أكرم البني
أطلقت مشاهد المظاهرات والاعتصامات المتواترة في ساحات العراق ولبنان، حزمة من التداعيات والمواقف بين السوريين، بعضها بدا واضحاً وجلياً وبعضها الآخر لا يزال موضع تحسب وترقب.
بدايةً، ثمة ما يشبه الإجماع لدى السوريين، في ظل تفاقم أحوالهم ومرارة ما يكابدونه، على أن ما يحصل في لبنان والعراق يعنيهم بقدر ما يعني اللبنانيين والعراقيين، بعضهم بدافع التقارب والعلاقات التاريخية والإحساس بأن نتائج ما يحدث هناك سوف تنعكس بشدة على أوضاعهم وخيارات مستقبلهم، وبعضهم الآخر لأنهم مؤمنون بوحدة المصير وبتشابه دوافع التغيير وأسباب المعاناة والمشكلات ربطاً بالانعكاسات المشتركة للوصاية الإيرانية على مقدراتهم ومصيرهم.
ومع التعمق في اختبار الأفكار والمواقف، تزداد الاختلافات والتباينات وضوحاً، فثمة سوريون لا يعوّلون كثيراً على ما يجري، مرجحين قدرة أعوان إيران على سحق حراك الناس السلمي وإجهاض آمال ملايين العراقيين واللبنانيين في التغيير والعيش الكريم، ويستند هؤلاء، ليس فقط إلى توازن قوى عسكري يميل لمصلحة طهران وميليشياتها، أو إلى نهجهم القمعي الأصيل في التعامل مع مطالب الناس وحقوقهم، بدليل سحقهم الوحشي للثورة الخضراء، ثم ما صارت إليه أحوال سوريا بعد استباحتها من «الحرس الثوري» و«حزب الله»، وإنما أيضاً إلى صمت وسلبية لا يزالان يسمان مواقف المجتمع الدولي تجاه ما يجري في لبنان والعراق، مذكّرين بما حلّ بثورة السوريين بعد أن خذلها العالم، والأهم برأيهم، هي صعوبة أن تقرّ إيران وأعوانها بالهزيمة ويستسلمون لخسارة ما حققوه من نفوذ داخلي وإقليمي، حتى لو لجأوا إلى أشنع وسائل الفتك والتنكيل لقمع الاحتجاجات ووأد أهدافها. والحال، مع بداية انتفاضتَي العراق ولبنان، كان غالبية السوريين يتوقعون نهاية سريعة لهما، لكن ما فاجأهم هو دأب ومثابرة اللبنانيين والعراقيين وديناميتهم في ابتكار ما لا يخطر على البال من الطرق والوسائل لإبقاء ثورتيهما حيتين، ليغدو شائعاً اليوم مشهد السوريين وعيونهم مشدودة إلى شاشات التلفزة وهم يراقبون بذهول وتعاطف لافتين ما يجري هناك، وصار بالإمكان سماع عبارات تشجع الأساليب المدنية في إدارة المظاهرات والاعتصامات، وتدعو لحماية السلم الأهلي، وتمكين الجيش من لعب دوره الحيادي والعمومي كضامن لوحدة البلاد وأمنها، وأيضاً عبارات الإعجاب بما كشفه المتظاهرون من نضج ووعي، خصوصاً بين الطلاب والتلامذة الصغار، إنْ في عرض مطالبهم المحقة، وإنْ في إصرارهم على الاستمرار وتمسكهم الواعي بسلمية الاحتجاجات واحترام ظواهر التعددية وحق الاختلاف، ولا يحتاج المرء إلى كثير جهد كي يلحظ بين ثنايا العبارات التي يطلقها سوريون، أمارات التحسر على ما لاقاه حراكهم المدني والسلمي من فتك سلطوي وتدمير لم يعرفا حدوداً، وعلى ما آلت إليه ثورتهم بعد تقدم خيار العسكرة وغلبة السلاح عليها.
يعرف السوريون جيداً معاني دعاية السلطة المغرضة ضد من يعارضها بأنه إرهابي أو عميل للأجنبي، فهم قد خبروا جيداً استخدامها التخوين والإرهاب، كسلاحين ناجعين لتأليب الرأي العام ضد خصومها المحتملين، وإذا فشل ثنائي طهران ودمشق في الترويج للصراع السوري على أنه «مؤامرة كونية» ضد محور المقاومة والممانعة، لكنهما نجحا في جره إلى بعده الطائفي والمذهبي وفي وسم كتلته الكبيرة المنتمية إلى الطائفة السنية بالإرهاب وبموالاة تنظيم «القاعدة»، لكن المشاركة الواسعة لأبناء الطائفة الشيعية في الحراك الثوري العراقي وكتلة كبيرة من المسيحيين في لبنان، أضعف هذا الاتهام، ليعوّض عنه بفجور بغيض في تخوين المتظاهرين واتهامهم بتنفيذ أجندة خارجية، مرة على أنهم شيعة الإنجليز، ومرة ثانية على أنهم يموَّلون من سفارات دول أجنبية وإقليمية، ومرة ثالثة على أنهم يتلقون أوامرهم مباشرةً من أجهزة المخابرات الأميركية والإسرائيلية، كل ذلك من أجل تسويغ العنف العاري ضدهم وفرض الخيار الأمني لقهر إرادتهم وإعادتهم إلى بيت الطاعة.
يَخلص سوريون إلى أنه من سوء حظ مجتمعات سورية والعراق ولبنان، أن تصطدم معركة تحررها السياسي، وإسقاط مثلث الاستبداد والفساد والطائفية، بمخطط الهيمنة الإيرانية، وأن يغدو مستقبل التغيير وبناء دولة المواطنة فيها رهينة توازنات النفوذ الإقليمية والدولية التي تريد طهران الحفاظ عليها، ما يجعل معركة خلاصها مركبة وصعبة ومكلفة، ويجعل تلقائياً، الاحتجاج على الطبقة السياسية الحاكمة والفاسدة، احتجاجاً، في الوقت ذاته، على هيمنة طهران ومسؤوليتها عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وعلى أساليبها في القهر والتمييز والنهب المنظم لمقدرات هذه البلدان وثرواتها.
وإذ تسمع بين السوريين ممن لا تزال تفتنهم الشعارات الوطنية، عبارات تدين هذه الثورات وتعدها إضعافاً لمحور المقاومة والممانعة في مواجهة المخططات الصهيونية، فيمكنك أن تلمس، على العكس، ارتياحاً لدى اللاجئين السوريين تجاه الثورة اللبنانية، لأنها أنصفتهم، وردت عنهم الحيف والظلم وسيل الاتهامات التي أطلقها الزعماء الشعوبيون ضدهم بصفتهم أساس الداء والبلاء الذي يعيشه لبنان، وبين هذا وذاك، يرى كثير من السوريين أن حشود اللبنانيين والعراقيين في الميادين وظمأهم لنيل حقوقهم، أعادا بعض الأمل والثقة بقدرة الشعوب على تقرير مصيرها، والأهم أنهما لم يتركا فرصة للعمى الآيديولوجي ولمدّعي الوصاية كي يفركوا أياديهم فرحاً وهم يقطفون ثمار نفوذهم الإقليمي بعد أن استتبت لهم الأمور في سوريا، وبدأوا يتباهون بالسيطرة على أربع عواصم عربية والتحكم في قراراتها!
قلق السوريين من تطور غير محمود للأحداث في لبنان والعراق كبير، ليس فقط لأنهم يناصرون الأساليب السلمية والمدنية، ويرفضون العنف الأعمى والذي ما من أحد مثلهم اكتوى بناره، بل أساساً بدافع من رغبة صادقة بألا تذهب الأمور نحو الصراع الأهلي ويغرق البلدان في دوامة التفرقة والقتل وحمامات الدم.
«لا تزال أيادينا على قلوبنا ونأمل ألا تحدث اندفاعات قمعية مغرضة في العراق ولبنان تجهض إرادة التغيير»، يستهلّ بعض السوريين أحاديثهم غامزين من هذه القناة إلى التجرؤ في العراق على استخدام الرصاص الحي وأساليب القنص لقتل المتظاهرين واعتقال الناشطين وتغيبهم، والأهم إلى ضرورة وحدة المحرومين وابتعادهم عن الاستقطابات الحادة وظواهر الثأر والانتقام ونوازع التطرف والإقصاء، تحدوهم رغبة صادقة بأن تكون فرصة الشعبين اللبناني والعراقي أوفر حظاً من فرصتهم، لعل في ذلك ما يخفف آلامهم ويعوّض عليهم بعض خساراتهم.
المصدر: الشرق الأوسط