أكرم البني
مرت الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من الشهر الجاري، من دون أن تلقى اهتماماً لدى غالبية السوريين، بل ربما أثارت عند بعضهم غضباً وألماً، وهم الذين اكتووا خلال تاريخهم بنار الاستهتار بمبادئها وانتهاك معانيها، وتجرعوا خلال ثورتهم ما تقشعر له الأبدان من القهر والتنكيل بحيواتهم وممتلكاتهم وأبسط حقوقهم.
فبأي عين يمكن أن ينظر السوريون إلى هذه المناسبة وقد صار كل شيء مباحاً ضدهم في معادلة الدفاع عن التسلط والامتيازات، ولم يعد لكينونتهم قيمة تذكر في صراع دموي انفلتت أدواته العنيفة وذهبت أطرافه بعيداً في الفتك والتنكيل؟ أو في حضرة اعتقالات عشوائية وتغييب قسري لمئات الألوف من السوريين، منهم من اعتقل لأنه أغاث محتاجاً أو قدم عوناً لنازح، ومنهم لأنه أسعف جريحاً أو بادر لرصد وتوثيق ما يجري، ومنهم لأنه فقط كان ينتمي لإحدى المناطق المتمردة، والأنكى أن سنوات عديدة قد مضت على اعتقالهم ولا تزال غالبيتهم من دون محاكمة أو معرفة لأماكن سجنهم، اللهم إلا إذا بادرت السلطة وعممت وثيقة موتهم ولنقل قتلهم، كي يكف أهاليهم عن السؤال عنهم ومتابعة مصيرهم؟!
وماذا تعني تلك الذكرى لسوريين قابعين في مناطق خرجت عن سيطرة النظام وباتت في قبضة منظمات جهادية، كما الحال اليوم في مدينة إدلب وريفها وبعض أرياف حلب وحماة؟! ويمكن للمتابع أن يدرك أحوال البشر هناك حين تندفع بعض الجماعات المسلحة لتصفية الحساب عشوائياً مع من تعتبرهم معارضين لها، أو تستخدم مختلف ألوان التعذيب والإذلال ضد مواطنين أبرياء بذريعة تجاوز نمط الحياة المفروض عليهم، ثم تتباهى بإعدام بعضهم، ذبحاً وحرقاً، ناهيكم عن اغتيال الناشطين السياسيين والإعلاميين، ومحاربة أشكال التنظيم المدني والإداري واعتقال المنتخبين في المجالس المحلية وتصفية بعضهم، ويمكن للمتابع أيضاً أن يقدر الدرك الذي وصلت إليه حقوق الإنسان هناك، حين يحرم الأطفال من فرصهم في التعليم والرعاية وتفرض عليهم مناهج دينية تدمر قدراتهم على المحاكمة والنقد والاختيار أو عندما تغدو المرأة عورة وتحرم من حقها في العمل والتنقل والاجتهاد!
وأيضاً، ألا تغدو حقوق الإنسان في أسوأ حالاتها مع إصرار العقل المعارض على تكريس النهج السلطوي ذاته في موقفه من الكائن البشري، وتسويغ العنف والتضحية بالإنسان وحقوقه على مذبح المصلحة السياسية؟! والأدلة كثيرة، منها دعم غالبية قوى المعارضة لكل معركة عسكرية ضد النظام حتى لو ارتدت نتائجها مأساة على المدنيين واتخذت أبعاداً مذهبية بغيضة تعمق حدة التخندقات والشروخ الوطنية، ومنها دفاعها الأعمى عن المتطرفين الإسلامويين والترويج على أنهم جزء من مسار الثورة وأدوات التغيير، وإشاحة النظر عن انتهاكاتهم وتجاوزاتهم الطائفية والانتقامية بحجة عدم تشتيت الانتباه عن دورهم في مواجهة النظام، ومنها أخيراً تلك الدرجة من إهمال واستهتار المعارضة بما يكابده اللاجئون السوريون، مع تصاعد الدعاية والممارسات العنصرية ضدهم، ومع تردي شروط حياتهم وتحول أطفالهم إلى مشردين منبوذين بلا مأوى أو مدارس أو رعاية صحية.
وأي قيمة يمكن أن يمنحها السوريون لشرعة حقوق الإنسان عندما تهتز ثقتهم بصدقية المجتمع الدولي الذي طغت لديه لعبة المصالح الأنانية والمطامع التنافسية الضيقة في التعاطي مع بلدهم وتخلى عنهم في أشد محنة يتعرضون لها؟! أو حين يتنامى الفكر الشعبوي العنصري وتتراجع الضوابط الأخلاقية والإنسانية عالمياً، وينكشف عمق العجز الأممي عن المبادرة لوقف العنف المفرط وحماية المدنيين، تجلى الأمر في المحنة السورية باستهتار مخزٍ بدماء الأبرياء وما يحل بهم من خراب، وباسترخاء بغيض منح النظام مزيداً من المهل والفرص لممارسة كل أنواع البطش والتجاوزات من دون مساءلة أو حسيب أو رقيب؟!
وما يزيد الطين بلة، أن مبادئ حقوق الإنسان لم تحظ في بلدنا بأي اهتمام طيلة عقود، ولم تحتل الحيز الذي يليق بها كقيمة من قيم الذات البشرية، والسبب الرئيسي هو سيطرة وسطوة آيديولوجية متعددة الأشكال والصور على حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، آيديولوجية اعتبرت الإنسان مجرد أداة رخيصة لتنفيذ أجندتها لا قيمة له ولا حقوق، فباسم الكفاح من أجل تحرير فلسطين والوحدة العربية برر التيار القومي رفضه لمبادئ حقوق الإنسان على أنها وسيلة استعمارية لتمكين النفوذ الغربي ومطامعه، ووقف التيار الاشتراكي ضدها لأنه رأى فيها بوابة تستخدمها الليبرالية للتفريط في العدالة الاجتماعية، بينما رفضها تيار الإسلام السياسي لأنه يراها في حساباته بدعة غربية وغريبة عن مجتمعنا، خاصة أنها تمنح البشر القدرة على تقرير مصائرهم وتجعلهم مصدر السلطات بينما تقول مرجعيته بأن الحاكمية هي لله وحده، والأسوأ هو توافق هؤلاء الآيديولوجيين جميعهم على الطعن بأهلية الناس وقدرتهم على ممارسة هذه الحقوق والادعاء بأن إطلاقها يهدد الأمن والاستقرار في مجتمع متخلف كمجتمعنا!
يحق للكثيرين الاعتقاد بأن تذكير السوريين اليوم بمبادئ حقوق الإنسان هو أشبه بصرخة يائسة في ظل سطوة السلاح وسيادة منطق القهر والعنف، لكن لنسأل، أي خيار يبقى عند البشر إن تخلوا عن حقوقهم؟ وهل كنا لنصل إلى ما نحن فيه لولا تغييب دور الإنسان في المشاركة وفي تقرير مصيره ومستقبل وطنه؟! والأوضح، هل يمكننا، من دون إرساء مبادئ حقوق الإنسان، تخيل المشهد السوري في رحلة تعافيه نحو الخلاص من حرب دموية طويلة… في ضمان عودة اللاجئين السوريين والمهجرين قسرياً إلى ديارهم… في معرفة مصير الضحايا والمعتقلين ومحاصرة الشروخ والاندفاعات العرقية والطائفية والمذهبية، واستدراكاً في وقف هذه المأساة المروعة وإنقاذ وطن ودولة يهددهما التفكك والتهالك ومشاريع التنازع والتقسيم الإقليمية والعالمية؟
ولكن، لعل ما يضفي على هذا الخيار بارقة أمل، ويعيد لحقوق الإنسان روحها وألقها، أن تتزامن ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هذا العام، مع ثورات متقدة في لبنان والعراق وإيران، وهي ثورات تبدو من طابع حشودها وشعاراتها وأساليبها كأنها تؤسس لأوطان جديدة عمادها حقوق الإنسان، ولنقل كأنها تطلق آفاقاً واسعة لصالح إعلاء شأن الحياة والحرية والكرامة والمساواة في مواجهة طغيان الآيديولوجيا وغطرسة الفساد والمصالح الضيقة وحماقة لغة القوة والعنف.
المصدر: الشرق الأوسط