارضة وهزائمها، إذ تمكّن من سحب “الانتقال السياسي” و”هيئة الحكم الانتقالي” من التداول، وتلاعب بملف المعتقلين والمغيّبين الى حدّ طمسه. من هنا أن معادلة اللجنة الدستورية ليست سوى تعويض موقّت عن الخسائر، وقد تتغيّر في ضوء استعادة النظام السيطرة على محافظة إدلب.