راتب شعبو
بعد امتصاص الصدمة الأولى للثورة السورية، وبدء تشتت فاعلية القوة الشعبية غير المنظّمة، فإن القوى الداخلية التي أثبتت فاعلية، وفرضت نفسها في إطار الصراع الذي يقترب من إكمال عامه التاسع في سورية، هي القوى التي تتمتع بمركزية عالية في التنظيم وقدرة على الضبط والفرض والمحاسبة. بكلام آخر، هي القوى ذات اللب التنظيمي العسكري الذي يحيل كل جوانب النشاط الأخرى فيه، سياسية أو فكرية أو إغاثية.. إلخ، إلى توابع ترويجية له. هذا النوع من القوى يستطيع ضبط الأفراد، وتسخير طاقاتهم لخدمة الغرض الذي يريد. يكون ذلك، بلا شك، على حساب القيم الديمقراطية الداخلية. لا يخرج عن السياق إمكانية وجود واجهاتٍ ديمقراطيةٍ لهذه القوى التي تحتفظ دائماً بمركز قرار متحرّر إلى حد بعيد من تأثير هذه الواجهات حين توجد.
هذا النمط من القوى، والذي تجسّد في سورية، بصورة أساسية، في نظام الأسد وجبهة النصرة ووحدات حماية الشعب الكردية، يقوم على نفيٍ مزدوج للديمقراطية: الأول نفي العلاقات الديمقراطية الداخلية لصالح وجود قيادة لا تُنازع وتتمتع بسيطرة كبيرة على النشاط العسكري، الأمر الذي ينطوي على بعد “ترهيبي” مباشر أو غير مباشر، يطاول المخالفين أو المنشقين “الشواذ”. والثاني نفي العلاقة الديمقراطية مع المحيط، ما يعني الصدام الحتمي مع الأفراد أو القوى النقدية أو المغايرة، وصولاً إلى إلغائها التام إذا أمكن ذلك. أو يمكن السماح بوجودٍ محدود ومضعف ومراقب لقوى مغايرة، وجود مضبوط تحت السيف، لمجرّد التمويه والتغذية الإعلامية.
وسط البيئة السياسية السورية المعقدة والمتحركة اليوم، تسمح البنية المركزية الصارمة للتنظيم بضبط الجسد التنظيمي وتوجيهه، ذلك أن وجود نواةٍ قياديةٍ مقرّرة، وتملك إمكانية الردع المعنوي (تبجيل القيادة الذي تغذّيه الماكينة الإعلامية للقوة) أو الردع المادي (شتى صنوف المضايقات وصولاً إلى إمكانية التصفية، حتى لو تمكّن الفرد من الفرار إلى الخارج) تحيل التنظيم إلى جسد تنفيذي، وتمنع التمايزات السياسية داخله إلى حد كبير، فيتحوّل إلى وزن فاعل ومؤثر، غير أن نشوء مثل هذا التنظيم غير ممكن، من دون وجود “قضية” تكون منبعاً للعصبية التي تشد الجمهور، وتدفعه إلى الفعل والتضحية، وإلى إخماد التفكير النقدي. كانت “قضية” نظام الأسد في الحضيض، حين ثار السوريون مطالبين بالتغيير، فاعتمد في البداية على رصيد قوته المتوفر سلفاً (قوة الدولة)، ثم راح يبني قضيّته على الجمع بين تشويه الخصم، بوصفه طرفاً عميلاً يريد تدمير الجيش والدولة السورية، واعتباره طرفاً سنياً طائفياً يضمر تأسيس “إماراتٍ”، والانتقام من العلويين والأقليات المذهبية الأخرى، وما يقود إليه هذا من تغذيةٍ طائفيةٍ “أقلياتيه” بالنتيجة. في حين توفرت لجبهة النصرة “قضية” جاهزة، هي مظلومية السنة في “الشام” (الشام توجد في كل التسميات التي اعتمدتها الجبهة) والتكليف بإقامة شرع الله، كما توفر للتنظيم الكردي المظلومية الكردية العريقة.
بالطبع، لا مساواة هنا بين القضيتين الأخيرتين، إلا من باب أنهما مصدرٌ للشد، وللعصبية التي يستثمر بهما تنظيمان شديدا المركزية، غير أنه يمكن القول إن القضايا تتساوى من منظور النمط العسكري والترهيبي للتنظيم الذي ينشأ على “نصرة القضية”، فيجعلها أساساً للقمع الذي يمارسه التنظيم في الداخل (داخل التنظيم) وفي الخارج. واللافت أن هذه القوى تتّجه إلى أن تتخذ شكل “دولة” غير معلنةٍ في مناطق سيطرتها. من هذه الناحية، فقط، مضى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في المشوار إلى نهايته، فأعلن نفسها دولة منذ مرحلته العراقية الأولى.
البنية المركزية للتنظيم تساعده على حل المشكلة التمويلية، سواء من حيث قدرته على فرض إتاوات على المجتمع الذي يوجد فيه، مستنداً إلى التعاطف أو إلى القسر، أو من حيث جاذبية تنظيم كهذا للقوى الدولية المؤثرة التي تستطيع الاعتماد عليه لتنفيذ سياستها في البلد، ليس فقط لأنه تنظيم “حديدي” قادر على التنفيذ والفعل، بل أيضاً لأنه يضمن الثبات في “التحالف” نظراً إلى لا ديموقراطية آلية اتخاذ القرار فيه، ما يعني غياب فاعلية الجسد التنظيمي في نقد سياسة التنظيم أو في رسمها. وعلى هذا، تصبح قوة التنظيم شبيهةً بكرة الثلج، العناصر فيها تغذي بعضها بعضا. يزداد التنظيم قوة، فيزداد الاعتماد عليه، ويزداد قدرةً على استجلاب التمويل، وعلى المضي أبعد في التجنيد والتسلح والسيطرة، وهكذا. ثم يصبح هذا التنظيم، بفعل تأثيره وقدرته على فرض نفسه، مركز جذبٍ لأفرادٍ يتحولون إلى محيط “ديمقراطي” هامشي له، بدل أن يكونوا عناصر لتنظيم ديمقراطي.
التنظيمات السورية غير العسكرية التي صمدت وحافظت على شيء من الحضور والفاعلية (المجلس الوطني، الائتلاف الوطني، هيئة التفاوض) استمدّت تماسكها واستمراريتها من قوى دولتية احتضنتها في السياسة وفي التمويل، أي استمدّت تماسكها وحضورها من مصدر خارجي عنها، ومع الوقت، لم تعد هذه التنظيمات تكترث حتى بتمويه صورة تبعيتها.
أما المساعي التي تحاول تنظيم فاعلية العناصر الديمقراطية بطريقة ديمقراطية، فإنها تواجه الفشل على نحو ثابت. التعقيد السياسي للوضع السوري ينعكس على هذه المساعي على شكل تبايناتٍ في التقدير والتصورات من جهة، وعلى شكل غرقٍ في التفاصيل والحساسيات، وتبديدٍ للطاقات، في غياب شخصياتٍ سياسيةٍ جامعة، لها وزن معنوي وفعل استقطابي. يضاف إلى ذلك انعدام جاذبية هذه المساعي، حين تبدو مجرّد لقاءات (افتراضية غالباً) للجدل اللانهائي حول كل شيء، هذا فضلاً عن المشكلة المالية التي تحدّ من الفاعلية.
الواقع الموصوف يدفع الديمقراطي السوري في ثلاثة اتجاهات: إما الإحباط والاستنكاف عن السعي، أو الالتحاق بالتنظيمات القوية من موقع التابع، حتى لو شغل موقعاً إدارياً عالياً فيها، أو الكفر بفكرة الديمقراطية (أي بالتنظيم الديمقراطي) على الأقل بوصفها وسيلة تغيير، والاقتناع فقط بجدوى التنظيمات المركزية، شارك فيها أو بقي على هامشها.
يقودنا العرض السابق إلى تلمّس إحدى العوائق الأساسية في الانتقال إلى الديمقراطية، وهي أن فاعلية الأداة، في الشروط المحلية والدولية التي نعيشها، تستدعي المركزية الصارمة في التنظيم، وتستدعي تغذيةً عصبيةً منزاحة عن العصبية الوطنية، وهذا يطرد القوى الوطنية الديمقراطية، ويبتلع أنصارها، ويجعل ساحة الصراع السياسي محتكرةً لصالح قوى تتشابه في البنية والآليات ولاوطنية العصبية، ولا يشكل فوز إحداها فوزاً للديمقراطية، ومن غير المستبعد أن ينتهي صراع مثل هذه القوى، في النهاية، إلى تفاهم واقتسام مصالح فيما بينها بعد استهلاك شعب وموارد البلد.
كما يخرج من العرض السابق سؤالٌ مقلقٌ ويستوجب التأمل: هل يمكن بناء تنظيم وطني وديمقراطي وازن وفعال في البيئة السياسية السورية وأشباهها؟ بكلام آخر: إلى أي حدٍّ يمكن القول إن المهمة الديمقراطية السورية ممكنة في هذه البيئات؟
المصدر: العربي الجديد