عبد الرحيم خليفة
تكشف الأحداث والتطورات الأخيرة في المنطقة عن وعي جديد لدى الشعوب، غير مسبوق، بعد أن كانت السنوات الأخيرة الدامية قد ارتدت بالمنطقة وشعوبها إلى مفاهيم وقيم ما دون وطنية، وأشاعت من الأمراض والآفات الاجتماعية ما لا سابق لها. يبرز اليوم وعي جديد لدى أجيال شابة يعلي من شأن “الوطنيات” العربية، التي غيبتها الأيديولوجيات القومية والإسلامية والأممية التي ازدهرت في النصف الثاني من القرن الماضي، الأمر الذي ساهم في إضعاف الانتماءات الوطنية وكرس ما فوقها وما تحتها، ما يعكس اليوم الحاجة الماسة للعودة الى بناء دولنا وتربية أبنائنا على أسس وطنية مغايرة، لما كان سائدًا، يتجاوز الطائفية والمذهبية، وحتى النزعات القومية الانفصالية التي راودت بعض أقليات المنطقة، في سياق تفتيت وإضعاف كياناتها، وإشاعة “الفوضى الخلاقة”. لقد جربت، وفشلت، معظم الأطراف التي راهنت على تحقيق مشاريعها الخاصة، بالدعم الخارجي والقوة، بعد أن نشرت ثقافة الكراهية، ونبشت من التاريخ القصي والبعيد، أحداثًا ونزاعات لا تفيد إلا بتهتك النسيج الاجتماعي، لصالح مشاريع وقوى مريضة غافلة عن خطورة ما تعمل، ونتائجه الوخيمة، على كل الأطراف الوطنية. لقد تعرضت المنطقة قبل التطورات الأخيرة في سورية، واندلاع ثورتي لبنان والعراق، إلى حالة من “الالتباس” الوطني، بسيادة وريادة قوى ومفاهيم زيفت الوعي الوطني، وشوهته، لدرجة أصبحت معها شعوب المنطقة ومكوناتها قبائل متحاربة تقيم بينها سدودًا ومتاريس في حروبها العبثية. ثمة وعي جديد منسجم مع تطورات الواقع، تمامًا، يبرز بقوة في روح المنطقة ويجدد شبابها، وعنفوانها، بعد أن أدركت القوى الجديدة عمق الهوة السحيقة التي رمتها بها القوى النافذة والمرتبطة بمشاريع ودول خارجية، وجرتها الى مستنقعات الدم والفجيعة، وأحبطت تطلعاتها لحياة حرة كريمة. معالم الوعي الجديد تظهر بقوة في ساحات وشوارع المدن الثائرة، وفي خطابات القوى المنتفضة، التي تجاوزت الأحزاب والأيدولوجيات والعقائد المريضة، والتي تحولت إلى عائق أمام نهضة شعوبها وتقدمها وعيشها بحرية وكرامة، وهو ما يجب أن تلتقطه القوى الوطنية والديمقراطية الحقيقية، ومعها القوى الشبابية وقوى الحراك الجديدة، لتعمل على تأسيس حالة وطنية، وترسيخ قيم ومفاهيم عصرية بديلة، تمكنها من العبور بأوطانها الى ما هدفت إليه في حراكها وثوراتها. قصارى القول إنها لحظة تاريخية ومفصلية سيكون لها ما بعدها، فتزيل ركام العفن التاريخي وتكنس القوى المريضة التي فكرت وعملت خارج حدود ومفاهيم الوطنية الحقة القائمة على المواطنة والمساواة والعدل وتبني كافة قيم حقوق الإنسان. اللافت أن قوى وشباب الثورة، اليوم، هي نفسها بالأمس القريب كانت جنود وخيول المشاريع المريضة وعناصر ميليشياتها التي غرقت في الجهل والعبث والعدم. والمفارقة الأخرى أن الذهنية الوطنية الجديدة تقدم فهمًا وخطابًا جديدين لانتمائها الى محيط عربي، وتربط بين قضاياها بفهم جديد أساسه ومنطلقه “الوطنية ” الجديدة. الرهان على تأصيل الحالة الجديدة وبلورتها في صيغ ومفاهيم وآليات حراك اجتماعي مختلفة تعيد تأسيس أوطاننا المستلبة والمنهوبة وتطلق العنان لقواها الكامنة لتعيدها إلى حالة الفعل التاريخي، وعلى أساس قيم العصر والحداثة وتقطع مع حقبة الارتداد الوطني المقيتة. هنا لا يمكن الحديث عن وطنية جديدة دون تعميم ثقافة وطنية عامة تعترف بالآخر، دون إقصاء واستبداد واستتباع وولاء لخارج الحدود، ترتكز على صياغة عقد اجتماعي جديد يأخذ بالحسبان كافة التطورات الأخيرة ومفاعيلها، وبروز الهويات الخاصة القاتلة، ولا يمكن أن يترسخ دون قوانين وتشريعات، ومناهج دراسية، وأحزاب سياسية وتجمعات ومنظمات، تنغرس في الحالة الوطنية، وسلطة ونخبة ونظم وطنية أولًا وأخيرًا. إنه رهان صعب يستمد قوته وحضوره من حناجر وقبضات الشباب الثائر الذي يسدد فواتير مستقبله من دمه. والمستقبل المأمول والمنشود يستحق التضحية.
المصدر: اشراق