د _ معتز محمد زين
في مقدمة كتابها الشهير ” الحرب الباردة الثقافية ” تسهب الكاتبة (فرانسيس سوندرز) في شرح الأساليب التي اتبعتها وكالة الاستخبارات الأميركية حديثة التشكل بهدف منع الفكر الشيوعي من التمدد في أوروبا بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ودخول أميركا والاتحاد السوفيتي إلى العاصمة برلين والسيطرة عليها كليا. كان من ضمن أهم تلك الأساليب تشكيل منظمة ثقافية باسم ” منظمة الحرية الثقافية ” قدمت لها دعمًا كبيرًا وأنشأت لها فروعًا في 35 دولة وأصدرت أكثر من عشرين مجلة انتشرت بشكل واسع واستقطبت شرائح كبيرة من الجماهير والمثقفين.. ولم تكشف تبعية هذه المنظمة لوكالة الاستخبارات الأميركية إلا بعد عقود من تأسيسها.
كان لهذه المنظمة العديد من الأهداف الاستراتيجية في سياق الحرب الباردة بين الدولتين المنتصرتين على رأسها: _ استقطاب أكبر عدد من المفكرين والفنانين والموسيقيين وتجنيدهم لصالح دعم الثقافة الأميركية ورسم صورة وردية للمجتمع الأميركي والإنسان الأميركي في مخيلة الشعوب، في ذات الوقت الذي يتم فيه تشويه صورة الشيوعية ورسم صورة كالحة لها في مخيلة الشعوب. وذلك من خلال العديد من المجلات والصحف والمسارح ووسائل الاعلام ودور الإنتاج السينمائي. _ استقطاب أكبر عدد من المثقفين التائبين عن النهج الشيوعي والخارجين عن خطه العام ومنحهم منابر إعلامية لانتقاد الفكر الشيوعي من داخله وتدميره ذاتيًا كونهم الأعلم بزواريبه وتعرجاته ومواقع الضعف فيه. _ محاصرة المثقفين والفنانين الذين يبدون ميلًا نحو الفكر الشيوعي أو يرفضون الانضواء تحت سقف المنظمة ودعم خطها العام والتضييق عليهم ماديًا واعلاميًا واجتماعيًا ومحاولة تشويه صورتهم وعزلهم وخنق أصواتهم مما دفع بعضهم للانتحار كما حصل مع الروائي الأميركي الشهير ارنست هيمنجواي، وأحيانًا اغتيالهم بالسم كما حصل مع الشاعر التشيلي الشهير (نيرودا) الذي تدخلت المنظمة ” الواجهة الثقافية الناعمة لوكالة الاستخبارات ” لمنعه من الحصول على جائزة نوبل عام 1964 . لكنه نجح بعد سنوات بالحصول عليها ليتم اغتياله على يد وكالة الاستخبارات الأميركية بعد سنتين من ذلك.
لقد كانت هذه المؤسسة الثقافية مجرد قفاز ناعم لقبضة الاستخبارات الحديدية تحرك من خلاله عجلة الثقافة بما يخدم مشروعها، وهكذا هو الأمر بالنسبة إلى العديد من المؤسسات الإعلامية والدينية والسياسية والتجارية والاجتماعية والإنسانية والتي لا تعدو – في جوهرها – كونها ستارًا مخمليًا لمشاريع تديرها وكالات الاستخبارات العالمية.
في عالمنا العربي ومنذ عقود عمدت بعض الجهات المتنفذة إعلاميًا وسياسيًا وماليًا إلى تشكيل مؤسسات إعلامية وفنية ضخمة وبإمكانات مادية هائلة تجسدت بالعديد من الفضائيات ودور الإنتاج الدرامي والمنابر الإعلامية كان لها الدور الأساسي في تعويم الفن الرخيص وتقديم بعض ” الفنانات “المبتذلات كواجهة ثقافية للمجتمع. في الوقت نفسه عمدت تلك المؤسسات إلى محاصرة الفن الملتزم الهادف والضغط على المثقفين والفنانين الملتزمين بقضايا أمتهم حتى إن الكثير منهم صرحوا أكثر من مرة بأن تلك المؤسسات تحاول شراءهم وتحويلهم إلى سلعة مدفوعة الثمن ومفرغة من أي محتوى ثقافي أو أخلاقي. كما عمدت تلك المؤسسات إلى تنحية المفكرين والأدباء والعلماء وإبعادهم عن الأضواء كممثلين للشعوب ومعبرين عن نبضها الحقيقي في محاولة واضحة لتجهيل الناس وتوجيه الجيل الصاعد نحو المسائل التافهة بعيدًا عن القضايا المصيرية التي تحدد مستقبل تلك الشعوب وتحقق نهضتها. إن ما نراه في الدراما مثلًا من إشارات متكررة بشكل مقصود لبعض السلوكيات والتعابير والمظاهر والعلاقات المرفوضة في مجتمعاتنا والتي يحاول الاعلام غرسها في العقول والوجدان الشعبي العام على أنها طبيعية وواسعة الانتشار هو في الواقع جرعات مخففة من ثقافة يراد لها أن تصبغ المجتمع والجيل القادم تهيئة له لأحداث مهمة مقبلة.
أيضًا تقوم العديد من المؤسسات الإعلامية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الضخمة بدور مشابه تحاول من خلاله صناعة الوعي الجمعي والضمير الاجتماعي بما يخدم أهداف الأجهزة العالمية التي تقف وراءها وتحركها من خلف الستار.
والسؤال الذي لا مهرب منه. من هي الجهات الحقيقية التي تقف وراء تلك المؤسسات؟؟ وما هي الأهداف الاستراتيجية من إنشائها ومن برامجها المبتذلة التي تعمد إلى مسخ الهوية؟؟ وما الذي ينتظر المنطقة من أحداث ضخمة تتطلب التوطئة لها بنشر ثقافة عامة تتقبل تلك السلوكيات وتهضمها وتتفاعل معها؟؟
هذه التساؤلات يمكن طرحها أيضًا في سياق البحث عن تفسير لممارسات المؤسسات الأخرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتي لا تخدم سوى أعداء الأمة. ففي بداية الثورة السورية تساءل الكثير من السوريين. أين الضغط الشعبي العربي على حكوماتهم لوقف النزف السوري؟؟ لماذا لا تتحرك الحكومات والجيوش العربية لإنقاذ السوريين من المذبحة المصورة والتي ضجت بها شاشات التلفزة العربية؟؟ لماذا لم يتدخل العالم ” المتحضر ” إلا لوأد الثورة عندما وصل شبابها الى تخوم دمشق؟؟ لماذا يصمت الاعلام والهيئات الحكومية والمنابر الرسمية عن الاحتلال الروسي الإيراني لسورية وينتفضون اليوم بشكل مفاجئ لإدانة التدخل التركي – والذي يلقى قبول معظم السوريين – ضد الميليشيات الكردية الانفصالية؟؟
ما يعجز المنطق عن تفسيره من ممارسات تقوم بها تلك المؤسسات ضد طموحات شعوبها في محاولة واضحة لسلخها عن هويتها وزرع الفتن بين مكوناتها وإجهاض أي محاولة حقيقية لتطويرها يصبح مفهومًا عندما ندرك أن الكثير من هذه المؤسسات السياسية والثقافية والإعلامية والاجتماعية والدينية ليست أكثر من واجهات لوكالات الاستخبارات ومراكز الأبحاث في الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية (أميركا وبريطانيا وفرنسا وروسيا). إن الكثير من المؤسسات الإعلامية والثقافية والسياسية في بلادنا المستعمرة ليست في حقيقتها سوى نسخ مطورة عن ” منظمة الحرية الثقافية “.. ولعل الخوف على تلك المؤسسات من الانهيار هو أحد أهم أسباب اجتماعهم لإجهاض وإفشال الربيع العربي.
المصدر: اشراق