أيمن أبو هاشم
سبق أن وصف وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر منطقة الشرق الأوسط بأنها “وسط العالم ” وقال عبارته الشهيرة: ” إن من يسيطر على وسط العالم يسيطر على كل العالم “. اتضح من خلال طبيعة الأحداث التي عصفت بهذه المنطقة في العقد الأخير، أن مشاريع السيطرة عليها، لم تعد حكراً على الاستراتيجية الأميركية تجاهها، إذ أدت المتغيرات الكبرى في زمن الانتفاضات والثورات العربية، التي فشلت محاولات احتجازها وصد رياحها، إلى انكشاف سياسات دولية وإقليمية، تحاكي نظرية كيسنجر وتؤكد حضورها المركزي، في استراتيجيات تلك الدول على نحوٍ كبير. لا يمكن تفسير حمّى التدخلات الخارجية في الدول العربية “سوريا مثالها الصارخ” بالعودة إلى إحالات كلاسيكية، تقيس مستويات الصراع على النفوذ بالمنطقة، بذات أدوات التحليل التي حكمت حقبة الحرب الباردة، وما نجم عنها من محاولات أمريكية لفرض نظام قطبي أحادي على العالم. تلك الإحالات التي كانت ترى أهمية المنطقة العربية، بالنسبة إلى دول لديها طموحات تتجاوز حدودها، بوصفها إحدى ساحات الصراع الدولي وليست ساحته الحاسمة. المفارقة أن هذا التحول في النظام الدولي الراهن، والذي تتكثف حدة استقطابه ضمن الجغرافية العربية وعلى تخومها، اتخذ من ثورات الشعوب العربية ضد أنظمتها الاستبدادية، مدخلاً أساسياً لإعادة رسم الأدوار الإقليمية والدولية لأطرافه وقواه. المفارقة الأكبر من ذلك، تكمن في شرعنة الاحتلالات التي نجمت عن تلك التدخلات، تحت غطاء “مكافحة الإرهاب”. عدا عمّا وفره هذا الغطاء الواسع، من حجب المطالب التحررية العادلة للشعوب، وتمويه جرائم الأنظمة في معرض قمعها لكل من ثار عليها، كي يتم حرف الأنظار عن حقيقة المشاريع والأهداف المضادة للثورات، ومساهمات قوى التدخل والهيمنة الخارجية في محاولات إجهاضها وإفشالها. بمعنى أوضح، كانت إدارة التناقضات والخلافات البينية بين اللاعبين الخارجيين، أبعد ما تكون عن الحرص على استقرار المنطقة كما يتوارد في خطاباتها المعلنة. بل تعميق وإطالة المشكلات والمآسي الناجمة عن الصراع بين الأنظمة وشعوبها، وما عاد ينطلي على الشعوب تغليف مشاريع السيطرة والنهب والتدافع على تقاسم المصالح والنفوذ، بمرصوفة من الشعارات المزيفة مثل “دعم الديمقراطية في الدول العربية، أو ما يقابلها من دعوات الحفاظ على الدول الوطنية وسيادتها، وما بينهما من شعارات مواربة على محاولات تمزيق العالم العربي واستباحه دوله “.
تكفي المعطيات والوقائع التي تسمُ الواقع العربي خلال العقد الجاري، للوصول إلى الاستنتاجات التالية:
أولاً: انعكست المتغيرات التي أصابت النظام الدولي الراهن، وتصاعد نزعات السيطرة والهيمنة والنهب في سياسات القوى الكبرى والفاعلة والطامحة، بصورة فادحة على قواعد التوازن الدولي التي سادت خلال الحرب الباردة، وتراجعت مسيرة حقوق الإنسان على المستوى العالمي، واهتزت مبادئ القانون الدولي، وبان عجز مؤسسات الأمم المتحدة، في كل ما يتعلق بقضايا المنطقة ومشكلاتها التاريخية العالقة بين أشكال الاحتلال والطغيان والظلم.
ثانياً: تبدّى جلياً، أن الشعوب العربية التي نهضت لإعادة بناء دولها الوطنية على قيم الحرية والديمقراطية والعدالة، دفعت فاتورة باهظة وماتزال، نتيجة تدّخل وتحكّم القوى الدولية والإقليمية بخيوط الصراعات الداخلية، واستغلالها حقبة الربيع العربي، لاستنزاف مقومات نهوض الأوطان، ودعم قوى الاستبداد والتبعية، بما يضمن مصالحها على حساب حقوق الشعوب وتطلعاتها التحررية
ثالثاً: كان الكيان الصهيوني هو المستفيد الأكبر من عودة الثورات المضادة، وتحديداً من التدخل الروسي والإيراني للحفاظ على النظام السوري، باعتبار كل تهديد يطال إسقاط هذا النظام الذي حرس أمنه الاستيطاني لأكثر من أربعين عاماً، هو تهديد يمس مستقبل وجوده في فلسطين والمنطقة، فضلاً عمّا كسبه من هرولة الأنظمة العربية الخائفة على عروشها من فتح بوابات التطبيع معه.
تلك الاستنتاجات الأوليّة التي لا يغير منها كثيراً، ادعاءات أميركا وإسرائيل مواجهة إيران، وما يقابلها من ضغوط إيران وأدواتها في المنطقة ضد دول الخليج، ضمن لعبة مشروطة بحدود الحفاظ على “الفزاعة الإيرانية”. من الخطأ الكبير البناء عليها كاستنتاجات نهائية أو محددات حاسمة لمصير المنطقة، ففي الوقت الذي تعرّضت فيه الثورة السورية لانتكاسات كبيرة، بسبب التواطؤ الدولي والإقليمي عليها، وإطلاق يد النظام الأسدي في قتل وتهجير الشعب السوري، وفي الوقت الذي أحكم نظام السيسي في مصر قبضته الأمنية، ولم يترك فرصة لوأد مفاعيل ثورة كانون ثاني /يناير وخنق مسارها الديمقراطي، وفي حين تغرق اليمن وليبيا في مستنقع الصراعات والحروب، على حساب مقدرات البلدين المستنزفين. تعود رياح الثورات مجدداً رغم كل محاولات القضاء على فكرة التغيير الديمقراطي في العالم العربي، وتنبعث الآمال مجدداً برسوخ تلك الفكرة في تفكير ووجدان الشعوب.
خالَ لكل مناهضي وأعداء الثورات، أن الدرس السوري المفجع كفيل لوحده، باستكانة الشعوب العربية إلى أجل غير مسمّى، فإذ تخيب ظنونهم، وتنهض الثورة في الجزائر بكل عزم وعنفوان، ويزيح السودان بثورة شعبية عارمة نظام البشير، ويخرج أحرار مصر عن صمتهم ويستعيدون صرختهم الأولى، فيما يفاجئ العراق حتى أكثر المتشائمين، وينهض من كبوته، معلناً التحاقه بثورات الحرية والكرامة، في وجه أدوات وميلشيات نظام الملالي البغيض. على وقع تلك الثورات والانتفاضات المدويّة التي تسبح ضد مخططات قوى الاحتلال والهيمنة، وتستعيد زمام المبادرة في مواصلة معارك التحرر من أنظمة الطغيان والتبعية، يمضي قطار التغيير رغم المسالك الوعرة، وتسطّر إرادة الشعوب الحرة أفق خلاصها.
المصدر: اشراق