بالتزامن مع محاولات قمع الانتفاضة المطالبة بالإصلاحات في العراق، تشهد الأوضاع الأمنية والسياسية تدهورا مستمرا، وسط إشارات بوجود أصابع خفية تحرك الأحداث، تحت مسميات مثل الطرف الثالث أو الميليشيات المنفلتة أو المندسين، التي تجتمع كلها تحت مظلة ما تسمى بـ”الدولة العميقة في العراق”.
ويلمس العراقيون تأثير الدولة العميقة هذه الأيام، في تداعيات التظاهرات الداعية للإصلاحات التي بدأت في تشرين الأول/اكتوبر الماضي، وذلك من خلال عجز حكومة عادل عبد المهدي عن إخماد الحراك الشعبي أو تحقيق مطالبه المشروعة، وتنحي دور قواتها الأمنية لصالح دور ميليشيات وقوى مسلحة متنفذة تقود الأحداث وردود الأفعال الحكومية تجاهها.
وكان طبيعيا أن سقف مطالب المتظاهرين المحتجين في إجراء إصلاحات جذرية في أوضاع العراق ومنها محاربة حيتان الفساد لوقف نهب المال العام ونزع سلاح الميليشيات المنفلتة وحصره بيد الحكومة، لا يروق لأغلب الأحزاب والجماعات المسلحة المتنفذة في السلطة، لأن تلبية تلك المطالب يعني إنهاءها وضرب مشاريعها في العراق، ولذا قررت من جانبها حسم المواجهة مع التظاهرات باستخدام كل الوسائل المتاحة ومنها العنف المفرط لاجهاضها في أسرع وقت ممكن، مستعينة بالتجربة الإيرانية، رغم ادعاءات عبد المهدي عن حق التظاهر السلمي وتصريحاته بتوجيه القوات المسلحة بعدم استخدام العنف ضد المتظاهرين.
مراحل قمع الانتفاضة
ومن خلال متابعة مسلسل محاولات قمع الانتفاضة الشعبية يمكن تلمس عدة محطات لفعاليات الدولة العميقة، بدأت في مهاجمة المتظاهرين بالعنف القاتل منذ بدء الحراك في الأول من تشرين الأول/اكتوبر الماضي، في ساحة التحرير التي سقط فيها مئات القتلى والجرحى والمعتقلين بنيران قناصة “مجهولين” استهدفوا المتظاهرين وقوات الأمن معا، باعتراف حكومة عبد المهدي، وبعدها تنفيذ الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات وملاحقات منظمة لناشطي التظاهرات والإعلاميين المساندين للحراك والقنوات التي تغطي التظاهرات، بالتزامن مع قيام جماعات مسلحة مجهولة باغتيال وخطف عشرات الناشطين والمتظاهرين.
وازاء فشل تلك الإجراءات في لجم الانتفاضة وتصاعدها وتوسعها، نفذت جماعات مسلحة تتحرك بحرية بوجود القوات الأمنية، سلسلة مجازر دموية بإطلاق النار بوحشية على المتظاهرين في البصرة والناصرية والنجف ثم في ساحة الخلاني وسط بغداد، حيث نفذت عمليات إبادة جماعية حقيقية قوبلت بإدانات محلية ودولية واسعة. وبعدها لجأت بعض الميليشيات إلى أسلوب آخر هو الزج بعناصرها ضمن التظاهرات لخلق المشاكل والاضطرابات والنزاعات والاشتباكات مع المتظاهرين، أسفرت عن سقوط ضحايا أيضا. وكل تلك الإجراءات كان هدفها خلق الرعب لدى المتظاهرين ولتفتيت تجمعاتهم ومراكز الاعتصامات في بغداد والمحافظات.
وكان آخر مراحل مخطط اجهاض الانتفاضة، محاولة خلق فتنة بين الأحزاب والفصائل الشيعية من خلال ضرب المتظاهرين وخطف بعضهم وتوجيه الاتهامات لأحزاب وميليشيات شيعية، كما جرى في تنفيذ عدة مجازر ضد المتظاهرين وتبادل فصائل الحشد الشعبي الاتهامات فيما بينها بالمسؤولية، وقصف مقر رئيس التيار الصدري مقتدى الصدر في النجف بطائرة مسيرة وضرب المتظاهرين في النجف من قبل عناصر مسلحة تابعة لتيار عمار الحكيم وغيرها. وقد تحدث الإعلامي والناشط المعروف منتظر الزيدي (الذي ضرب الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش بالحذاء) في لقاء تلفزيوني تابعته “القدس العربي” عن معلومات مؤكدة لدى تنسيقيات التظاهرات ومن خلال تواجده في ساحة التحرير مع المعتصمين، أن الاعتداء على المتظاهرين في الخلاني والسنك في بغداد مؤخرا، نفذته عناصر من ميليشيات العصائب وحزب الله، مؤكدا وجود أدلة على ذلك. وقد عزز هذا الأمر ما أعلنت عنه “قيادة عمليات بغداد” من أن قوة من جنودها حررت متظاهرين جرى خطفهم وتعذيبهم من قبل حزب الله العراق.
مرحلة “اللادولة” في العراق
الناشط البارز وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي جاسم الحلفي ، تحدث لـ”القدس العربي” عن الدولة العميقة، مشيرا إلى “كنا نعيش في الدولة العميقة والآن نعيش في ظل اللا دولة، وأعني به، أن الدولة العميقة والأحزاب معروف امتداداتها السياسية في جميع مفاصل الدولة، وللأسف الشديد في القوات المسلحة والقوات الأمنية، لذلك نجد ولاء بعض الأفراد لأحزابهم بدل ان يكون ولاءهم للوحدة العسكرية والإدارة العسكرية، هذا كان واضحا خلال السنوات الماضية، وتحدثنا به كثيرا، أما اليوم فإننا بصراحة في اللادولة، لأن من يقمع ومن يعتدي على المتظاهرين ومن نفذ الهجوم على منطقة السنك والخلاني هم ميليشيات، وفي وضح النهار”. وأضاف “وللأسف الشديد كأن هناك تنسيقا حيث تمت إزالة الحواجز الكونكريتية من المنطقة وانسحاب القوات الأمنية وإطفاء الكهرباء على المنطقة وتعطيل كاميرات المراقبة، قبل دخول الميليشيات التي بطشت بالمتظاهرين. إذن عن أي دولة نتحدث؟ هذه هي اللادولة. وحينما يتم اختطاف شباب من الشوارع وهم عائدون من ساحة التحرير إلى بيوتهم ومناطقهم، فهذه اللادولة، وحينما يتم قتل الناشطين والمتظاهرين، في الشوارع وبكواتم الصوت من دون أي وجود للحماية من الدولة، فهذه اللادولة. الدولة التي تحترم مواطنيها والدولة الحقيقية، تحمي التظاهرات التي هي حق دستوري، وإذا كان هناك مؤشر ما على متظاهر أو ناشط، فيجب استدعاءه بأمر قضائي ويكون التحقيق أمام قاضي تحقيق معروف، والمكان الذي يحتجز فيه معروف، والاحتجاز لا يكون لأكثر من 24 ساعة بدون أمر قضائي، كل هذه الأمور تعني أننا نعيش في مرحلة اللادولة”.
وعن عجز الحكومة عن حماية التظاهرات، أكد الحلفي “ان عجز الحكومة لا يحتاج إلى دليل، حيث عندما يختفي ناشط ما ونقوم بطرق أبواب الحكومة لا نجد جوابا، وجميع الاعتقالات تمت من دون قرار قاضي، وكذلك عجزت الحكومة عن منع أيادي الميليشيات من التطاول على المتظاهرين في ساحات الاعتصام، وحينما دخلت بعض القوات الأمنية إلى ساحات الاحتجاج فإنها لعبت دورا سيئا وشاركت في القمع وقتلت متظاهرين، كما حصل في الكوت والنجف والناصرية، وإن هذا جعل المواطن، للأسف، لا يثق حتى بالأجهزة الأمنية الحكومية التي يفترض انه يطمئن لها، واختلط أمامه دور الأجهزة الأمنية ودور الميليشيات إلا باستثناءات قليلة كانت هناك مواقف جيدة للجيش العراقي الذي حتى الآن لم يشترك بالقمع اشتراكا واضحا”.
وأكد الناشط أن “حملة استهداف الناشطين هي حملة ممنهجة منظمة أخذت عدة اشكال بدأت منذ انطلاق الانتفاضة يوم 1/10 إذ استخدمت الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه، بعد ذلك الخطف والاغتيالات والاعتقالات العشوائية، وطالت كذلك وجوها بارزة في الاحتجاج، إضافة إلى حملات تسقيط وتشويه ومحاولة خرق حركة الاحتجاج، كما حدث في مذبحة ساحة الخلاني والسنك التي قامت بها ميليشيات مسلحة. كل هذه الحملات الهدف منها هو تخويف وبث الرعب لدى المحتجين وبالتالي إنهاء حركة الاحتجاج” مشددا على أن “هذا التفكير بائس ولم ينجح، ولم تتراجع حركة الاحتجاج إطلاقا أمام كل هذه الضغوط، بل كلما زاد الضغط والقمع زادت حركة الاحتجاج من وتيرتها وإصرارها على المطالب، لذا لا أعتقد ان حملة القمع المنظم هذه ستؤثر على حركة الاحتجاج، بل ستعجز كل هذه الأساليب أمام صلابة وصمود المنتفضين الذين يرفعون مطالب مشروعة ويؤكدون على سلميتهم في الاحتجاج”.
بدايات الدولة العميقة
وقد برز مصطلح “الدولة العميقة” في العراق في فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 وسيطرة أحزاب المعارضة على مقاليد السلطة بالتعاون مع سلطة الاحتلال ودعم إيران، ولكن المصطلح تطور خلال فترة حكم رئيس الوزراء الأسبق وزعيم حزب الدعوة نوري المالكي، حيث وضع الأساس لهذا الكيان الخفي الذي تمكنت أذرعه من التغلغل في كل أطراف الدولة والهيمنة على مؤسساتها عبر أدوات ووسائل وآليات أبرزها بعض الأحزاب والميليشيات وشخصيات سياسية وعسكرية وأمنية موالية لايران، بما وفر لها أدوات الهيمنة الحقيقية على كافة مفاصل الدولة وقراراتها، وهي حقيقة يعترف بها المشاركون في العملية السياسية.
ويمكن تلمس تأثير الدولة العميقة في عجز الحكومات المتلاحقة عن التعامل مع ملفات وتحديات أساسية منها نزع سلاح الميليشيات والقضاء على حيتان الفساد وإنهاء النفوذ الخارجي على القرار العراقي والقضاء على الإرهاب، ومنها عدم إعلان حكومات بغداد عن الجهات التي تقوم بقصف المنطقة الخضراء والمعسكرات والقواعد العسكرية وتنفذ عمليات الاغتيالات والخطف رغم وجود العشرات من الأجهزة الأمنية المتخصصة لديها. وكذلك لم تعلن الحكومة أسماء المسؤولين عن تسليم الموصل إلى “داعش” الذين أصدروا الأوامر للقوات المسلحة بتركها لتنظيم “داعش” من دون قتال. ووصل الأمر بإحدى الميليشيات أن قامت قبل أيام بخطف ضابط كبير في وزارة الداخلية من شوارع بغداد وبوضح النهار، ثم أعلنت الوزارة، بعد أيام، تحريره بعد الاشتباك مع الجهة الخاطفة، من دون الإعلان عن هوية الخاطفين أو الجهة التي ينتمون إليها. وغيرها من الملفات الحساسة التي تعكس عجز الحكومة عن مواجهة الميليشيات وكبح جماحها.
وقد عملت القوى السياسية الشيعية والميليشيات، على هيمنة قيادات موالية لها على جميع مفاصل قيادة الدولة والوزارات والقوات المسلحة ومئات الهيئات المستقلة مثل مفوضية الانتخابات والبنك المركزي وهيئة النزاهة وغيرها، إضافة إلى مناصب وكلاء الوزارات والمدراء العامين. وكانت فترة إعلان تأسيس الحشد الشعبي عام 2014 لمساعدة الحكومة في مواجهة تنظيم “داعش” الارهابي، هي العصر الذهبي للميليشيات ، ذراع الدولة العميقة الضارب، حيث أصبحت الميليشيات، بعد أن تم ضمها للقوات المسلحة العراقية، تتمتع بغطاء رسمي وتحصل على الأموال والسلاح من الحكومة، بعد أن كانت تحصل عليها من طرف آخر، ولذا بقي ولاءها للجهات التي انشأتها وليس للدولة العراقية باعتراف قادتها، حيث أن العديد من الفصائل المسلحة قد تم انشاؤها قبل تشكيل الحشد بسنوات، ومنها منظمة بدر (انشأت في إيران خلال الحرب العراقية الإيرانية 1980- 1988) وميليشيات الخراساني والعصائب وكتائب حزب الله وغيرها من التنظيمات الشيعية المسلحة التي كانت المستفيد الأول من ظهور “داعش”. وبالتدريج تمكن قادة الفصائل المسلحة من التغلغل في أجهزة الدولة وخاصة بعد الدخول إلى العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات ودخول قبة البرلمان، علما بأن الدستور وقانون الانتخابات يمنعان الفصائل المسلحة من المشاركة في الانتخابات والعمل السياسي.
وبالنسبة للقوات المسلحة العراقية (جيش، شرطة، وأجهزة أمنية) فإن مخطط الدولة العميقة هو الهيمنة على مصدر القرار فيها، من خلال عدة وسائل وأساليب أبرزها زرع قيادات من الأحزاب والفصائل المسلحة للمعارضة السابقة، في قمة المؤسسات الأمنية والعسكرية، بعد منحهم رتبا عسكرية عالية من دون استحقاق (يطلق عليهم العراقيون ضباط الدمج) وهؤلاء هم القادة الفعليون للمؤسسة العسكرية في العراق حاليا، كما تم تعيين الآلاف من أعضاء وأنصار الأحزاب والفصائل الشيعية في هيكل القوات المسلحة، إضافة إلى اتباع “سياسة التسقيط” ضد كبار القادة العسكريين المستقلين من ذوي الخبرة والكفاءة والمواقف الوطنية وذلك بالتخلص منهم بالإحالة على التقاعد أو ابعادهم عن مواقع القرار، أو تلفيق التهم لهم، أو التهديدات بالخطف أو الإقالة أو توجيه الاتهامات بكونهم من اتباع النظام السابق وغيرها من أساليب التسقيط.
يقول زعيم الكتلة الوطنية اياد علاوي في لقاء تلفزيوني مؤخرا، ان وزير الدفاع سحبت منه صلاحياته لصالح قوى متنفذة، وان وزارة الدفاع لا تستطيع تحريك 5 جنود من هنا إلى هناك، مكررا ضرورة سحب السلاح من الفصائل المنفلتة، في إشارة إلى موقف القوات المسلحة العاجز مقابل سطوة الأحزاب والفصائل المسلحة التي تتصدى للمتظاهرين. وأكد علاوي أن جميع سفراء الدول الكبرى في العراق الذين زاروه أبلغوه قلقهم من قيام الفصائل المسلحة بالتصدي بعنف للتظاهرات، وتأكيدهم بضرورة نزع سلاحها وحصر السلاح بيد الدولة فقط.
دور الدولة العميقة في الصراع الأمريكي الإيراني
ومع تصاعد الصراع الأمريكي الإيراني على الساحة العراقية مؤخرا، أسفرت الميليشيات عن حقيقة توجهاتها ومواقفها المتعارضة مع المواقف الرسمية للحكومة العراقية التي أعلنت الحياد في الصراع المذكور. وقد صرح العديد من قادة الميليشيات علنا بوقوفهم إلى جانب إيران في أي مواجهة أمريكية إيرانية، وتهديدهم بضرب مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في العراق والمنطقة. كما قامت بعض الفصائل بإرسال مقاتليها إلى سوريا للوقوف مع النظام رغم إعلان حكومة بغداد مرارا، رفضها الزج بأي قوات عراقية في الأزمة السورية.
ولم تكتف الميليشيات بالتصريحات المعادية لأمريكا فحسب بل نفذت العشرات من الهجمات بالصواريخ على محيط السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء وعلى القواعد العسكرية التي يتواجد فيها جنود أمريكان في مطار بغداد وقواعد الأسد وبلد وغيرها. وجاءت تلك الهجمات رغم إعلان حكومة بغداد أن وجود القوات الأمريكية يتم بموافقتها وأنها تقدم المساعدة للعراق بمواجهة الإرهاب. كما تقوم الميليشيات باستمرار، باستهداف أي جهة أو شخصية عراقية معارضة للنفوذ الإيراني في البلد.
ويعتقد الكثير من العراقيين والمراقبين، أن عجز الحكومات عن الوقوف بوجه “الدولة العميقة” يعود إما للخوف من قوتها وسطوتها وتغلغلها في كل مفاصل الدولة، إضافة إلى الدعم الخارجي الذي تتمتع به، أو لأن بعض القادة الحكوميين والسياسيين هم أنفسهم جزء من “الدولة العميقة”. كما أن مؤشرات الأحداث الحالية ، توحي بان الدولة العميقة ، تقود انقلابا على السلطة والدولة مستغلة فترة استقالة حكومة عادل عبد المهدي والتظاهرات والفوضى السائدة في أوضاع العراق، لتبدأ مخططها، ليس في اجهاض انتفاضة تشرين الأول/اوكتوبر وكسر إرادة العراقيين فحسب، بل ولإحكام سيطرتها على الدولة، وهو ما يعزز المخاوف السابقة من أن السكوت على وجود الدولة العميقة وأدواتها، يخدم مشروع الطرف الخارجي الذي يقف وراءها، وخاصة في إطار الصراع الإيراني الأمريكي، وكذلك سينهي دور الدولة العراقية ويجر البلاد إلى المجهول، إذا لم يتم التصدي المناسب لها محليا ودوليا.
المصدر: القدس العربي