عبد الحفيظ الحافظ
يتغنى محمد بقصص البطولة والعطاء، ويعشق أفلام الـ (طخ.. طخ)، كما كنّا نسميها في طفولتنا، وهو يحيا مع أبطال أفلامه المسجونين المظلومين، ويحارب معهم الطغاة، ويدافع عن الذين لهم حقوق مغتصبة، وينسب نفسه إلى فئة الرجال. في اليوم التاسع من حرب تشرين، بينما كنّا ننظر إلى زرقة السماء عساها تخبرنا عن سير الحرب، رأينا طائرةً تحلّق في ارتفاع منخفض، يتبعها هديرها المرعب، بعد أن قصفت مصفاة حمص، وغطّت الشمس بغيومٍ داكنات، شاهدناها تترنّح، ثم اشتعلت بعد إصابتها بصاروخ سام. صاح الجميع فرحًا، وصفقوا، وابتهجوا، لكن أخي محمد صاح بالجميع: – هناك طيار قفز بمظلته، إنه طيار إسرائيلي يجب القبض عليه، فركضنا باتجاه سقوطه وعيوننا معلّقةٌ بالسماء. تهرول حولنا نساء الحي بسكاكين المطابخ، ونحن نمسك ما تيسّر من عصيّ وحجارة، وقد غاب عنا أن الريح ستذهب بعيدًا بذلك الطيار، ومع ذلك؛ استمر الركض والنظر عاليًا، فنحن نريد القبض على العدو الدخيل، وكان بعضنا حافيًا، أجمعنا على أن نربطه ونسلّمه إلى الدولة للاستفادة منه، كما قال محمد؛ من أجل المعلومات، وتبادل الأسرى، وعلينا أن نكون حذرين؛ لأنّه مسلّح، لكنه جبان دخيل، بحسب ما تعلمناه في المدارس وسمعناه من أهلنا الذين يحدثوننا عن شجاعة جنودنا وجبن جنودهم؛ فهم لا يواجهون وجهًا لوجه، إنهم يقتلون الأطفال والنساء والشيوخ في قرى فلسطين ومدنها، ويرتكبون المجازر بطائراتهم وقذائفهم بعيدة المدى. ركضنا، ركضنا، وكلّنا عزم وهمّة للوصول إليه، وعندما وصلنا إلى نهاية الأبنية السكنية للحي التي ما زال بعضها قيد الإنشاء، بحثنا عن الطيار في كلّ مكان وخلف الحجارة والخفان وداخل الغرف، وبعد عناء طويل أدركنا أنّ نزوله سيكون بعيدًا في البريّة التي لم تكن لها حدود، ولكن لا بد من أن يمسك به أبناء حي آخر كما أكد أخي محمد. اتصل جارنا السمان (أبو قريع) من تلفونه الأرضي اليتيم في البناية، وأخبر السلطات، وسأل عن ابنه المتطوّع في السرايا على الجبهة، وطلب -بعدئذ- منا البقاء قرب المنازل، بحسب التعليمات، مع الدعاء لجيشنا البطل بالتوفيق والنصر. كان ساكنو بنايتنا يعيشون المعارك يومًا بيوم، وساعة بساعة، فلكلّ عائلة بطل يحارب على الجبهة؛ لحمايتنا من العدو الغاصب لجولاننا الحبيب، وتحدث بعض من زار منطقة الحمّة المعلقة على سفوح هضبة الجولان عن غاباتها وينابيعها المعدنية الساخنة. قال محمد: – لو كان والدنا هنا لذهب إلى البريّة، وأمسك بالطيّار في خمس دقائق. دخلت النساء البيوت، ورجعنا نحن -الأولاد- للعب قرب المنزل بحسب تعليمات (أبو قريع). بعد دقائق عدة صاح أخي أن نصمت ونوقف الكُرة، فسمعنا هديرًا يتصاعد، قال محمد، وهو الخبير في الأمور العسكرية: إنها (هيلوكوبتر)، طائرة ذات بطن، وذات شفرات طويلة، وشكلها في السماء مثل الجرادة المشاكسة: – انظروا، إنهم يلّوحون بأيديهم. رفع محمد يده، وأدّى التحية العسكرية كما علّمه والدي قبل أن يلتحق بالجيش. ابتسم، وقال: إنهم ردوا عليّ التحيّة بتحيّة عسكريّة، وإنهم ثلاثة! طبعًا، أنا لم أر سوى جرادة كبيرة لها ضجيج يصمّ الآذان، وكنت أقف خلفه، وأمسك بطرف قميصه، وهو يقفز إلى الأعلى يريد الاقتراب من الطائرة. حينئذ أدركتُ أنّ محمّد أطول مني بكثير، التفتَ إليّ، وقال: إنهم أصدقاء والدنا. بعد غروب الشمس عدنا إلى المنزل؛ ليحدِّث أخي أميّ كيف كلّمه طاقم الطائرة وحيّوه وحيّاهم، وقال لها: لقد ذهبوا ليمسكوا بالإسرائيليّ. انتظرنا والدنا بفارغ الصبر، وخاصة أخي محمد، من دون أن ييأس، وكل يوم يعيد حديث الطائرة الإسرائيلية، ودفاعاتنا الصاروخية والطيار، والمظلة والمروحية، وأصدقاء والدي الذين فيها، مع إضافة مشاعر وأحداث وتفاصيل جديدة يومية، لم نسمعها، ولا نعرفها. وكلّما دخل شخص جديد، نطلب من أخي أن يبدأ قصته، ونصمت بانتظار مسلسل من التفاصيل الجديدة والممتعة. كنا بلهفة لعودة والدنا؛ ليحدثّنا عن بطولات جيشنا الذي قهر العدو على الجبهة، ونحدثه -بدورنا- بلسان محمد عن بطولات الحيّ والشيوخ والأولاد، وتضامننا في غيابه، وعن النساء اللاتي قدّمنَ أطباق الطعام للجنود الذين مروا بحيّنا، فلم يغلق أحد باب منزله، فالجميع يدخل ويخرج، وكأنّ الحارة كلّها أصبحت منزلًا واحدًا كبيرًا بغرف متعددة، لقد اتسعت مساحات ملاعبنا وحاربنا جميعًا. هذا الشريط من أحداث الطفولة كان يمرّ أمامي، وأنا في دمشق على (أوتوستراد) درعا، أتجاوز بخوف وبطء كلّ عدّة أمتار حاجزًا عسكريًا ودبابة، وأشاهد كلّ بضعة أمتار شجرةً مكسورةً، وعمودًا كهربائيًا محطّمًا، وأكياس القمامة المبعثرة، وأبنية مهدّمة متشحة بالسواد على جانبي الطريق، وأخرى محروقة تطل في استحياء بأشداقها الفارغة والمتفحمة. كنتُ أقود السيارة عائدًا إلى المنزل، وبجانبي ابني، وقد حاولت مرارًا أن يشاركني شريط ذكرياتي، عمّا حصل معي، ومع عمه محمد، ومع جدّه في عام 1973. لم أستطع الكلام، وملأت الغصّة حلقي مع أصوات الانفجارات والرصاص الذي يلعلع في كلّ مكان من حولنا، وفحيح الطائرات يملأ الفضاء. صاح ابني فجأة: – انظر يا أبي، هناك طائرة مروحيّة فوقنا تمامًا، أطلقت صاروخًا باتجاه بساتين البلدة التي إلى جانب الطريق. قلت له: لا أريد أن أرى شيئًا. لقد دفعنا ثمن هذه الصواريخ غاليًا، لا أريد أن أرى اغتيال الحياة، أريد أن أحتفظ بالصورة القديمة في رأسي عن طائرة أخي محمد التي حيّاه طاقمها، وكان فيها أصدقاء والدي الذاهبون للقبض على الطيار الإسرائيليّ الدخيل، وتتالت الصواريخ؛ ثان وثالث ورابع…. إنّ الطائرة تنخفض وترتفع، ويزداد العلقم في حلقي، وأصبح الطريق أمامي مرايا مكسَّرات من دموعٍ انهمرت بلا استئذان، مع حزنٍ وغيظٍ يشفق على جيل ابني الذي يعيش أجواء هذه الحرب. وصلنا إلى أطراف البلدة التي لجأنا إليها، فشاهدتُ وجوهًا صفرًا لكائناتٍ مسمّرةٍ في الزواريب، تنظر إلى (الجرادة الغليظة) المعلّقة في كبد السماء، وهي تقصف البيوت، وإلى قناصةٍ فوق الأبنية. حدّثت نفسي: هذه المرّة ليس لدينا مَنْ ننتظره؛ ليعود، فنحدّثه ويحدّثنا عن البطولات. لم أستطع الكلام مع ابني، لذتُ بالصمت، وأخذ شريط الذاكرة بالتلاشي، وعندما حاولت استعادته، لم أستطعْ إقناع نفسي بأني أعيش حلمًا، ثم تساءلتُ: – هل حقًّا هي السماء ذاتها؟ – هل هؤلاء البشر هم الذين عاشوا منذ أربعين سنة؟ – هل هذه هي البلاد ذاتها؟ حمدًا لله أن أخي محمد ما زال على قيد الحياة، ليؤكد لابني أن ما حصل كان حقيقة، وأننا غفلنا أربعين سنة.