منذ إرهاصات الموجة الأولى من الثورات العربية، اتضح أن (مانيفيست) الشعوب الثائرة، يتجاوز تجارب المعارضات العربية الكلاسيكية، التي أخفقت في خلخلة بنية الأنظمة السلطوية، وبقيت عاجزة لعقود طويلة، عن إحداث إصلاحات أو تغييرات جوهرية في الحياة السياسية العربية. لم يكن خافياً منذ الصرخة الأولى في تونس، وانتقالها إلى مصر وليبيا وسورية واليمن، تقاطع هتافات ومطالب ثوار الميادين والساحات، على مقولة ” الشعب يريد إسقاط النظام ” من وحي إدراكهم الوطني المطابق لفهم شروط التغيير الجذري لواقعهم المرير، والذي ينطلق من ضرورات الانخراط في معركة التحرر من الاستبداد السلطوي، كممر إجباري لنيل حقوقهم الإنسانية والوطنية، في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وبناء دول حرة عمادها المواطنة والديمقراطية وسيادة القانون.
مع اختلاف وتباين تجارب الثورات في تلك الدول، ومع تعثر مسارات التغيير في أغلب محطات الربيع العربي، ودخول الموجة الأولى من الثورات باستثناء تونس، في دروب شائكة ومُظلمة، تحفّها تحديّات داخلية وخارجية في غاية الخطورة. بدا هذا العقد الحافل بالوقائع والتحولات الصادمة، مفتوحاً على خيارات كارثية، تهدد باندثار الآمال العريضة التي نهضت في بدايات الربيع العربي. إذ كشفت التجربة السورية في تجليّاتها الدموية المروّعة، حجم الضريبة الباهظة للثورات، في ظل نظام دولي محكوم بقوانين التوحش الرأسمالي، وأكثر جنوحاً للتفريط بالقيم الإنسانية، على حساب حقوق الشعوب الفقيرة والمُستضعفة. ما يفسر مناهضته فعلياً بكل الوسائل السياسية والعسكرية، انتقال الشعوب العربية إلى ضفة الحرية والخلاص. لا يتورع عن دعم الثورات المضادة، وملاقاة الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب، عند تقاطع إجهاض المضامين التحررية التي حملتها الثورات.
انطلاقاً من ذلك، تراكبت محاولات حرف الثورات عن وجهتها، عبر إثارة النزعات الطائفية والمذهبية والمناطقية، التي لعبت عليها أنظمة الاستبداد بكافة مسمياتها الجمهورية والملكية، وزودتها بالصواعق اللازمة لتفجيرها، ولو أدت إلى إحراق الأخضر واليابس. ما بين أسلمة الثورات واستخدام قوى الإسلام السياسي، بما يؤدي إلى انزياح الثورات عن طابعها الوطني، وتلزيم إيران وأدواتها في المنطقة، بفتح الطريق الواسع أمام إحكام قبضتها على العديد من الدول العربية، وتعزيز نفوذها وهيمنتها من خلال الأنظمة والميليشيات المذهبية التابعة لها. دخلت الشعوب العربية في متاهة الصراعات الداخلية، وجاء التدخل الروسي في القضية السورية بضوء أخضر أميركي- إسرائيلي، لتحويل الصراع الرئيسي بين قوى الحرية وأنظمة الطغيان، إلى حروب متنقلة تستمد من سردية الإرهاب ومكافحته الذرائعية، الغطاء المطلوب لاستنزاف الدول العربية، وإشغالها في أزمات مزمنة ومآسي رهيبة، ألقت أعباء مضاعفة على قوى الحرية والتغيير، وأدت مجمل تلك التحولات الكبرى من حيث المآل، إلى انحسار الموجة الأولى للثورات.
بوسعنا من خلال مراجعة ما جرى في سورية واليمن وليبيا ومصر، أن ندرك حجم استعصاء مشاريع التغيير في تلك الدول، وبتفصيل أكثر، الاستدلال إلى طبيعة التحالف الوثيق بين الأطراف المعادية للثورات، عربياً، وإقليمياً، ودولياً، وأدوار تلك الأطراف في استحالة الانتفاضات والثورات الشعبية، إلى ساحات مفتوحة للموت والخراب والانهيار. تعرضت في أتونها الشعوب الثائرة، إلى استباحة غير مسبوقة، وصلت حد الإبادة الجماعية بكافة وسائل القتل والتغييب، وتدمير مدن وحواضر بأكملها، واقتلاع الملايين من أرضهم وبيوتهم، وتسلط أنظمة العسكر وجنرالاتها على رقاب البشر، والتوغل في نهبها وإفقارها وقمعها.
كل تلك الجرائم والانتهاكات الفظيعة، لم يرف لها جفن المجتمع الدولي، ومؤسساته التي نشأت لحماية حقوق الإنسان، وطيلة الموجة الأولى من الثورات العربية ما بين أعوام (2010 و2018) امتحن الوعي الشعبي في معمعان المواجهات المتنقلة مع الأنظمة المستبدة، العديد من الدروس المُستفادة، من وقائع وأحداث الموجة الأولى، ومن أهمها:
أولاً: أن مهام الثورات العربية في إعادة بناء وطنيات حرة وديمقراطية، لا يقتصر فقط على تفكيك بنى الاستبداد والتسلط، في الدول التي هبّت عليها رياح الثورات، وإنما أيضاً إلى يقظة وطنية واعية، من محاولات اختراق الثورات من قوى خارجية، ما يوجب قطع الطريق على كافة أشكال الدعم الهادف إلى تدجين المعارضات تحت عناوين دعم الديمقراطية وغيرها (الأمثلة على عمليات الاختراق والتدجين حاشدة بالوقائع والأدلة). أدى ذلك بدوره إلى تنامي الوعي الشعبي من خطورة انتزاع القرار الوطني من يد الثورة، بوصفه الخطر الأكبر على مصير الوطن برمته، فلا يستوي أن يتداخل منطق التحرر التام، مع فروض الولاء والتبعية لغير المصلحة الوطنية.
ثانياً: التعلّم من أخطاء وخطايا الثورات، بعد أن انجلت مخاطر جمّة، من مشاريع تطييف الثورات بأجندات دينية أو مذهبية أو قومية، وذاك أكثر ما استفادت منه الأنظمة المتوحشة، والدول المتدخلة، لدواعي شيطنة الثورات ودمغها بالإرهاب والتطرف. معطوفاً عليه؛ ترويج نظرية المؤامرة بأسانيد محليّة، تبرر قمع المجتمعات الثائرة باستخدام العنف العمومي، لإنهاء وتصفية الثورات، وإعادة الشعوب إلى حظائر الإذعان والخضوع.
ثالثاً: اتضح أنه لا يمكن تحقيق انتصارات ملموسة على معسكر الاستبداد، دون تنظيم الحراك الشعبي، في أطر ثورية مُنظمة تؤطر جهود الأفراد والجماعات المدنية والسياسية، وتلعب دوراً أساسياً في توجيه وتثمير التحركات المطلبية، وفق ظروف ومتطلبات المواجهة مع الأنظمة، وحلفائها، والفئات السلطوية الدائرة في فلكها. ما كان يوجب التركيز على دعم صمود البيئات المجتمعية الحاضنة للثورات من جهة، واستخدام تكتيكات ضاغطة على الأنظمة، وقادرة على نزع مخالب القوة التي تملكها من جهة أخرى.
رابعاً: خطورة عسكرة الثورات، واستجرار مجتمعاتها إلى العنف المضاد، في ظل فوضى الأجندات، وتوظيفها من الدول الداعمة لأهداف تتعلق بمصالح وحسابات تلك الدول. لاتزال الشعوب كما عليه الحال في سورية وليبيا واليمن، تدفع الأكلاف الكبيرة، لهذا الخيار الذي شجعت عليه الأنظمة، ووفرت أسبابه ومسوغاته، وهو الدرس الأقسى، الذي فتح الأبصار على أولوية تعميق المحتوى السلمي للثورات، والحذر الشديد من الوقوع في فخ العسكرة، دون إهمال الحق في الدفاع عن النفس، شريطة استخدامه بشكل مدروس، وضمن رؤية وطنية واضحة في إدارة الصراع.
خامساً: الأهمية القصوى لتجنب الانزلاق إلى المطبّات، التي تضعها الأنظمة أمام الثورات، وكل ما من شأنه تسهيل عمليات الاستفراد بكل ثورة على حدا. ظهر جلياً في الموجة الأولى للثورات، نزعات وتوجهات يخالطها قصور فكري وسياسي، ومن أبرزها التبرؤ من جدليات التحرر العربي، كي لا ترث الثورات شبهة الأنظمة التي تتاجر بالقومية العربية، أو المقاومة والقضية الفلسطينية. معطوفاً على هذه الرؤية الخاطئة، إشغال كل ثورة بواقعها وهمومها الخاصة، والإحجام عن بناء آليات تنسيق وتعاون بين كافة الثورات العربية، رغم ضرورات التصدي لتلك المهمة، التي تسهم في تكامل مسارات التغيير وإسناد بعضها البعض.
إزاء محصلات العشريّة الأولى ما بين الأعوام (2010- 2018) التي طبعت الموجة الأولى للثورات، وما رافقها من نكوص وتراجع المد الثوري، ودخول الدول التي شهدت مراحل انتقالية ومحطات انقلابية، في أزمات واضطرابات متلاحقة، لا تقل في خطورتها عن الدول التي تعرضت ثوراتها، لأشكال متعددة من حروب التصفية والتأديب (سوريا مثالها الأعتى)، ساد مناخ من اليأس المتمادي في أوساط الشعوب، وأضحى السؤال المُشكّك بجدوى الثورات ومصيرها!؟ يطغى على كل رؤية وقراءة؛ تتوسلان البحث عن ممكنات تجاوز حالة التعثر والاختناق، التي كادت أن تطيح بكل الأحلام والتضحيات، التي اقترنت بالثورات وتجاربها البينية في الواقع العربي. في أوج هذا المناخ التشاؤمي، الذي كاد العام 2018، أن ينقضي على خطاه، انطلقت بخلاف التوقعات، احتجاجات شعبية في السودان ضد نظام البشير، في الشهر الأخير منه. سرعان ما اتسعت دوائرها في الأشهر الأولى من العام 2019، ولم تفلح أجهزة الحزب الإسلامي الحاكم في إخماد أوراها، مما اضطر الجيش السوداني أمام زخم وقوة الحراك الشعبي، للتخلي عن الرئيس المتورط بقتل شعبه وسرقة ثروات بلده مع طغمته الحاكمة. وبعد استقالة البشير مرغماً في 11/4/2019، والمرحلة التي تلت سقوطه، بقيّ الشعب السوداني متمسكاً بحراكه السلمي، ومحصناً بوعي وطني، حال دون اختراقه أو النيل من مطالبه الواضحة. وقتذاك وبينما كانت الأنظار تتجه صوب السودان، أطلق الجزائريون ثورتهم الشعبية ضد العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة، في شهر شباط/فبراير من عام 2019، والتفّت النخب السياسية والمثقفة، كما حدث في السودان، حول الجموع الغفيرة، التي طالبت برحيل حامي الفساد ورمز العجز البدني والعقلي في بلد المليون ونصف شهيد. تحت ضغط الشارع تخلى الجيش عن بوتفليقة، وأُجبر الأخير على الاستقالة في 2/4/ 2019.
طرحت الثورتان وهما تسيران كما يبدو بكل إصرار وعزم، على طريق استعادة حقوق شعبيهما، والمضي في تحدي الانتقال نحو الديمقراطية، مسألة علاقة الثورات بالجيش والأجهزة الأمنية، لاسيما أن كليهما أداة السلطة النافذة، كما طرحتا دور الفاعلية السياسية لقوى الثورة في مرحلة الانتقال السياسي. لم تغب مخاوف السيناريو السوري، الذي اعتمد فيه النظام على الجيش والأمن لضرب الثورة وقتل الشعب، وهو أكثر ما كان يؤرق هواجس الشعوب من تكراره في الحالتين السودانية والجزائرية. في التجربة الجزائرية على وجه التحديد، كان للجيش دور مشهود في التنكيل والقمع خلال حقبة التسعينات، وهو المهيمن على السلطة السياسية، والمتحكم الأكبر بثروات واقتصاد الجزائر. هنا لابد من فحص هذه العلاقة وفق خصوصية وظروف البلدين، فبينما ذهبت قوى إعلان الحرية والتغيير في السودان إلى مشاركة العسكر في إدارة المرحلة الانتقالية، عشية اتفاق جوبا الموقع في شهر أيلول من العام 2019. تمكن الحراك السوداني مبدئياً من فرض أجندته الوطنية على القوى العسكرية، مستفيداً من زخم الشارع، وحيوية القوى المعبرة عنه، وتجاوزه كل الأفخاخ التي حاولت شق صفوف الثوار، والقبول بصيغة توافقية تحول دون التصادم مع العسكر، في لحظة كان يَخشى فيها جنرالات العسكر أيضاً من دفع فاتورة التصادم، بما لا يقل عمّا سيدفعه الشعب في حال حصوله، مقابل انتزاع مكاسب سياسية، تؤدي من حيث النتيجة إلى تغيير تدريجي ودراماتيكي في بنية النظام السوداني. أما في الجزائر وبحكم إدراك الشعب الثائر، إلى عوائق وتعقيدات التغيير الشامل في بنية النظام، في ظل محاولات العسكر فرض شخصيات سياسية محسوبة عليهم، نجد أن التعاطي مع استحقاقات المرحلة الانتقالية، يتميز بالمثابرة والتصميم على منع تمرير أجندة العسكر الانتخابية، وتصعيد الحراك بمختلف مستوياته، والحرص على منع التصادم مع الجيش، والتمسك بمختلف أشكال التعبير السلمي، والتأني المدروس في اختيار ممثلي قادة الحراك، وعدم إعطاء فرصة للعسكر لإراحتهم من ضغط الشارع.
أفضت النتائج الأولية لمسار الثورتين، ودون تجاهل الصعوبات والتحديّات المستقبلية، التي تواجه طريقهما نحو تحقيق ما يصبو إليه الشعبين، إلى الحديث مجدداً عن الموجة الثانية من الثورات العربية، وإن بقدر لا يستهان به من الحذر في تقدير ما تم إنجازه. غير أن الأداء الحركي والمطلبي والسياسي للثورتين، أعرب عن الصلات الوثيقة التي تربط بين الموجتين، بصورة تُعيد الاعتبار لمشروعية الثورات، والعلائق الجدلية في مسيرة الشعوب التوّاقة للحرية. ضمن هذا السياق شكّل انتخاب قيس سعيد رئيساً لتونس في الشهر العاشر من العام 2019، وهو القادم من خارج صناديق الأحزاب وبرامجها، التي أدارت المرحلة الانتقالية عشية هروب بن علي، كمؤشر ذات معنى عميق على رغبة التونسيين، في استعادة نبض الثورة، ومعاقبة الطبقة السياسية على أدائها السابق، والالتفاف حول شخصية تحاكي هموم وتطلعات الشعب، بلغة فصيحة وحاسمة، ترمم الفجوات بين الثورة والدولة. جاءت أيضاً التحركات الاحتجاجية، التي شهدتها مصر – رغم محدوديتها – في الشهر التاسع من العام 2019، كتعبير لا يمكن تجاهله، على صعوبة استمرارية السطوة الأمنية لنظام السيسي، وأن إرث ثورة يناير وإمكانيات تجديدها، لازال خياراً قائماً في أي وقت، طالما أن إخفاق النظام في حل الأزمات المعيشية، وتواصل انتهاكاته في خنق الحريات، سيفاقم من حالة التذمر الشعبي، التي لم يعد بوسع أي نظام أن ينجح في كتمها طويلاً.
مع انتقال الحراك الثوري إلى لبنان والعراق، وهما البلدان المحكومان بأمراض المحاصصة الطائفية، وبحكومات فاسدة ترعاها الأحزاب والميليشيات التابعة لإيران، غدا ما كان مستحيلاً حتى في الخيال، واقعاً يضخ بالحقائق المدوّية، وسقطت دفعة واحدة على وقع التحركات الشعبية العارمة في البلدين، كل ترسانة الأوهام والأكاذيب التي بنتها القوى المستفيدة من تكريس الطائفية، لسرقة ونهب شعوبها وبقائها أسيرة سياسات الإفقار والهيمنة. على دويّ الثورتين، انكشف وجه إيران وأدواتها على حقيقته، ونهض خطاب وطني خلّاق ومبدع، يقطع بلا تردد مع الخطاب الطائفي التعبوي، وتمثلاته السلطويّة المفوّتة. يسخر ويرفض في آن دمغ الشعوب بنظرية المؤامرة على محور المقاومة، ويبتكر طرائق جديدة في التعبير السلمي عن مطالبه الإنسانية والوطنية، ويصفع بلا هوادة، منظومة الفساد والهيمنة التي سلبت حقوق وأحلام أجيال من المفقرين والمهمشين.
هذا العنفوان الثوري والوعي المتمرد على انسداد الأفق، أماط اللثام عن طبيعة الموجة الثانية للثورات، وأخرج أجمل ما فيها، وكانت عودة الشباب إلى مسرح التحركات العارمة، والمشاركة اللافتة والنشطة للمرأة، ونزول كبار السن إلى الساحات والميادين، وتحرر كتل مجتمعية واسعة من الخوف، والتماهي في الهتافات والشعارات والأغاني والرسوم، أن جعلت اللغة نابضة بالحياة، تجسّد بصدق وتفاني الرغبة في تغيير واقع الظلم والبؤس. لقد أعادت الموجة الثانية بزخمها ودفقها، الاعتبار لأصالة ومشروعية الموجة الأولى، رغم كل محاولات إسكاتها وتشويه سرديتها، وأكدت وحدة التطلعات والمصير بين الشعوب العربية. مع هذا التحول العميق لم تعد الثورة السورية يتيمة كما أُريد لها، وعادت أغاني القاشوش والساروت، تتردد على ألسنة الثوار العرب في الشوارع والساحات، كما سقطت الأقنعة عن وجوه تجار المقاومة، الذين خانوا الطريق إلى القدس، واستبدلوه بالتنكيل والدوس على أشلاء الشعوب الثائرة على الطغيان.
في خضم الثورات المشتعلة، تتراكم الخبرات، بحيث يستفيد جديدها من تجارب سوابقها وتكامل حلقاتها، وهي الحقيقة الأبرز التي عززت القيمة الإنسانية والفكرية والمجتمعية، لكافة الخائضين في مسارات التغيير، وأعادت الثقة بأن مخاضات وتضحيات الموجة الأولى لم تذهب هدراً، بل أينعت في انتقال رياح الثورة إلى دول عربية أخرى، خلافاً لحسابات المعسكر المضاد للثورات.
ثمة دروس جديدة تفتح مدايات التفكير على كيفية إدارة معارك الحرية، والشروط التي يجب توفرها لنجاح الثورات في تحقيق غاياتها النبيلة، فلا زالت قوى الاستبداد والتسلط والهيمنة الخارجية، تملك أوراق وخطط وبدائل، للالتفاف على النزعات التحررية للشعوب، مما يقتضي تحصين الثورات بالوعي السياسي، فلا ثورات بلا رؤية سياسية تواكبها، وتحدد ثوابتها وتكتيكاتها المتسقة مع أهدافها، وفق ظروف كفاحها الضاري والمعقد، وفهم العوامل الذاتية والموضوعية، التي تحكم صراعها الوجودي والوطني.
دوماً كان الطريق نحو الحرية طويل وشاق، فكيف هو الحال في المنطقة العربية، التي زرعت القوى الكبرى عبر أدواتها المحلية البائدة، كل عوامل السيطرة والتخلف والتجزئة والفوات التاريخي، كي تبقى منطقة محكومة بالاستتباع والخضوع. لم يكن اندلاع الثورات سوى التمرد على هذه المعادلة المجحفة، ورفض الانصياع لها، ونقطة البداية كانت في هدم جدران الخوف، وفي تلمس طريق الخلاص من كل مسببات القهر والبؤس الداخلي، باعتباره شرطاً واجباً لإنجاز التحرر الحقيقي من قوى الاحتلال والهيمنة الخارجية. أمام الثورات تحديّات كبيرة لا يستهان بها، لكنها تواصل السير رغم النوائب والتحديّات القائمة، ويشع بريقها من وسط الظلام. تسطّر ملاحمها الكبرى، ولا تنفك عن كتابة رسالتها المضمخة بالدم والألم والأمل، وهي تصرخ بكل يقين؛ لا عودة إلى الوراء، لا عودة إلى أزمنة الصمت والخنوع، لا عودة إلى حكم المافيات والعصابات الحاكمة، لا عودة عن خيار الحرية مهما كانت الأثمان.