منير الربيع
أسقط اللبنانيون نظرية المؤامرة عن انتفاضتهم. كما فشلت محاولات السياسيين في الاندساس بقلب التحركات أو اختراقها. حتى الترهيب والتخويف وإثارة العصبيات أو المخاوف الطائفية والمذهبية والمناطقية، لم تؤد نتيجتها. مع ذلك تستمر السلطة في حالة الإنكار السلطة، تحاول اجتراح حلول تناسبها من دون أي إدراك لحجم التغيير الذي أصاب لبنان.
كل المراسيم التي تصدر باسم مكافحة الفساد، ومحاولة مجلس النواب إقرار قوانين.. كلها لا قيمة لها، لأن الأمر يتعلق بالنظام ككل. فالمواطنون فقدوا الثقة بالسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية.
مساجين ونفط
الأهم هو أن الشارع لا يزال على حيويته، والتحركات تتنوع وتنضم إليها فئات اجتماعية جديدة طلابية وعمالية ونسوية. هذا يضمن شمول كل الناس بالتحركات وباستمرار الانتفاضة وتحولها إلى ثورة تامة. فبعد أن كان الإنتشار الجغرافي ميزة أساسية، اكتسبت الثورة إنتشاراً اجتماعياً ومهنياً، ما يمنحها الرسوخ والوضوح.
في المقابل، وكما كل السلطات قبل انهيارها، تلجأ السلطة اللبنانية إلى إخراج المجرمين من السجون، في رشوة سياسية (وطوائفية) مفضوحة، عبر إقرار قانون العفو العام عن المرتكبين، في مشهد مشابه لما فعلته الأنظمة العربية التي واجهت الثورات.
أيضاً لجأ بعض السلطة إلى الحديث عن النفط، كما فعل الأربعاء الماضي الرئيس نبيه برّي، وكما “استعرضت” الوزيرة البستاني حاويات أنابيب الحفر. وفي الحالين، الهدف إشاحة النظر عن الواقع.
كل طرف في السلطة يبحث عن تعزيز فرص “نجاته” وعودته. صحيح أن الحريري باستقالته استعاد جزءاً من شارعه، لكن هذا يفرض عليه أداء سياسياً وإعلامياً مغايراً، ولا يمكنه البقاء هكذا متوارياً في الكواليس، حيث يعقد اللقاءات المغلقة، فمن واجبه إن أراد “ترميم” شعبيته وشرعيته السياسية، مصارحة الناس.
خسائر ومكابرة
كل المبادرات الدولية إذا ما توفرت، تنطلق من قناعة أنه لا يمكن إعادة إنتاج السلطة على النحو السابق، والمطلوب حكومة توحي بالثقة للبنانيين وللمانحين والأسواق. وهذا ما سيكون كفيلاً بتحرير الاقتصاد من قبضة تحالف المصارف والطبقة الحاكمة، ولا يقوم على مبدأ الصفقات. لكن، تبقى الخشية من أن يعود الكارتيل لإنتاج نفسه بصفقة جديدة مع المجتمع الدولي، تكون نتيجتها عودة المقاولين أنفسهم والسياسيين ذاتهم، بغطاء دولي ينتفع من وجودهم. وهذا ما يجب مواجهته والتصدي له.
تعنت السلطة حتى الآن يكلف لبنان واللبنانيين الكثير من الخسائر. كل المكابرة لم تعد تنفع. يعرف أركان السلطة أن أداءهم بالذات هو الذي أسقطهم، خصوصاً أصحاب “التسوية” التي أبرمت منذ ثلاث سنوات. وبسقوطهم أسقطوا معهم قوى أخرى. لذلك، فإن جلّ ما يبحثون عنه حالياً، هي إيجاد صيغة لحكومة تكون مرضية للشارع وللمجتمع الدولي. إنما بشرط أن يبقوا قادرين على التحكم بها وبمقرراتها صوناً لامتيازاتهم. لذا، يجري البحث الآن عن كيفية تقديم حكومة تضم وزراء جدداً وتكنوقراطيين، على أن تسمّيهم أحزاب السلطة، ولو كانوا غير حزبيين، أو يكون بعضهم حزبياً غير بارز.
صيغة حزب الله التكنوقراطية!
هذه القناعة توصل إليها حزب الله، بعد عدم اقتناع الحريري بالسير بحكومة سياسية، وتمسكه بشرطه بحكومة تكنوقراط. وحسب ما تشير المعلومات، تركزت طوال يوم الأحد الاتصالات على ضرورة الوصول إلى صيغة ملائمة يوافق عليها الحريري ويتم ابلاغه بها، كتأليف حكومة تكنوقراط بنكهة سياسية، أي يختار كل حزب وزراءه من غير السياسيين، على طريقة اختيار حزب الله للوزير جميل جبق. وتكشف المعلومات أن التيار الوطني الحر أجرى اتصالات بشكل غير مباشر بكل من الوزيرين السابقين مروان شربل وزياد بارود، للبحث معهم في إمكانية توزيرهم مقابل استبعاد الوزير جبران باسيل وغيره من الوزراء السياسيين.. على أن يتم طرح هذه الصيغة على الحريري مقابل أن يجيب عليها، قبل خطاب أمين عام حزب الله المرتقب. ويعتبر الحزب أنه بهذه الصيغة لم يبق خيار للحريري لرفض ترؤس الحكومة، فيما يبقى أن يجري الحريري اتصالات دولية سريعة، للحصول على غطاء لهذه التشكيلة للسير بها، خصوصاً أن الهم الأساسي لدى الجميع هو البحث عن مساعدات سريعاً لوقف الانهيار المالي الذي بدأ.
إقصاء “القوات” فقط
ومن الواضح أن الصيغة التي يتم البحث فيها تستثني “القوات اللبنانية”، التي ستجد نفسها مطوقة مجددة وعرضة للكثير من المضايقات، وفيما لا يبدو وليد جنبلاط في وارد الدخول في هكذا حكومة، مفضلاً المعارضة والاهتمام بوضع حزبه الداخلي، تشير بعض المعطيات إلى أن حزب الله والرئيس نبيه بري يصران على مشاركة جنبلاط بالحكومة، كي لا يتوسع هامش المعارضة.
وهكذا “حكومة تكنوقراط” شكلية، ستكون عبارة عن هدية مقدمة من الحزب إلى للحريري، بضمان بقاء “القرار” السياسي الوطني محفوظاً لصالح الحزب وقصر بعبدا. أما في حال عدم موافقة الحريري على هذه الصيغة، فإن الأزمة حينها ستتعمق، وستزيد من التوتر السياسي بين الأفرقاء، خصوصاً أن هناك من يصف الحريري برهينة سياسية، سواء عندما أبرم التسوية الرئاسية وقدم كل التنازلات، أو عندما قرر الخروج منها، وسواء قبل بالبقاء كرهينة سلطة يمسك بها حزب، أو في حال رفض التشكيل ليتحول رهينة معادلة دولية “تبتغي تنفيذ انقلاب في لبنان” وفق توصيف الحزب.
باسيل للتخلي عن الحريري
على الأرجح، يتريث الحريري في تقديم إجابة نهائية، إلى ما بعد حضور الموفد الفرنسي وجسّ نبض الموقف الدولي من هكذا صيغة حكومية. لكن حزب الله ضاق ذرعاً من تأخر الحريري. وكان يريد الحصول على جواب أو تفاهم واضح منه قبل كلمة نصر الله اليوم.
وبسبب تأخر الحريري، حسب المعلومات، جرت اتصالات بين الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر. وكان باسيل يضغط باتجاه خيار تشكيل حكومة من دون الحريري، والدخول في المواجهة. وإذ لوّح حزب الله بذلك، بقي مفضلاً التريث قليلاً، لعلّ مجرد التلويح هذا يدفع الحريري للارتضاء “بما كُتب له”، خصوصاً أن هناك “رسائل ابتزازية” تصله بفتح ملفات وزراء محسوبين عليه، إن لم يوافق.
وبالتأكيد ان حكومة من هذا النوع الذي يطرحها حزب الله ستجدد حياة “التسوية” والسلطة المنبثقة عنها، وتعمل على احتواء الانتفاضة وإماتتها.
المصدر: المدن