د _ حسام السعد
لا يمكن قراءة فيلم «الجوكر» 2019 لمخرجه ومؤلفه تود فيليبس، بدون الخوض في تفاصيل البعد السياسي والعنفي للحياة اليومية التي نعايشها. فإذا كانت نسخة «الجوكر» هي أمريكية بطابع محلي (بلدة غوثام في أوائل ثمانينيات القرن الماضي) فإن هناك «جواكر» تتواجد في كل المجتمعات، التي تغيب فيها العدالة الاجتماعية وعدم المساواة، وتمتلئ بجيش «المهمشين» الذين يشكّلون ديكوراً خارجياً للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في كل مكان.
يبدو الفيلم للوهلة الأولى وكأنه يتحدث عن فشل فردي لشاب يعاني من أزمات نفسية «العمل كمهرج»، لكن مع اللقطات المتتالية والكشف عن العوالم الداخلية لآرثر فليك (خواكين فوينكس) تتضح ملامح الفضاء العام الذي يتحرك فيه مع الشخصيات الأخرى.
استبعاد وسخرية
لا يستدعي الجوكر هنا فعل الضحك لدينا، أو لا يستدعيه وحده «إذا ما اعتبرنا سواد الكوميديا هو ضحك على أي حال»، لكنه في المقابل يثير لدينا أسئلة عن مفهوم الضحك، والفرق بينه وبين «السخرية والتهكم»، وكذا الأشخاص والمواقف التي تشكل مادة دسمة لـ«ملوك الكوميديا» في المجتمع الأمريكي.
فجأة سوف ينقلب كل شيء رأسا على عقب، وسوف يكشف لنا الفيلم البعد العنفي لـ«الضحك»، بدءا من تعرّض فليك للضرب والإهانة من قبل ثلة من صبيان أشرار في الحي، تأنيب سيدة لمداعبته ابنها الصغير في الحافلة، ثم استبعاده من عدة أعمال، بسبب أخطاء بسيطة، والسخرية منه من قبل موراي فرانكلين (روبرت دي نيرو) في برنامج يبث مباشرة على المشاهدين، وقبل ذلك هو إغلاق مكتب الخدمات الاجتماعية، الذي كان يزوّده بالعلاج الخاص به «وهو المريض بالسخرية والضحك». إلى هنا تبدو الأمور وكأنها لم تنفجر بعد «بكل ما يعنيه الانفجار»، لا يزال آرثر فليك يعتني بأمه، بدون أن يعرف من هو أبوه، ويبحث عن فئات اجتماعية في غوثام يجعلها «تضحك»، ولا يزال يحلم بأنه أحب جارته صوفي، ورافقته إلى كل عروضه الضاحكة، والتي نشك في ما بعد أنها من نسج خياله.
الطريق إلى العنف
إلى متى سوف يتحمل فليك سخرية الآخرين منه؟ يأتينا الجواب مباشرة من حادثة المترو، في لحظة تبدو لنا وكأنها لحظة انعتاق ضد العنف بوسيلة عنيفة أيضا. يطلق رصاص مسدسه الذي زوّده به صديقه للدفاع عنه، على ثلاثة رجال يعملون في «وول ستريت» بعد تعرضهم له بالسخرية والإهانة والضرب. هؤلاء الرجال «الطبقة» أيضا يمارسون دورهم في العنف تجاه جموع المهمشين، فتنعاهم وسائل الإعلام وطبقة السياسيين بأنهم رموز البلدة الذين اغتيلوا بدم بارد. من هنا، سوف تحل المشاكل على الطريقة ذاتها: القتل. فما دامت الحياة الأمريكية في غوثام قائمة على الانقسام الطبقي الصارخ، وعلى صعود نجوم السياسة والمجتمع على تفاصيل الحياة اليومية للناس في القاع، فإن العنف المضاد يبدو وكأنه الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام «جواكر» المدينة.
شيئا فشيئا، تتغير صورة الجوكر، الذي تظهر له أنياب وعلى وجهه تعابير الغضب والثورة. وتبدأ مظاهرات وشغب من قبل الجماهير التي ترتدي أقنعة الجوكر أمام منزل العمدة توماس واين. وفي مشهد بالغ المعنى، تصرخ الجماهير في الخارج ضد العمدة، بينما تدخل الكاميرا إلى حيث يتواجد العمدة وأثرياء المدينة، وهم يشاهدون فيلما لشارلي شابلن.
الكل يبجث عن الضحك إذن، حتى لو كان على حساب معاناة الآخرين. وبعد مصارحة العمدة له بأنه ليس أباه، كما ادعت أمه، يتلقى الصفعة الجسدية والنفسية التي ستترافق تتاليا مع تصفية الحسابات من قبل فليك، مع كل الذين سخروا منه أو كذبوا عليه أو مارسوا الإقصاء بحقه، أو حتى الذين يحاولون ذلك. هكذا يقوم بقتل صديقه «الذي سبق وأعطاه السلاح ليحمي نفسه» بسبب محاولة استجرار اعتراف منه يدينه بمقتل الرجال الثلاثة، وقبل ذلك يقتل أمه خنقا بعد أن اكتشف أنها كذبـــــت عليه، وظهر أنه ابنها بالتبني، وهي التي تم علاجها سابقا في مشفى للأمراض العقلية.
من تبقى إذن؟ موراي فرانكلين، صاحب أشهر برنامج كوميدي، الذي كان فليك مادة من مواد إحدى حلقاته في موجة السخرية والتهكم على موهبته وشخصه.
ثورة الجواكر
يرتب موراي لقاء مع فليك في برنامجه، كإمعان في السخرية من قبل موراي، لكن هذه المرة سوف تكون مباشرة ومتاحة أمام كل المشاهدين. وبعد أن يصر على تقديمه كـ»جوكر» كما يحب أن يكون عليه منذ الصغر، يدخل فليك ليوضح له «ولنا أيضا» عن الأسباب التي دفعت به للقيام بكل أعمال العنف التي قام بها. ما يقوم به فليك ليس صادرا عن شخص غير سوي ومريض عقلي، إنه تفسير لكل العنف الذي يتلقاه الأفراد في العالم المعاصر الذي نعيش فيه.
«ليس لديّ شيء لأخسره»، هكذا يبدأ فليك بالاعتراف؛ اعتراف يعري فيه بنية المجتمع الأمريكي، بل والمجتمعات جميعا، فالجميع والنظام الذي أنتم جزء منه: «تقررون ما هو صحيح وما هو خاطئ، ما هو المضحك أو لا».
هنا إذن، نستطيع استعادة الكثير من التحليلات التي تذهب إلى ما يؤسس للعنف الرمزي السائد في مجالات الحياة كافة، سياسية منها واجتماعية وثقافية. وتبدو جملة فليك بأنه قتل الرجال الثلاثة «بسبب أنهم مروّعون، وأن كل شيء في الخارج مروّع لدرجة تدفعك للجنون» هي بمثابة إطلاق شرارة ضد كل الشرور التي يرتكبها «كبار المجتمع وأثريائه» بحق كل المهمشين.
هنا وبعد أن يقوم بإطلاق النار على موراي في الاستديو، في برنامج بث مباشر «بسبب سخريته منه»، تخرج جموع الجماهير إلى الشوارع في حركات احتجاجية، وتبدأ أعمال من الشغب يُقتل فيها عمدة المدينة من قبل «جوكر» من المتظاهرين.
إنها إذن «ثورة جواكر»، ثورة المهمشين في قاع المجتمع، ضد كل أساليب الاستبعاد والإقصاء والعنف بأشكاله كافة، عنف يصبح الفرد فيه متواجدا بشكل مادي، لكن «بدون أن يلاحظه أحد» كما يقول آرثر فليك.
فيلم «الجوكر» ليس فيلما تشاهده للمتعة فقط، إنك بالتأكيد سوف تفكر مليا في كل تفاصيل الأفعال وفلسفة ما بين السطور، التي ترد على لسان آرثر فليك، الذي يبدو وكأنه ينبه العالم إلى الخراب الذي سيحل به، إذا ما تكاثرنا نحن المهمشمين واستمرت آليات العنف تجاهنا كما هي، بل وتزداد أيضا. وبالتأكيد فإنك قبل مشاهدة «الجوكر» لن تكون نفسك بعده، وأنت ترى حجم العنف الذي تكتشف أنه يُمارس بحقك من قوى وأنظمة تقرر حتى متى نضحك.
المصدر: القدس العربي