منير الربيع
إنها المرة الأولى التي يمرّ بها لبنان، بكل تركيبته السياسية والطائفية والاجتماعية، بهذا المخاض الذي يهدد القوى السياسية ومرجعيات الطوائف وسلطتها.
هي المرة الأولى بالتأكيد التي يواجه فيها حزب الله حراكاً من هذا النوع، يربكه لأكثر من سبب، أقلها أن أساليب تعامل الحزب مع ما يحدث تفتقد لمواكبة ابتكارات المنتفضين، والذي أصبحوا مجرد طلاب مدارس وأطفال وشباب جامعي. الحزب غير قادر على الدخول في مواجهة سياسية مع هذا الحراك، كما مجمل القوى السياسية طبعاً. ثم أن الشعارات المطروحة والمطالب كلها هي بالذات التي نمى عليها جمهور حزب الله، وكانت شعبيته نابعة أصلاً من المطالبة بحقوق الفقراء والمحرومين. ولذلك، أصبح الإرباك داخل بيئته بالذات.
التمسك بالحريري
هي المرة الأولى التي تتعرض فيها التركيبة السياسية لضربة قاصمة من هذا النوع، بخروج اللبنانيين من منازلهم ومدارسهم وأشغالهم إلى الشوارع والساحات، مطالبين بإسقاط النظام والتركيبة السياسية القائمة.
مع ذلك، ينظر حزب الله إلى “التركيبة التي أرساها” وفق التسوية الرئاسية وكرّست انتصاره، وكأنها هي المستهدفة. لذا، يعتبر أن ما يجري كأنه مؤامرة تستهدف انتصاراته اللبنانية، وتضرب ثقله في الميزان السياسي. وهو لا يفصلها عن ما جرى في سوريا سابقاً، وما يجري في العراق حالياً.
أفضل تعبير عن هذا الإرتباك يظهر في دفاع حزب الله عن “خصمه اللدود” (المفترض) في السياسة: الرئيس سعد الحريري. ويتمسك ببقائه رئيساً للحكومة، في الوقت ذاته الذي يتم اتهامه بأنه استقال بناء على ضغوط خارجية، وأن مطالبته بحكومة تكنوقراط تعبّر عن الرغبة الأميركية بإخراج الحزب من أي تركيبة حكومية، قفزاً فوق نتائج الإنتخابات النيابية. لكن كل هذه المقولات لم تنطل على أحد من الناس، التي باتت تضع جميع “السياسيين” ضمن سلّة واحدة: “كلّن يعني كلّن”. وعلى الرغم من خروج أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله لمرتين في أقل من أسبوع، ويُنتظر أن يطلّ للمرة الثالثة الإثنين المقبل، إلا أن المنطق الذي استخدمه لإجهاض التظاهرات، وتلميح لإمكانية إدارتها من قبل سفارات أو دخول أجهزة دولية عليها، لم يؤد غرضه.
فشل اللعبة الطائفية
منطق التخوين لم ينفع، ومحاولات استخدام السيناريو الأمني لتخويف المتظاهرين وتهديدهم، أيضاً لم ينفع. وكذلك بالنسبة إلى محاولات وسم التحركات خصوصاً في الشمال بأنها تنحو نحو التطرف وقابلة للاشتباك مع الجيش، سقطت أيضاً. بل وكلها كانت تحفز الناس على النزول أكثر إلى الشوارع. وقد تم اللجوء إلى تدخل الجيش والأجهزة الأمنية بالقوة لفتح الطرقات، لكن المتظاهرين عملوا على ابتكارات جديدة، ربما هي أكثر نفعاً في إقفال المرافق العامة والإدارات الفاسدة، مدعومين بخروج طلاب لبنان إلى الشوارع. وهؤلاء لا يمكن اتهامهم بأنهم يدارون من قبل سفارات أو أجهزة أو أحزاب. لا بل على العكس، الأجهزة والأحزاب والقوى الطائفية حاولت الضغط على إدارات المدارس والجامعات لمنع الطلاب من المشاركة بالتحركات.
لم تنجح أي من القوى السياسية في حرف مسار التظاهرات ومطالبها، لإغراقها مجدداً في الصراعات الطائفية، والعمل على شرذمة المتظاهرين مذهبياً ومناطقياً. بقيت طرابلس تهتف لصور والهرمل والنبطية، وحتى محاولات تصوير أن الانتفاضة انتهت باستقالة رئيس الوزراء السنّي.. فشلت. واستمرت التظاهرات وخصوصاً في طرابلس وصيدا والبقاع وبيروت، المدن السنية الأساسية التي رفضت أن تنصاع لمنطق العصبيات المذهبية. فالهدف أصبح عند الناس أبعد من السياسة ومن الطائفة. وحتى عندما أراد رئيس الحكومة سعد الحريري استمالة الانتفاضة ومشاركة مناصريه فيها لتحسين شروطه، لم يتحقق له ذلك. استمرت المحاولات وصولاً إلى مشهد أحد الجنود الذي اعتلى منصة طرابلس لإعلان انشقاقه. كان المشهد يراد به أن يحقق فعله بخبث، لتصوير طرابلس وكأنها تريد الانشقاق عن الدولة والجيش، في استعادة لمشهديات سورية، حين قام ضباط وعناصر من الجيش السوري بالانشقاق لأسباب غير متوفرة لبنانياً.
الأميركيون والفرنسيون
كل المحاولات فشلت، حتى استخدام العنف ضد المتظاهرين من قبل مناصري الأحزاب لم يؤد نتيجته. ولا شك أن القوى السياسية ستستمر في نصب الكمائن للمتظاهرين، ووفي محاولات زرع الشقاق فيما بينهم.
بعد الموقف الأميركي الذي نبّه لأي تعرض للمتظاهرين، تؤكد المعلومات أن الفرنسيين دخلوا على الخطّ، وفي إطار التواصل المستمر بين الفرنسيين وحزب الله، أبلغ الفرنسيون الحزب بأنه لا يمكن القبول بممارسة العنف ضد المنتفضين، كما كان لهم موقف سابق بأنهم يريدون حكومة جديدة بنهج جديد. وإن كانت لا تستبعد أي طرف سياسي.
لذلك تستمر قوى السلطة، وعلى رأسها حزب الله، لإيجاد صيغ متعددة لإفشال الانتفاضة أو تغيير مسارها، عبر محاولات إختراقها ببعض الجماعات. وهذا ما تبين عندما دعا حزب الله حلفاءه “الاستراتيجيين” الذين يؤيدون الحراك إلى قراءة خفايا ما يجري وعدم الاستمرار بحماستهم. وهذا يعني ضمناً تغيير أهداف وشعارات الانتفاضة، وحصرها في جانب واحد، يستهدف خصوم الحزب، سواء عبر الاتهامات التي بدأ بعض الناشطين المحسوبين على الحزب يكيلها إلى أحزاب معارضة له كالقوات اللبنانية والكتائب، أو عبر تحريك الاستدعاءات القضائية ضد السنيورة وميقاتي ومسؤولين آخرين في الطائفة السنية، بهدف استفزاز السنة مجدداً، وإخراجهم من مشهد التظاهرات، بعد فشل محاولات شيطنتهم خصوصاً في طرابلس وصيدا… وصولاً إلى زرع الشقاق داخل بعض المنتفضين في جبل لبنان وتحديداً في الشوف، عبر دخول حلفاء لحزب الله (القوميين السوريين) على خطّ التظاهرات، التي هدفت إلى إستفزاز الدروز، ولا سيما المؤيدين للحزب التقدمي الاشتراكي واستنفارهم بعد محاولة وضع شعار “الثورة” على نصب شهداء الحزب.
تشدد حزب الله
مسار الالتحاق بركب الحراك من قبل قوى السلطة بات مفضوحاً بالنسبة إلى المنتفضين. وهم يعلمون أن الأفرقاء السياسيين باستغلال الانتفاضة يريدون الدخول في عمليات تصفية الحسابات بين بعضهم البعض، وربما أيضاً ينوون تشتيت صفوف المنتفضين في الوقت ذاته. لكن المحاولات هذه انفجرت بوجههم، وخصوصاً حزب الله.
كل طرف من الأطراف حاول تجيير هذه التحركات لصالحه بوجه خصومه السياسيين. لكن الشبان والشابات أفشلوا ذلك. وهم يضعون لبنات جديدة لصيغة لبنانية جديدة ومبتكرة، سيطول بلا شك مسار تحقيقها. ويبقى السياسيون في تقاليدهم البائسة، يبحثون عن فرص التفافهم على الناس والحفاظ على مواقعهم. فالحريري وباسيل يهتمان في كيفية الحفاظ على موقعيهما حتى إن اقتضى ذلك غيابهما عن المشهد لفترة قصيرة، ويختبئون خلف حكومة تكنو- سياسية تكون لهما اليد الطولى في إدارتها، تمهيداً لعودتهما فيما بعد. أما حزب الله فيهتم بالحفاظ على المكتسبات التي حققها من التسوية، وغير مستعد للتضحية بها أو التنازل عنها.
ولذا، أبلغ الحزب، عبر معاون أمينه العام حسين الخليل، رفضه لحكومة التكنوقراط والإصرار على حكومة سياسية. وهذا ما أدى إلى سقوط كل المبادرات. وهو الأمر الذي تلطى خلفه باسيل عندما سربت أجواؤه أنه مستعد للخروج من الحكومة، فيما كان يعلم أن الحزب سيرفض حكومة غير سياسية. ما يعني أن عودته محتمة ومرتبطة بعودة الحريري وبقاء الحزب داخل الحكومة.
لم يطل موقف الحزب، حتى أطل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بموقف مريب، قال فيه إن الشعبين اللبناني والعراقي ينتفضان لأجل استعادة بلديهما من سيطرة خامنئي، الأمر الذي سيدفع حزب الله إلى التشدد أكثر، واعتبار ما يجري هو مؤامرة.
أما اللقاء الذي عقد بين الحريري وعون، فكان هدفه كسب المزيد من الوقت للبحث عن حلول، و”الحلول” الوحيدة بالنسبة إلى قوى السلطة، لا تزال محصورة في كيفية إجهاض الانتفاضة والبحث عن سبل خنقها وكتم صوتها وتشتيتها، والأمل بالعودة إلى المعادلة السياسية السابقة، مع إجراء إضافي بإبعاد حزبي “القوات” و”الاشتراكي”، تصفية لحساب معهما قبل الانتفاضة وبعدها، وبسببها أيضاً. هذا عدا عن مواجهة الانتفاضة نفسها، بالقوة إذا لزم الأمر.
المصدر: المدن