منير الربيع
كلام عون الاستفزازي والإنكاري يعبّر بشكل واضح عن حال أهل السلطة، وكيف يعيشون على نحو ما عاشه رؤساء الأنظمة العربية ما قبل سقوطهم. وهذا أكبر دليل على حال الانهيار التي وصل اليها العهد “القوي” الذي يريد لأبنائه أن يهاجروا. والأخطر من ذلك أن عون لم يبد أي استعداد للتراجع، بل أعاد تجديد شروطه السياسية لتشكيل الحكومة، حتى أنه عرقل أي مسعى مع الحريري لإقناعه بالعودة وصعّب مهمته. وهذا النوع من المواقف ليس غريباً على عون، الذي يفضل القفز في الأتون على التراجع. لكن المشكلة الآن هو أن ليس العهد وحده سيدفع الثمن بل لبنان كله.
لم تعد الانتفاضة اللبنانية تقف عند حدود تشكيل حكومة من عدمها. الحكومة وشكلها وحصصها وتوزيعاتها، أصبحت تفاصيل في ظلّ ما كرّسه اللبنانيون على مدى أكثر من 25 يوماً. وهذا الكلام ليس من باب التفاؤل بالتحركات، بقدر ما هو جزء من مباحثات تقوم بها معظم الأحزاب والقوى السياسية، التي تجد نفسها وقد أصيبت بأعطاب كبيرة من جرّاء ما حدث. كل ما جرى على الأرض، من حيوية التحركات ونوعيتها وابتكارها ودخول عناصر جديدة إليها، أثبت أن اللبنانيين دخلوا في مسار طويل من التطوير والتجديد، ولم يعد بالإمكان تجاهله، لا بتشكيل حكومة تكنوقراط ولا بإخماد هذه المطالب والتحركات بأي من الألاعيب السياسية أو التشريعية أو القانونية.
شكل الحكومة والتغيير
لا شك أن المسار سيكون طويلاً، تشكيل حكومة التكنوقراط إذا ما حصل، سيكون نوعاً من أنواع المطالب التي حققها الشعب اللبناني المنتفض، ولكن بالتأكيد، مطالبه لن تقف عند هذا الحدّ، وهذه ستؤدي على المدى الطويل إلى تغيير جذري في بنية التركيبة اللبنانية.
تفاجأ المسؤولون بحجم الانفجار الاجتماعي واتساعه وشموله على مختلف المناطق والبيئات الاجتماعية والسياسية. وأصبح بالإمكان القول بكل ارتياح، أن كل القوى الحزبية والسياسية التقليدية سواء كانت إقطاعية أم طائفية أم مذهبية أم حزبية، أصيبت في صميمها، وتحركت مجتمعاتها في دواخلها وعمقها، ما سيؤسس إلى تغيير جذري وجوهري، بدأ من خلال الصرخات ورفض كل الصيغ المقدمة، وأسقط محاولة السلطة في الرهان على الوقت، كما أسقط كل محاولات المناورة. هذه الصرخات ستجد طريقها عاجلاً أم آجلاً إلى الإطار العملي بدلاً من الاحتجاجي وحسب.
صحيح أن طبيعة النظام السياسي المرنة، معقدة إلى أبعد الحدود، وصحيح أيضاً أن التركيبة بكليتها بين مختلف القوى، عصية على التغيير، أو أن لدى أركان السلطة الكثير من الأوراق لاستخدامها بذكاء وخبث وعنف حتى لأجل إجهاض الانتفاضة، ولكن ما يجري يتخطى السياسة وحساباتها، سواء فاز خيار الحريري بالتكنوقراط الكاملة، أم خيار حزب الله بتشكيل حكومة (تكنو سياسية) أم حكومة مواجهة لصالح محور الممانعة. اللبنانيون أصبحوا في مكان آخر، وهذا ما تعرفه الأحزاب وتقف عنده بجدية.
“انتصارات” حزب الله
لم تعد قوى السلطة في موقعها القوي، وهذا الكلام ينسب إلى ما يجري من مداولات داخلها، فحزب الله “المنتصر” بخياراته السياسية، خرجت التظاهرات في بيئته ومن جمهوره وحاضنته، بشعارات لا تريد انتصارات إقليمية ودولية وتدعي اكتشاف إيران لحقل نفطي جديد قيمته 3 تريليون دولار، بينما محطات الوقود في الجنوب فارغة. وعلى الرغم من محاولة حزب الله كقوة عسكرية، تكريس انتصاره في هذه المرحلة ما بعد التحركات، فهو بلا شك خسر الكثير. وهذه الخسارة ستظهر على المدى المتوسط والبعيد.
“أمل” الأسوأ حالاً
لدى حركة أمل الحسابات أخطر وأسوأ، خصوصاً أن التظاهرات التي خرجت بشكل واسع جداً ضد الرئيس نبيه بري وأفراد عائلته ومسؤولي الحركة، والاتهامات التي طالتهم بالفساد، ومقارنة بأرقام الانتخابات النيابية الأخيرة، وما جرى في هذه الأحداث وضع حركة أمل في موقف صعب جداً مستقبلاً. وهناك كلام في الكواليس توحي أن أكثر المتضررين مما جرى في المستقبل القريب هو الرئيس نبيه بري. لا سيما أن حركة أمل تشهد اختلافات وتشققات كثيرة وصراع أجنحة.
التيار العوني يدفع الثمن
أما في التيار الوطني الحرّ، فلم تتأخر الانشقاقات والخلافات عن الظهور، مع استبيان الوهن الذي يصيب بيئة هذا التيار ومجتمعه، اذ انفجر الشارع المسيحي بوجهه، وهو بلا شك مع رئيس الجمهورية يدفعون ثمن ما جرى، وصولاً إلى التفكير الجدي بأن ما جرى سيكون بمثابة “نهاية” سياسية لهذا التيار، وإن لم يكن على المدى القصير فبالتأكيد على المدى البعيد. وبعدما كان اللبنانيون ينامون على أخبار طموحات جبران باسيل الرئاسية واقترابه من تحقيقها، أصبح هذا مستحيلاً، في ظل حجم النقمة الشعبية عليه وعلى سياساته وممارساته.
سلطة الحريري ومستقبله
الرئيس سعد الحريري ليس في أفضل الأحوال، وهو الذي تعرض لأكبر النكسات، في تجربته السياسية القصيرة نسبياً مقارنة مع الآخرين، فهو الذي غادر السلطة مكرهاً، وعاد إليها متنازلاً عن ثوابته وخاسراً لجمهوره. وفي قلب التسوية خسر حلفائه وصلاحياته، ليستقيل مجبراً من الرياض، ويعود إلى لبنان متريثاً ومجدداً للتسوية التي أسهمت في إضعافه أكثر، وعاد وقدّم استقالته تحت ضغط الشارع، وربما الضغط الدولي. ولم يحسم أمره في العودة إلى الحكومة أم لا. حاول تحسين موقعه في اتباع طريقة جديدة بالمفاوضات عبر فرض الشروط، ولكن دخوله إلى التسوية جعله رهينتها، وخروجه منها أيضاً أبقاه رهينة بشكل آخر، وتلقى ضربات وأصيب بجروح ليس من السهل بلسمتها، فإذا ما رضي بحكومة بشروط عون وحزب الله، سيكون أخذ فرصته الأخيرة بالعودة إلى السلطة، لأن انعكاس هذه الخطوة عليه ستثبّت “أسره” من قبل حزب الله وعون وبري، وإجباره على العودة عن استقالته، ما سينعكس عليه سلباً داخل بيئته وعلى الصعيد الوطني، أما إذا أصر على عدم العودة، فهو إما سيغادر لبنان كما فعل في العام 2011، وهذه ستكون ضربة قاسمة إن لم تكن نهائية، أو سيحاول البقاء لترميم تياره وتنظيمه، ولكن بالتأكيد سيكون مصاباً ولن يكون وضعه كما كان سابقاً.
جنبلاط وحزبه
ليس وضع الحزب التقدمي الإشتراكي أفضل من وضع الأحزاب الأخرى، فقد شهد الشوف والجبل الكثير من التحركات المطلبية والشبابية المعترضة على واقع الحال، فأصيب الحزب بالكثير من الضربات الاجتماعية بعد تلقي وليد جنبلاط ضربات سياسية عديدة. لكنه تمكّن من الصمود بوجهها. في هذه المعادلة يبقى الصراع السياسي يصب في صالح جنبلاط، لكن الانفجار الاجتماعي يمثّل الخطر الأكبر. قرأ وليد جنبلاط بجدية ما حصل، ولذلك أعلن أنه لن يشارك في الحكومة، والابتعاد عن المشاركة السياسية في هذه المرحلة، والشروع في ورشات إعادة تقييم للمرحلة السابقة، والعودة إلى جذور حزبه لتحسين وضعه التنظيمي والاجتماعي داخل بيئة الجبل. الأمر الذي يفرض صعوبات كثيرة أمام جنبلاط للمرحلة المقبلة.
وفيما أصيبت كل القوى بأعطاب حقيقية، لا يزال البحث فيما بينهم حول كيفية العودة إلى السلطة وتثبيت مواقعهم فيها، من خلال مفاوضات تشكيل الحكومة، التي بقيت بالأمس تراوح مكانها، مع الرهان على دور الموفد الفرنسي، لعلّه ينجح بالوصول إلى صيغة مرضية للجميع، وتحظى بما يشبه الموافقة الأميركية والإيرانية والخليجية، على تصور مشترك لإعادة تشكيل حكومة جديدة. وهنا تدور المفاوضات حول نقطتين، حكومة تكنوقراط ترعاها فرنسا وتفاوض حزب الله عليها، مقابل حصول الحزب على ضمانات سياسية حول سلاحه ودوره في المعادلة، أم حكومة تكنو سياسية وفق الصيغة التي يطرحها الحزب.
الأسماء المطروحة
مهمة الموفد الفرنسي حالياً استطلاعية، على ان يعود بنتائج لقاءاته إلى باريس. ولن تتوقف في الأثناء الاتصالات وسط المزيد من البحث لتأمين ظروف إعادة الحريري إلى رئاسة الحكومة. وفي حال عدم النجاح بذلك، فإن حزب الله ورئيس الجمهورية سيكونان أمام خيارين، إما تشكيل حكومة من شخصية مقبولة وتكون معتدلة نسبياً، وقد تم التداول ببعض الأسماء التي اقترحها الوزير جبران باسيل، كالوزير محمد الصفدي، أو فؤاد مخزومي، أو شخص ثالث من آل بكداش. بينما الحريري كان يطرح بدلاء عنه كسمير حمود رئيس لجنة الرقابة على المصارف، وفاطمة الصايغ أو نواف سلام. وهناك من يتوقع سيناريو أسوأ هو عدم التوافق على أي وجهة، ليستمرّ الوضع في البلاد بلا حكومة، ارتباطاً بالوضع الإقليمي والدولي، ما ينذر بمخاطر جمّة على أكثر من صعيد.
بمعزل عن كل هذه التفاصيل، وإذا ما نجحت المحاولات الدولية والمحلية في إعادة إنتاج السلطة بأي شكل، سواء بتكنوقراط أم تكنو سياسية، فإن ما لا يريد السياسيون التعاطي معه بجدية في هذه المرحلة، أن كل صيغهم وطروحاتهم، لن تؤدي إلى إرضاء الناس التي فقدت الثقة، ومشهد اللبنانيين المتظاهرين أمام السفارة الفرنسية رفضاً للتدخل الفرنسي يحمل مؤشرات كبرى، أهمها انعدام الثقة.
المصدر: المدن