محمد خليفة
كم كانت معبرة ومؤثرة مشاهد الشقيقات الثلاث يوم الجمعة، الفاتح من تشرين الثاني/نوفمبر؟
اتحدت شعوب لبنان والعراق والجزائر في تظاهرات مليونية ضخمة، صدحت فيها الحناجر للانعتاق من الطغيان والتسلط، والتخلص من الفساد والمفسدين، والتخلص من تركة الاستعمار القديم والجديد وعملائه المحليين.
هل هي محض صدفة أن تخرج الشعوب الشقيقة الثلاثة في العواصم الثلاث بهذا الزخم الأسطوري، والغضب الهادر، والهتافات الأشبه بالزمجرة والزئير؟؟!
الصم والبكم والعمي فقط يعجزون عن رؤية ((حبل السرة)) الرابط بين التوائم الثلاثة.
أما العقلاء فيرون قناة اتصال روحية، ولغة تخاطب شيفرية بين الشعوب الثلاثة، تنتقل على أمواج الأثير من ((المحيط الهادر الى الخليج الثائر)). لغة غير ملموسة، ولكنها محسوسة ومقروءة في عيون المتظاهرين، ووجوههم وأصواتهم وهتافاتهم، ولا يعجز عن إدراك معانيها ومقاصدها إلا الذين ران على قلوبهم الصدأ، ولن يفهموها حتى تخترق قصورهم، وتزلزل عروشهم.
وحدهم الصم والبكم والعمي لا يرون الرسائل والإشارات التي تتبادلها شعوب المنطقة. ولا يرون أن الحراك الجزائري المستمر منذ تسعة شهور تلقى البرقية الأولى من شوارع الخرطوم، ثم أعاد إرسالها الى العراق، فانتفض شعبه الذي تداس كرامته يومياً منذ ستة عشر عاماً، وأعاد هذا إرسال الإشارة الى لبنان، فانفجر شعبه العنيد، وزلزلت بيروت زلزالها، كما لم يحدث من قبل.
الصم والبكم والعمي هم الذين لا يرون الله في شوارع كربلاء والنجف والكوفة بين المقهورين والمعذبين، لا في المساجد والحسينيات والمراقد، ولا يرونه في ساحات بيروت وطرابلس والنبطية لا في مساجدها وكنائسها، والذين لا يحسنون قراءة لغة العيون والوجوه، ولا يفهمون أن الشعوب الثلاثة تتبادل الالهام والإيحاء بعضها من بعض، ويلتقط كل منها الشرارة المقدسة، ويعيد إرسالها وإيصالها الى كل شعوب المنطقة التي تقاسي مثلها الخوف والبؤس والذل والإحباط.
هكذا تتبادل الشعوب الثلاثة في البلدان الثلاثة الرسائل النصية والرمزية، وعنوانها العريض أن لا تراجع، ولا هدوء بعد أن تهاوت جدران الخوف والانقسامات بين المكونات المذهبية، وتكسرت كل الأصفاد والأغلال.
هل هناك بعد الآن شك في وحدة هذه الشعوب؟ أم هناك شك في تواطؤها الثوري في ارتكاب معجزة هذه الثورات التي لا تشبهها ثورات سابقة، ولن تشبهها ثورات قادمة…؟
وهل هناك شك في قدرة الجماهير على اقتحام المخاطر والتفوق على كل التقديرات المسبقة والفوقية؟
تسبق الشعوب دائماً أجهزة الرصد وتتفوق على عباقرة التحليل والتخطيط الاستراتيجي.
الربيع العربي بين موجتين
في أواخر عام 2010 لم يتنبأ أحد في العالم بالزلزال القادم من تونس والذي سيمتد بسرعة الى ليبيا ومصر واليمن وسورية، والى دول عربية لم تشهد في تاريخها كله تظاهرة احتجاج واحدة. وعندما تحرك الشارع التونسي تعاطفاً مع محمد البوعزيزي ورفضاً لسلوك الشرطة والسلطة، ظل عدة أسابيع لم يتنبأ خلالها أحد أن الاحتجاجات ستؤدي لانهيار النظام، ولكنه حدث، وحتى سقوط زين العابدين لم يتنبأ أحد أن الحدث التونسي سيمتد بسرعة قياسية الى ليبيا ومصر واليمن، ويسقط أنظمتها واحداً تلو الآخر.
سبب ذلك أن الطغاة دائماً يفقدون حاسة البصر والبصيرة فلا يرون إلا ما يحبون. والدليل أن طاغية الشام بشار الأسد بعد شهرين من زلازل الربيع العربي وسقوط اشقائه في مصر وليبيا وتونس واليمن صرح أن ما حدث لا ينطبق على نظامه، لأنه استثنائي، ولم يخطر بباله أن نظامه الارعابي الشمولي سيسقط بأيدي مجموعة أطفال تحدوا جبروته وكتبوا على جدار واحد: الشعب يريد اسقاط النظام، فدارت سلسلة الاحداث بسرعة فتجاوزت ما شهدته القاهرة وتونس وطرابلس وصنعاء من عنف وضراوة.
وقياساً على الأمثلة السابقة نحن على يقين أن عماء بشار ما زال مستمراً ومتفشياً في بلدان عربية عديدة، تتمثل في ظن غالبية الأنظمة أن نجاح ((ثوراتها المضادة)) في احتواء الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي بالعنف والارعاب أنهى خطر الشعوب عليها، فنامت على حرير الطمأنينة هي والقادة والشبكات المافياوية والطفيلية الموالية لها، ولم تكلف نفسها عناء اجراء ولو القليل من الاصلاحات الملحة التي تطلبها الشعوب وتمليها الحاجة الملحة. وما زال سلوكهم نمطياً يوحي بأن غالبية هذه الأنظمة عاجزة عن تقدير الاخطار الداخلية والخارجية التي تواجهها، ولذلك فهي ستواجه ما تخبئه لها شعوبهم الغاضبة من مفاجآت مرعبة وانفجارات بركانية كالتي شهدتها بيروت أو بغداد، ومن قبلهما الخرطوم والجزائر.
ثورات الشعوب العربية الجديدة التي توشك اختتام عامها الأول تؤكد أن الهواء العربي معبأ بعدوى الثورة، لأن الأنظمة استخفت بشعوبها، وداست كرامتها، حتى أصبحت العلاقة بينهما علاقة تناقض تناحري عميق، علاقة نفي ونفي مضاد، لم يعد الحوار ملائماً لمعالجتها، فكل منهما يتربص بالآخر، ويستعد للانقضاض عليه.
إذا حللنا هتافات الجماهير في الجزائر ضد بقايا نظام بوتفليقة يجدها تصور الطغمة الحاكمة امتداداً للاستعمار السابق، خصوصاً أن العشرية الدموية 1991 – 2000 لقنت الجزائريين درساً لن ينسوه، مفاده أن المؤسسة العسكرية تعاملهم بوحشية لا تختلف عن وحشية الفرنسيين. ويوحي سياق الأحداث أنها تتصرف بالعقلية ذاتها، ولم تتعلم شيئاً، وتكرر استعدادها لقمع الحراك عندما تمكنها الظروف العامة دفاعاً عن بقاء امتيازاتها هي والطبقة المافياوية الموالية لها.
أما هتافات الجماهير العراقية وسلوكها ضد نظام المحاصصة الطائفية والمالية فتعكس عنفاً وضراوة متبادلين من الجانبين، السلطة والشارع. إذ لم يسبق أن سقط ألفا جريح في يوم واحد في أي تظاهرة في العالم، ولم تتصرف أي سلطة ((بما فيها الاسرائيلية ضد الفلسطينيين)) بهذه العدائية والوحشية مع تظاهرات سلمية، سوى عصابة الأسد ضد شعبها. والتشابه بين المثالين حقيقي تثبته قرائن دامغة، لا سيما أن الميليشيات التي تفتك بالعراقيين حالياً هي التي أرسلت الى سورية 70 ألف مقاتل ليشاركوا في سحل وسحق السوريين دفاعاً عن الأسد.
وأما هتافات الحراك التي جمعت اللبنانيين فتضع جميع أركان ورموز السلطة في رزمة واحدة، وتتهمهم بالفساد والتواطؤ الجماعي ضد الشعب والبلد، بلا تمييز طائفي. وتتهم عصابة دمشق بالتدخل في الشؤون الداخلية لبلدهم بطريقة مستفزة، وترى أنهم فقدوا استقلاليتهم الوطنية، بينما تمارس السلطة القائمة سياسة افقار وتخريب وتمزيق للوحدة الوطنية، لأهداف ومصالح فئوية تخدم استمرار الهيمنة السياسية والاقتصادية.
قيامة الشعوب العربية
تظاهرات الجمعة العظيمة تبين أن طرفي السلطة والشعب غير مستعدين للتراجع عن خياراتهما، وعلى الأخص السلطات الحاكمة التي بيدها زمام المبادرة، وهو ما ينذر بمزيد من التأزيم والاحتقان والتصعيد، ولم يعد بعيداً احتمال وقوع صراعات أهلية داخلية في البلدان الثلاثة.
إن ثورات البلدان الثلاثة تمثل ولادة جيل عربي جديد ونهضة أمة تعرضت لعدوان منسق، اشتركت فيه اسرائيل واميركيا وروسيا وتركيا، كما قال وزير خارجية السودان الأسبق البروفسور منصور خالد.
منذ سنوات والعرب يتعرضون لاجتياح شمالي وشرقي وجنوبي، عجزت الدول والانظمة الرسمية عن صده دفاعاً عن الأمن القومي، وتحول بعضها لحلفاء وعملاء للغزاة والأعداء، واليوم نشهد قيامة الشعوب العربية وتحركها للتصدي لفساد الداخل، وعدوان الخارج. تظاهرات الجمعة العظيمة في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 تقول هذا ببلاغة عربية مبينة.
المصدر: مجلة الشراع