د _ معتز محمد زين
لعل واحدًا من أهم عوامل النصر في معركة مصيرية هو قدرتك على تقديم نموذج بديل أكثر نفعًا وجذبًا وإقناعًا للمجتمع من النموذج الذي يطرحه عدوك. وإن واحدًا من أهم عوامل الهزيمة فشلك في تقديم هذا النموذج.
ففي الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى منطقة شرق الفرات والعمليات العسكرية التي يقودها الأتراك بهدف تحجيم سيطرة الميليشيات الكردية الانفصالية على جزءٍ من سورية، وفي الوقت الذي يسود فيه نوع من الهدوء النسبي في إدلب وريفها حيث تسيطر فصائل الثورة السورية – وعلى رأسها هيئة تحرير الشام – على مفاصل المجتمع هناك، فإن الظروف تكاد تكون مناسبة جدًا لتقديم ” النموذج البديل ” للحكم العادل وقيادة المجتمع عبر ترسيخ مبادئ المساواة والحرية وإبراز نموذج من الحياة المدنية الفعالة والحية والواعدة في الشمال السوري المحرر. إن القدرة على تقديم نموذج ناجح للحكم والثقافة والقضاء والتعليم يشكل التحدي الأهم لأصحاب القرار في إدلب وما حولها في هذه المرحلة، والهدف الأبرز الكفيل بإعادة الثقة لجمهور الثورة وإقناعهم أن التضحيات التي قدموها لم تذهب هباءً، كما أن هذا النموذج – لو تحقق – سيشكل عامل جذب لكل الكوادر والكفاءات والأموال التي غادرت المنطقة تحت ضغط الواقع الصعب – بما في ذلك الكفاءات التي تسكن مناطق النظام – الأمر الذي سيشكل داعمًا قويًا لإعادة البناء على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية.
ما دفعني للكتابة عن هذا الجانب – بصراحة – الأخبار التي وصلتني من عدة جهات موثوقة وتتحدث عن زيادة نسبة الفساد والرشوة والمحسوبيات والظلم الاجتماعي في الشمال المحرر إلى الحد الذي تجاوز مرحلة التصرفات الفردية ليقترب من كونه ظاهرة، فمثلًا يمكن لذات الجرم أن يتسبب في سجن إنسان لعدة أشهر وآخر لعدة أيام ، فقط لأن الثاني لديه علاقة قوية مع أحد المتنفذين في الفصيل الفلاني مع أن كلًا منهما ارتكب نفس الجرم في نفس الموقع وذات الظروف ؟؟!!!. في الواقع فإن مثل هذه الممارسات أخطر على مجتمع الثورة من القصف الجوي، لأن مثل هذه التصرفات تعيد الناس إلى نقطة البداية التي من أجلها انتفضوا وثاروا ودفعوا الثمن الذي لا يمكن لمجتمع أن يتحمل دفعه.. إن هذه الممارسات تزرع اليأس في قلوب جماهير الثورة وتقتل روح التمرد فيهم وتحاول أن تقنعهم بفشل الثورة التي لا تكاد تجد مثيلًا لها في التاريخ الحديث – على مستوى حجم التضحيات والثبات والإصرار الذي أظهره أبناؤها والمؤمنون بها وعلى مستوى حجم القوى العالمية الميدانية والإعلامية والسياسية التي تعاونت لوأدها والقضاء عليها – وهذه جريمة حقيقية لها أبعاد نفسية وفكرية وعقدية خطيرة جدًا ستظهر نتائجها في الجيل القادم.
كنا نستحضر الكثير من المبررات للأخطاء التي تقع هنا وهناك من قبل الفصائل ونتعامل معها بحسن الظن ونعتبرها تصرفات فردية شاذة عندما كانت نيران المعارك تبهر العيون وأصوات البراميل تغطي على صرخات العقلاء ودخان القذائف يحجب الرؤية عن أصحاب البصائر النفاذة، أما اليوم فما المبرر للتغاضي عن مظاهر الفساد والاستبداد وسوء الإدارة وجور القضاء والمحسوبيات؟؟!!! قد يظن البعض أن إصلاح هذه المؤسسات غير ممكن بسبب عدم توفر الإمكانات المادية اللازمة، وهذا صحيح لو كان المطلوب إنشاء مؤسسات من نقطة الصفر أما وأن المؤسسات موجودة أصلاً بكوادرها ومكاتبها فالأمر لا يحتاج لأكثر من قرار جريء حاسم بتعيين شخصيات – نظيفة موثوقة مشهود لها بالنزاهة والكفاءة والاستعداد للتضحية في سبيل المجتمع – على رأس بعض المؤسسات وإطلاق أياديهم بشكل كامل وبصلاحيات غير مقيدة لتطوير تلك المؤسسات ورفع مستوى أدائها إلى الحد الذي ينفخ الروح في جسد المجتمع ويعيد إليه حيويته وثقته بذاته وبثورته. مع وضع هيئة رقابية مسؤولة عن متابعة عمل وإنجاز تلك المؤسسات ومحاسبة تلك الشخصيات بقسوة في حال محاولتها استغلال مناصبها لتحقيق مكاسب شخصية أو عائلية أو فئوية.
أهم المؤسسات التي تحتاج إلى هيكلة سريعة في هذه المرحلة هي: المؤسسة الأمنية والتي تضمن استقرار أمن المجتمع وتضع حدًا لعمليات الخطف والسرقة والاعتداء وتنمر بعض المتنفذين وتهيئ بيئة مناسبة لنمو وتطوير كل الفعاليات الأخرى الثقافية والاقتصادية والتجارية والمهنية والفنية. _ المؤسسة القضائية والتي تعنى بوضع مرجعية واضحة ممنهجة للأحكام القضائية وتأهيل القضاة أخلاقيًا ومهنيًا وفكريًا وإنسانيًا لتحمل هذه المسؤولية الكبيرة، والأهم مراقبة القضاة المنحرفين ومعاقبتهم عند استخدام سلطاتهم لتحقيق مكاسب ذاتية أو اجتماعية أو فصائلية تبعدهم عن روح العدالة والمساواة. _ هيئة تفتيش ورقابة تعنى بالقضاء على مظاهر الفساد والرشوة والاحتكار وسوء الإدارة في المؤسسات أو الأسواق أو الدوائر الحكومية. _المؤسسة التعليمية وتعنى بتطوير العملية التعليمية والتربوية وتحفيز المبدعين وفتح المجال أمامهم لأخذ دورهم في تطوير مجتمعهم والنهوض به. _ المؤسسة الاقتصادية والتي تسعى إلى رفع المستوى المعيشي للفرد والمجتمع عبر تسهيل عمليات الاستثمار والصناعة والتجارة والإفادة من الموارد الزراعية وتأمين السوق المناسبة لتصريفها ووضع قوانين تجذب أصحاب رؤوس الأموال إلى المنطقة وتحريك الحالة الراكدة وتأمين فرص عمل حقيقية للشباب.
إن مجرد اختيار شخصيات نزيهة على رأس تلك المؤسسات بصلاحيات واسعة، والبدء بتشكيل خلايا ميدانية فعالة تتحرك بشكل جدي وملموس لتطوير تلك المؤسسات بما يخدم السكان سيعيد الحياة من جديد للمجتمع الذي أنهكته السنوات الأخيرة وسيضخ في عروقه دماءً جديدة ويفجر طاقات أبنائه لتقديم النموذج البديل الذي تطمح إليه جماهير الثورة منذ سنوات
إن المعركة ليست فقط بالسلاح وإن النصر ليس فقط بتحرير الأرض. والأمن والاستقرار والثقافة والفكر والتقدم التكنولوجي والمستوى المعيشي الكريم والاستقرار النفسي والاجتماعي هي ساحات أخرى للتنافس وتحقيق الانتصار وإنفاذ الفكرة.
وتهاون أصحاب القرار – وعلى رأسهم قادة الهيئة – بتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي وتحقيق العدالة والقضاء على مظاهر الفساد والمحسوبيات ضمن حدود امكاناتهم والفشل بالتالي بتقديم نموذج بديل عن النموذج الأسدي أفضل منه على مستوى الحقوق والحريات والشفافية سيعني – بقصد أو بدونه – استدعاء النظام إلى الشمال السوري والقبول بالاستبداد كخيار لا بديل عنه. وهذا بحد ذاته جريمة بحق الثوار والشهداء والأحرار والمهجرين والقيم والمبادئ والإنسانية.
المجتمع الذي تنخر جسده مظاهر الفساد والظلم والفقر والجهل وتغيب عنه قيم العدالة والمساواة والحرية لا يمكنه أن يقاوم عدوًا خارجيًا يهدد كيانه، وهو معرض في أي لحظة للانهيار من الداخل فضلًا عن احتمال انهياره بفعل الضربات الخارجية. وبالمقابل فإن المجتمع المتماسك داخليًا والذي نجح بإرساء قيم العدالة والمساواة والتنمية والحرية كمكونات أصيلة في بنية المجتمع وثقافته قادر على الصمود أمام أي عدوان خارجي يحاول انتزاع هذه المكتسبات وسلب تلك القيم منه. عندما تضعف العدالة فماذا سوى أن يقوى الظلم. وعندما تغيب شمس العلم فماذا سوى أن يسطع نجم الجهل. وعندما تخنق الحرية فماذا سوى أن تتنفس العبودية. وعندما تفشل الثورة فماذا سوى أن ينجح الاستبداد.