عبد الرزاق الحسين
بعد صدور أسماء أعضاء اللجنة الدستورية عن الأمم المتحدة، جرى على المستوى السياسيّ والقانونيّ، وكذلك على المستوى الشعبيّ، نقاشٌ تميّز في جزء منه بالغضب من رافضي هذه اللجنة تناول بقسوة الأشخاص المقترحين لها، وإذا كان من حق الجمهور أن يبين رأيه في أمر ربما يكون مصيرياً للشعب السوري، فإنه بالمقابل من واجب رجال القانون تبيان الرأي القانوني في هذه القضية، بعيداً عن التوتر والردود الغاضبة.
ومن نافلة القول أنّ الدستور هو القانون الأسمى في الدولة، والذي يستوجب أن تتوافق معه كلُ القوانينِ، ويخضع له الجميعُ، لأنّه التّعبيرُ المكتوبُ عن إرادة الشعب، والعقدُ الاجتماعيّ الذي يُفترضُ أن تتوافقَ عليه القوى الاجتماعية والسياسية والأفراد، ليكون المسطرة التي تقاس عليها تصرفات متولّي الشؤونِ العامةِ، واتجاهاتِ كلّ المؤسسات في الدولة، لذلك يحاط صدور هذا النصّ بضمانات وإجراءات دقيقة تضمن تعبيره بصدق إرادة الناس في جوّ من الحرية.
وحريّ بنا القول أيضاً إنّ الدستور في بلادنا، ومنذ بداية الستينات من القرن الماضي لم يعد مداراً للاهتمام الشعبيّ، لأنّ الحكم لم يكن يستند إلى شرعية دستورية أو قانونية، بل إلى شرعية أخرى مختلفة عمادها الحزب القائد، والقائد المُلهَم، ويرتكز هذا الحكم في نهاية الأمر إلى سطوةِ وطغيانِ الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة، فلم يكن الدستور إلا وثيقةً شكليةً يفرضها تنطيم الدول في العصر الحديث.
وعندما بدأ الحراك الشعبيّ عام 2011 وتحوله بعد ذلك إلى حراك مسلح، كان يهدف إلى استبدال النظام الاستبداديّ القائم بنظام ديمقراطيّ يرتكز إلى إرادة الناس ورضاهم، ونظراً لتعقد المشهد السوري كان بيان جنيف 2012 وثيقةً أمميةً تهدف إلى حل القضية السورية، والذي جاء فيه أن الخطوات الأساسية لأيّة عملية انتقالية تشمل إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تهيّء بيئةً محايدةً تتحرك في ظلها العملية السياسية، وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل الصلاحيات التنفيذية، ويمكن أن تضمّ أعضاء من الحكومة والمعارضة ومن مجموعات أخرى… وعلى هذا الأساس يمكن أن يعاد النظر في النظام الدستوري والمنظومة القانونية، وأن تعرض نتائج الصياغة على الاستفتاء العام، تليها انتخابات حرة ونزيهة وتعددية لشغل المؤسسات والهيئات الجديدة المنشأة، وأنّ جميع المؤسسات الحكومية بما فيها دوائر الاستخبارات يجب أن تخضع لسلطة هيئة الحكم الانتقالية.
كما صدر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 لعام 2015 الذي أكّد على تأييد بيان جنيف المذكور كأساس لانتقال سياسي لأجل إنهاء النزاع في سورية، وذلك بسبل منها إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة، تخوّل سلطات تنفيذية كاملة، ضمن عملية سياسية تيسرها الأمم المتحدة بقيادة سورية، تقيم في غضون ستة أشهر حكماً ذا مصداقية، يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدّد جدولاً زمنيّاً وعمليةً لصياغة دستور جديد، تتلوه انتخابات حرةً ونزيهةً، تجري عملاً بالدستور الجديد تحت إشراف الأمم المتحدة.
ومن الواضح هنا أن بيان جنيف وقرار مجلس الأمن يجعلان تشكيل هيئة الحكم الانتقالية ضمن عملية سياسية تيسرها الأمم المتحدة، بدايةً وشرطاً لمسار يتضمن صياغة للدستور الجديد، وأنّ هذه الصياغة والانتخابات التي تليها منوطةٌ بهيئة الحكم الانتقالية وليس بغيرها، بحيث تغدو الهيئةُ المذكورةُ مرجعيةً للّجنة وهي التي تكلّفها بصياغة الدستور.
ولم ترد عبارة اللجنة الدّستورية في وثائقِ الأممِ المتحدةِ، ولكنّها ظهرت لأولِ مرّةٍ ضمن بيان مؤتمر سوتشي عام 2018 بعد التقدم الميداني لقوات النظام بفضل التدخل الروسي المباشر عسكرياً، وفي ظل فتورٍ دوليٍ واضحٍ في تطبيقِ بيانِ جنيف وقرار مجلس الأمن الدوليّ بما يتعلق بإنشاء هيئة الحكم الانتقالي، وتصدّر الروس لعمليّةِ الحلّ في سورية بما يصبّ في مصلحة بقاء النظام بشكله وأشخاصه، بحيث تكون اللجنة الدستورية وتشكيلها تجاوزاً لفكرة هيئة الحكم الانتقاليّة، والذهاب إلى ما يطلق عليه إصلاحاتٍ دستوريةٍ يليها استفتاءٌ شعبيٌّ لإقرار المنتج الجديد، تليها انتخابات رئاسية وعامة مما يعني أنّ مرجعية اللجنة الدستوريّة أصبحت تحت جناح الأسد ودستوره الصادر عام 2012 وفي ظلّ الأوضاع نفسها التي امتدت على مدى خمسين سنة من حكم الأسدين الأب والابن، وهو أمرٌ إن حدث فإنه بالتأكيد ينفي وجود البيئةِ الآمنةِ والهادئةِ والمحايدةِ التي تحدّث عنها بيان جنيف، لتجري في ظلّها العمليةُ السياسيةُ، وتعني البيئة الآمنة كما هو معروف مجمل الظروف والشروط السياسية والأمنية والقانونية التي تمكّن الشعب من ممارسة حقوقه، والتعبير عن رأيه بحرية، وتعطي الجميع فرصاً متكافئة في العمل السياسي والمدني، ومن البديهي أنّ انتفاءَ وجود هذه البيئة يبقي الأوضاع كما هي في سورية على ضوء سيطرة النظام على كل تفاصيل الحياة في البلاد، وفي ظلّ منظومته القانونية التي أقامها على مدى عقود، مما ينفي أيّ فرصة تمكّن الشعب السوريّ من التعبير عن رأيه بحرّية وتقرير مستقبله.
وعلى الرغم من حرص روسيا على أن إشراك المبعوث الأممي في إدارة عملية تشكيل اللجنة الدستورية، وربطها بالأمم المتحدة، إلّا أنّ حقيقةَ الأمرِ أنّ دورَ الأمم المتحدة هنا ليسَ أكثرَ من دور الميسّر، وأنّ مآلَ الأمورِ في المنتج النهائيّ للجنة المذكورة عائدٌ للمنظومة القانونية والمؤسسية لنظام دمشق، وهذا ما يتبين جليّاً في اللائحة الداخلية للجنة التي أعلن عنها الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 27 أيلول 2019 التي يؤكد فيها أنّ اللجنةَ الدستوريةَ تقوم بإصلاح دستوري يُطرح للموافقة العمومية كإسهام في التسوية السياسية في سورية، وللجنة أيضاً مراجعة دستور 2012 أو تعديله أو صياغة دستور جديد، أمّا عدم تحديد مدة زمنية لعمل اللجنة وترك الأمر مفتوحاً، فإنه عامل آخر يعطي الفرصة لروسيا والنظام للماطلة وترتيب أمورهما وإحداث تغييراتٍ على الأرض تعزّز موقفهما، بما يبقي الأوضاع على حالها ويبعد اللجنة عن فكرة هيئة الحكم الانتقالية الواردة في القرارات الدولية ويجعل الأمرَ مجرد تغيير دستوريّ ضمن أطر ومنظومة النظام نفسه، في خطوة تمنع بالنتيجة إحداث تلغي فكرة البيئة الآمنة والانتقال السياسي المنشود، وتدمج النظام مجدداً في المنظومة الدولية، وكأنّ شيئاً لم يكن خلال السنين الماضية من نضالات الشعب السوري نحو الحرية ودولة القانون والمؤسسات، عدا عن طيّ مسألة المحاسبة والعدالة الانتقالية، وهذا ما يؤدي إلى استمرار المعاناة والتوترات الدائمة مادام الحل لا يحقق حتى جزءاً يسيرا مما أراده السوريون عندما خرجوا عام 2011.
المصدر: الرقة بوست