د _ طلال مصطفى
منذ اليوم الأول في 17 تشرين الأول/ أكتوبر، تشير إلى أنها ثورة حقيقية، وهي حلقة من سلسلة ثورات الربيع العربي التي انطلقت عام 2010، وما قرار الحكومة اللبنانية الخاص بفرض رسوم مالية إضافية على استخدام “الواتساب” للمحادثة، الذي أدى إلى نزول اللبنانيين إلى الشارع للاحتجاج عليه إلا “القشة التي قصمت ظهر البعير”، وقطعت العلاقة بين اللبنانيين والنظام السياسي الطائفي الحالي، حيث تبيّن أن هناك حالة من الاحتقان الشعبي، وبخاصة من الشباب اللبناني، على واقع حكومي متخم بالفساد والنهب منذ سنوات، وعلى تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، حيث وصلت نسبة البطالة إلى 38 بالمئة في لبنان عامة، و60 بالمئة لدى الشباب اللبناني خاصة، وتراجعت القوة الشرائية بسبب تزايد الضرائب وتدهور الاقتصاد اللبناني، وتردت الخدمات الضرورية في الحياة اليومية، وما أزمة النفايات وتصريف القمامة لعام 2015 إلا مثال على ذلك، وزاد الحصار الاقتصادي من قبل الحلفاء والمانحين العرب وغيرهم على هذه الحكومة، والعقوبات الأميركية على “حزب الله” والشخصيات والمؤسسات والشركات المرتبطة به، من حدة الأزمة التي يمرّ بها الاقتصاد اللبناني.
قراءة أولية لمضمون شعارات الثورة اللبنانية في أيامها الأولى تشير إلى أنها التعبير السياسي الصادق عن الضمير الجمعي للشعب اللبناني المغيب منذ عدة قرون، من قبل بعض السياسيين المتنفذين في مؤسسات الدولة اللبنانية تحت هواجس طائفية زائفة، ومن ملامح هذا الضمير الجمعي الآتي:
1- خروج القسم الأكبر من المتظاهرين اللبنانيين في الأيام الأولى بشكل عفوي إلى الشوارع والساحات، من دون مراجعة قيادات أحزابهم الطائفية الممثلة بالحكومة الحالية، البرلمان والمؤسسات السلطوية الأخرى، ومن دون التقيد بقراراتهم وتعليماتهم المعتادة، حيث جاءت احتجاجات المتظاهرين على أحزابهم وقياداتها الفاسدة المشاركة في فساد حكومة المحاصصة الطائفية، وما شعار “كلن يعني كلن” إلا دليل ملموس على ذلك.
2- تصاعد شعارات ومطالب المحتجين من رفض الضرائب والفساد إلى ذروة المطالب، وهو إسقاط النظام السياسي الحالي (الرؤساء الثلاث) أي رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب. والدعوة إلى حكومة تكنوقراط انتقالية تعمل على الانتقال السياسي إلى دولة مدنيّة عابرة لمحاصصة الطوائف.
3- تعد هذه الاحتجاجات الأضخم بعد ثورة الأرز في 14 أيار/ مايو 2005، وما يميّز هذه الاحتجاجات عن ثورة الأرز، أنها ثورة عابرة للانتماءات الطائفية في كل لبنان، حتى في المناطق التي تقع تحت نفوذ “حزب الله” وحركة (أمل) كالنبطية وصور وبعلبك. وبالتالي لم تستطع القوى السياسية الطائفية التحشيد الشعبي بالمقابل، كما حصل في تحشيد ما يسمى بقوى 8 آذار مقابل قوى 14 أيار، وبالتالي تجاوز الطائفية التي صنعتها الأحزاب السياسية الطائفية المتحالفة موضوعيًا معًا ضد الشعب اللبناني، الذي تجاوزها في ثورته، بل يمكن القول إنه دفن آثار الحرب الأهلية الطائفية بمراسم مهرجانات الفرح في كل المناطق اللبنانية.
الطائفية التي دفنها اللبنانيون في احتجاجاتهم هي الطائفية السياسية، التي استثمرها بعض السياسيين (المنتمين إلى هذه الطائفة أو تلك) في العلاقات السياسية والوظيفية في مؤسسات الدولة، كما هو حاصل في الحكومة والبرلمان ومؤسسات أخرى. بهدف الحصول على امتيازات تخولهم متابعة الفساد والسرقة بذريعة التمثيل الطائفي، وبالتالي يحاول كل طرف طائفي في السلطة إظهار طائفته كقوة متجانسة يحتمي بها ويتهرب من الإجراءات القانونية التي من المفترض أن تمارس عليه، هذا ما ولّد كراهية متبادلة بين غالبية أفراد الطوائف اللبنانية التي لم تلد معهم، إنما اكتسبت وتكونت من خلال الممارسة الطائفية من قبل أحزاب سياسية طائفية كرّست ثقافة الخوف من (أفراد الطوائف الأخرى) لديهم، التي كرسها النظام السياسي الطائفي تاريخيًا بالدستور، وخاصة بعد بروز “حزب الله”، كقوة عسكرية طائفية مهيمنة على مفاصل الدولة اللبنانية، ما بعد التسعينيات من هذا القرن، وبالتالي استطاع هذا النظام السياسي اللبناني الطائفي استغلال هواجس ومشاعر اللبنانيين من بعضهم البعض، وتوجيهها نحو بناء نسق اجتماعي ثقافي سياسي من الكراهية والخوف، والاحتماء بهما من الآخرين، حتى جاءت هذه الثورة لتتجاوزها من خلال طرد الشخصيات السياسية الطائفية التي حاولت ركوب موجة الاحتجاجات والنزول إلى الشارع، والإصرار على شعار “كلن يعني كلن” أي عدم استثناء أحد من الشخصيات المتنفذة بالسلطة السياسية الطائفية، وقد نزعت الثورة الأسيجة الشائكة التي وُضعت بين اللبنانيين طوال عقود من الزمن.
4- بروز الانتماء الوطني اللبناني في الاحتجاجات (الضمير الجمعي) في الشوارع والساحات، من خلال رفع علم لبنان فقط، ورفض الرايات الحزبية السياسية الطائفية. حيث أعيد الاعتبار إلى العلم اللبناني كرمز للهوية اللبنانية الموحدة، على الرغم مما أصابها من تصدع وتفكك نتيجة الحرب الأهلية الطائفية والمحاصصة السياسية الطائفية، وتكريس أعلام الأحزاب الطائفية في المهرجانات والمناسبات الوطنية، خاصة مهرجانات “حزب الله” السياسية، خلف شعارات المقاومة والانتصارات الزائفة.
5- رفض السلوكيات العنصرية اللبنانية التي مورست بحق اللاجئين السوريين في سنوات اللجوء، التي تبين أن مصدرها السلطات السياسية الطائفية الرسمية، وما شعار “اللاجئين جوا وباسيل يطلع برا” إلا مثال ساطع على ذلك، ومن المعروف أن جبران باسيل أبدى رغبته في زيارة النظام السوري لمعالجة ملف اللاجئين السوريين أمنيًا، بعيدًا من المنظومة القانونية الإنسانية الدولية الخاصة بحقوق اللجوء.
الجميع يعرف أنه في السنوات الأخيرة من اللجوء السوري إلى لبنان حصلت حملة عنصرية ممنهجة من قبل المؤسسات الرسمية اللبنانية الطائفية ضد اللاجئين السوريين، وخاصة من وزير الخارجية جبران باسيل الذي صرح ذات يوم بأن “كلّ لاجئ سوري في لبنان هو مشتبه به كإرهابي، حتى يثبت العكس”، وقد شجّع ذلك مؤسسات رسمية أخرى على ممارسة العنصرية عليهم، لذلك جاءت شعارات وأهازيج المحتجين اللبنانيين المرحّبة باللاجئين السوريين والداعية في الوقت نفسه إلى طرد وزير الخارجية جبران باسيل، الذي قاد حملة الكراهية والعنصرية ضدهم، وإعادة الاعتبار إلى الثقافة الإنسانية المتجذرة في الضمير الجمعي للشعب اللبناني.
إن ترديد المتظاهرين اللبنانيين لشعارات وأهازيج المتظاهرين السوريين، في السنة الأولى للثورة 2011، وشعارات التضامن مع السوريين، يُعدّ ردًا قويًا على ممارسات الميليشيات الطائفية لـ “حزب الله” التي دخلت إلى سورية، وقتلت وهجّرت السوريين من بيوتهم، خوفًا من انتقال روح الثورة السورية إلى لبنان، التي بالفعل انتقلت إلى قلب لبنان من خلال أهازيجها وشعاراتها بنسختها ولهجتها اللبنانية، وخاصة أغاني القاشوش السورية، وعلى مسمع قادة الميليشيات الطائفية لـ “حزب الله”، وهذا ما يؤكد مقولة: إذا كان الاستبداد واحدًا في لبنان وسورية، فإن شعارات وأهازيج الحرية والكرامة أيضًا واحدة.
6- أكدت الثورة اللبنانية انتماء اللبنانيين إلى المحيط العربي الديمقراطي الشعبي أولًا، من خلال توجيه التحيات إلى ثورات الربيع العربي (سورية، العراق، السودان، تونس، اليمن، مصر، فلسطين… الخ). وهذا مؤشر على تحالف قوى الحرية والعدالة الاجتماعية، في وجه تحالف الاستبداد والفساد في الدول العربية كافة، ومؤشر أيضًا على زيف الانتماءات الطائفية والمذهبية وغيرها لدى اللبنانيين، التي حاولت الطبقة السياسية الطائفية الحاكمة تعزيزها وتكريسها عبر التاريخ السياسي اللبناني.
أخيرًا، بغض النظر عن مآلات الثورة اللبنانية، انتصارها أم إخفاقها كما حصل لدى أخواتها من الثورات العربية، يكفي القول إنها أعادت الروح للضمير الجمعي اللبناني الحقيقي المشبع بثقافة الحرية وحب الحياة، مقابل ثقافة الاستبداد والموت التي حاولت تكريسها قوى السلطة الطائفية المتحالفة معًا لعقود من التاريخ.
المصدر: جيرون