موفق نيربية
قام المتظاهرون في منطقة إدلب- سوريا يوم الجمعة الماضي برفع شعار «اللجنة الدستورية شرعنة للنظام، وخيانة للثورة»، تعبيراً عن الغضب العارم من إعلان الاتفاق على تشكيل تلك اللجنة بشكل رسمي من قبل الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه غير بيدرسون، وعلى ما يعنيه ذلك من احتمال أن يصبّ في تيّار إعادة تأهيل النظام، وينحرف بالمسار ابتداء من دستورٍ، لا من تشكيل هيئة حكم انتقالية كان بيان جنيف 2012 قد أعطاه الأولوية على أي خطوة أخرى في العملية السياسية.
بتعبير آخر، يقول سوريون كثر إننا ثرنا من أجل الحرية والكرامة، وليس من أجل دستور لن يغيّر شيئاً، مع نظامٍ لم يعرف تطبيق الدستور في حياته الطويلة. المسألة هي الانتهاء من هذا النظام ونيل الحرية أولاً، ثم نصل إلى صناعة الدستور وتصديقه. وكان المسار العملي محرّضاً لهذه الهواجس، من خلال الطروحات الروسية التي وصلت إلى حدّ تقديم مشروع روسي للدستور. واستخدمت تلك الاستراتيجية لحرف الأنظار عن مسائل وقف إطلاق النار وتحرير المعتقلين، وحتى عن مراحل مسار جنيف، الذي يضع الجميع في غرفة واحدة بشكل مباشر.
وهنالك وجوه أخرى للموضوع، منها ما يقدمه أرشيف الأمم المتحدة من جهود حل النزاعات في أكثر من مكانٍ في العقود الثلاثة الأخيرة، إذ غالباً ما كانت تعتبر تصنيع مشروع الدستور، مكوّناً حيوياً في حلّ النزاعات والمصالحات الوطنية. ومن حصيلة تلك الخبرات أهمية الانتباه إلى المسائل الأمنية، التي يمكن أن تمنع حدوث مسار دستوري بشكل شفاف ومفتوح، وحدث ذلك في إثيوبيا وكمبوديا مثلاً (كما ورد في إحدى أوراق الأمم المتحدة عام 2003). وكذلك التنبيه من التداخل ما بين ذلك المسار ومسار التوصل إلى اتفاق سلام، كما حدث في البوسنة والهرسك أو في زيمبابوي. ينبغي أيضاً تفكيك مكونات (متفجرات) الميدان، خصوصاً تلك التي تنعكس مباشرة على الحوار الدستوري، مثل ضبط العلاقة عملياً بين جميع أصحاب المصلحة وتأمين التوافق بينهم. فقد ساعد السياق الدستوري في نيكاراغوا أواخر التسعينيات مثلاً على التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المتصارعة بعد سنتين أو ثلاث سنوات، إلا أن نقاطاً مهمة بقيت بدون اتفاق مبدئي حولها، حتى انتهى النزاع واضطر الجميع إلى العمل ثانيةً على تعديل الدستور من جديد، بما في ذلك نقطة أساسية في طبيعة وتفصيل الديمقراطية المطلوبة.
أثبتت التجارب الأممية السابقة أيضاً، أنه عندما يتحرك قطار الحوار حول الدستور والنزاع مازال ساخناً ومستمراً، لا يمكن لذلك أن يساعد على التوصل إلى عملية سياسية، فهنالك حدٌ أدنى من الشروط التي ينبغي توفيرها قبل بداية النقاش الدستوري، ومن ذلك ضمان وقف نهائي مقنع لإطلاق النار والعمليات العسكرية والأمنية.
في سوريا، هنالك حساسيات كبيرة تختبئ أحياناً خلف عناوين مخادعة أخرى. من ذلك ما يتعلق بحقوق الأكثرية والأقلية، والتعارض الحتمي ما بين حقوق «المواطنة المتساوية» المطلوبة والأساسية، وحقوق المكونات أو الأقليات أو ما شئتم من تسميات تثير بذاتها حساسيات كبيرة. يطمح المكوّن الرئيس إلى دولة ديمقراطية واضحة، تسود فيها وتحكم الأكثرية النيابية، أو تلك التي تنتخب الرئيس، في نظام برلماني أو رئاسي، في حين يتمسك أيّ مكوّن له هواجسه ومخاوفه المشروعة، بأن يحظى بضماناته من خلال الدستور. يكون الشعب في الحالة الأولى مجموع أفرادٍ مواطنين وحسب، وفي الثانية تُضاف سمة أخرى هي كونه مجموع «مكونات».
هكذا تـَشكَّل في بلدان عديدة خطان: أحدهما دستوري، وآخر ديمقراطي، وللطرف الأول في الولايات المتحدة اسم آخر هو «الجمهوريون». يشدّ الديمقراطيون هنالك باتجاه التمثيل الأكثري الذي يحظون به غالباً، ويشدّ الجمهوريون باتجاه التمثيل المعتمد على الانقسام إلى ولايات متباينة، وتلعب دوراً في تشكيل مجلس الشيوخ بإرادات محلية، وكذلك في حساب الأصوات في الانتخابات الرئاسية.. وغير ذلك.
في سوريا، ليس لدى الديمقراطيين رغبة واضحة في التخلي عن حقوق المواطنة المتساوية التي تتشكل من خلالها الأغلبية والأقلية، وذلك طبيعي بالنسبة لهم، يستعيدون به إرادتهم المسلوبة لعقودٍ طويلة، وينهون استبداداً مشهوداً في تاريخ البشرية الحديث. ومن جهة مقابلة، ليس لدى الدستوريين أي سبب للتنازل عن حقهم بضمانات كافية مسبقة القواعد والنواظم، تمنع عنهم شر أي طغيانٍ محتمل لمكون الأكثرية، عندما يتجسد ذلك بأكثرية انتخابية، ذات سلطات غير محدودة في الدستور، إضافة إلى ذلك، هنالك «حملة أسهم» كبار من خارج السوريين أنفسهم، يتفق أغلبهم مسبقاً على دستورية الحل المقبل للقضية السورية.
فإن كان الروس يرغبون بشكل ثابت على طول المسار افتراضاً، بأن يكون ذلك المسار مدخلاً لإعادة إحياء نظام الأسد وتأبيده، فأصحاب الأسهم الآخرون يكرهون ذلك، وقد نمت تلك الكراهية مع تطور تجربتهم مع ذلك النظام وسلوكه، وإلا فلم ترافق الإعلان عن تشكيل اللجنة الدستورية بخطوات باتجاه مساءلة النظام ومحاسبته، تقودها ألمانيا، وبتصريح لبومبيو حول استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية في مايو المنصرم هناك، ثم بتصريح لبيدرسون حول أنه آن الأوان لتبادل واسع النطاق للأسرى؟
جاء تشكيل اللجنة الدستورية تنفيذاً لاتفاق في سوتشي أوائل عام 2018، للالتفاف على حالة الجمود التي أصابت المسار السياسي السوري، بفعل إصرار نظام الأسد على تحقيق تغييرات على الأرض تجعل ميزان القوى لصالحهم، وكذلك بدفع من حرصهم على التملص من أي التزام بالشرعية الدولية، وقرارات مجلس الأمن، رغم كونها قد شهدت تراجعاً مرةً بعد أخرى، من بيان جنيف إلى اتفاقات فيينا وصولاً إلى القرار 2254 الذي اعتمده قرار تشكيل اللجنة الدستورية من حيث المضمون أساساً له ومستنداً.
كان قرار مجلس الأمن ذاك بدوره طموحاً كما يبدو، حين تكلم عن مهلٍ زمنية ومخطط عملٍ محدد، رغم تأكيده في فقرته الأولى على تأييده لبيان جنيف وبياني فيينا، في إطار السعي إلى كفالة التنفيذ الكامل لبيان جنيف كأساس لانتقال سياسي. وتسليمه بالصلة الوثيقة بين وقف إطلاق النار وانطلاق عملية سياسية موازية، في فقرته الخامسة ثم الفقرتين التاليتين. وأكد القرار أيضاً في فقرتيه 12 و13 على مسألتي تحرير المعتقلين ووقف الهجمات ضد المدنيين فوراً. فوراً تلك كانت طويلة، واستغرقت حوالي أربع سنواتٍ حتى الآن. لقد عرقل النظام السوري تلك الخطوة لفترة طويلة.. جداً. فربما، لو أن أنصاره خرجوا – أحراراً- في تظاهرة سيكون شعارهم معاكساً، «اللجنة الدستورية شرعنة للثورة، وخيانة للنظام»، طبعاً بلغتهم المختلفة. وفي ذلك أيضاً بعض الحقيقة للمفارقة، لأن في الأمر اعترافاً من قبل النظام أكثر من أي مرة سابقة بالمعارضة على قدم المساواة.
بذلك قد تكون اللجنة الدستورية مدخلاً للشرور أو مخرجاً لها، وقد تكون خطوة جديدة في الفراغ، أو فتحاً سيجري تذكره في المستقبل بالخير، أو لعله مجرد مقدمة لتجميد الصراع، إلا أن الأكثر أهمية الآن ودائماً، هو التركيز على تهدئة الضجيج والتركيز على استعادة السوريين لوحدتهم على أساس ثوري، وتنظيم صفوفهم، الأمر الوحيد الذي يمكن أن يمكنهم من استعادة ما يخصهم من أسهم في قضيتهم.
المصدر: القدس العربي