مات ريدلي ترجمة: علاء الدين أبو زينة
لا يخبرنّك أحد أن العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين كان وقتاً سيئاً. إننا نعيش مع أكبر تحسن في مستويات المعيشة البشرية في التاريخ. فقد انخفض الفقر المدقع إلى أقل من 10 في المائة من سكان العالم لأول مرة. وكانت نسبته 60 في المائة عندما ولدت. وتراجع مستوى التفاوت العالمي، حيث تشهد إفريقيا وآسيا نمواً اقتصادياً أسرع من أوروبا وأميركا الشمالية؛ وتراجع معدل الوفيات بين الأطفال إلى مستويات منخفضة قياسية؛ وانتهت المجاعات تقريباً؛ وأصبحت أوبئة الملاريا وشلل الأطفال وأمراض القلب كلها في انخفاض.
القليل من هذا صنع الأخبار، لأن الأخبار الجيدة ليست أخباراً. لكنني كنت أراقبه عن كثب. ومنذ أن كتبت “المتفائل المتفائل” The Optimist Optimist في العام 2010، كنتُ أواجه بأسئلة من نوع “ماذا عن…”: ماذا عن الركود الكبير، وأزمة اليورو، وسورية، وأوكرانيا، ودونالد ترامب؟ كيف يمكنني القول بأن الأمور تتحسن، بالنظر إلى كل ذلك؟ الجواب هو: لأن الأشياء السيئة تحدث بينما ما يظل العالم يتحسن. وهو يتحسن مع ذلك، وقد فعل على مدار هذا العقد بمعدل أثار حماسي وأدهشني مثل طفل.
ربما كان أحد أقل التنبؤات شيوعاً التي قدمتها منذ تسع سنوات هو أن “البصمة البيئية للنشاط البشري ربما تكون في طور التقلص على الأرجح” وأننا “نصبح أكثر استدامة، وليس أقل، بالطريقة التي نستخدم بها الكوكب”. وهذا يعني أن عدد سكاننا واقتصادنا سوف ينموان، لكننا سنتعلم كيفية الحد مما نأخذه من الكوكب. وهكذا تبين. وقد وثّق عالِم معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أندرو مكافي، ذلك مؤخراً في كتاب بعنوان “الأكثر من الأقل”، والذي يُظهر كيف بدأت بعض الدول في استخدام مواد أقل: معادن أقل، ماء أقل، مساحة أقل من الأرض. وليس فقط في ما يتعلق بالإنتاجية، وإنما أشياء أقل بشكل عام.
هذا لا يتناسب تماما مع ما تخبرنا به تخبرنا به جماعة “ثورة الانقراض”. ولكن في المرة القادمة التي تسمع فيها السير ديفيد أتينبورو وهو يقول: “أي شخص يعتقد أنه يمكن أن يكون لديك نمو غير محدود على كوكب بموارد محدودة، وهو إما رجل مجنون أو خبير اقتصادي”، اسأله ما يلي: “ولكن، ماذا لو كان النمو الاقتصادي يعني استخدام أشياء أقل، وليس أكثر؟ على سبيل المثال، يمكن أن يحتوي مشروب عادي اليوم على 13 غراما من الألومنيوم، والكثير منه معاد تدويره. وفي العام 1959، كان يحتوي على 85 غراما. وحلول الأول محل الأخير هو مساهمة في النمو الاقتصادي، لكنه يقلل من الموارد المستهلكة لكل مشروب.
بالنسبة لنا في بريطانيا، ربما وصل استهلاكنا لـ”الأشياء” إلى ذروته في نهاية القرن -وهو إنجاز ذهب من دون أن يُلحظ كلّيةً تقريباً. لكن الدليل موجود. في العام 2011، نشر كريس جودال، وهو مستثمر في السيارات الكهربائية، بحثاً يُظهر أن المملكة المتحدة تستخدم الآن ليس “أشياء” أقل نسبياً كل عام فحسب، وإنما تستخدم أقل بالمطلق. وقد أثبتت الأحداث منذ ذلك الحين أطروحته. فقد انخفضت كمية جميع الموارد المستهلكة للشخص في بريطانيا (الاستخراج المحلي للكتلة الحيوية، والمعادن، والوقود الأحفوري، بالإضافة إلى الواردات مطروحا منها الصادرات) بمقدار الثلث بين العامين 2000 و2017، من 12.5 طن إلى 8.5 طن. وهو انخفاض أسرع من الزيادة في عدد الناس، مما يعني استهلاك قدر أقل من الموارد بشكل عام.
إذا لم يكن هذا يبدو منطقيا، فكِّر في منزلك. تتمتع الهواتف المحمولة بقدرة الحوسبة التي كانت تتمتع بها أجهزة الكمبيوتر التي بحجم الغرفة في السبعينيات. ويمكنني استخدام هاتفي بدلاً من الكاميرا، والمذياع، والمصباح، اليدوي، والبوصلة، والخريطة، والتقويم، والساعة، ومشغل الأقراص المدمجة، والصحف وحزمة ورق اللعب. وتستهلك مصابيح الإضاءة “ل. إي. دي” LED حوالي ربع كمية الكهرباء التي كانت تستهلكها المصابيح المتوهجة لإنتاج نفس الضوء. وتحتوي المباني الحديثة بشكل عام على كميات أقل من الفولاذ وتتم إعادة تدوير الكثير منه. ولم تصبح المكاتب بلا ورق تماماً بعد، لكنها تستخدم ورقاً أقل بكثير.
وحتى في الحالات التي لا ينخفض فيها استخدام الأشياء، فإنه يرتفع ببطء أكثر من المتوقع. على سبيل المثال، توقع الخبراء في سبعينيات القرن العشرين كمية المياه التي سيستهلكها العالم في العام 2000. وفي الواقع، كان الاستخدام الكلي للماء في تلك السنة نصف ما كان متوقعاً. وليس بسبب وجود عدد أقل من البشر، وإنما لأن الإبداع البشري سمح بريٍّ أكثر كفاءة للزراعة، أكبر مستهلك للمياه.
حتى وقت قريب، افترض معظم الاقتصاديين أن هذه التحسينات كانت دائماً تقريباً بلا جدوى، بسبب تأثيرات الارتداد: إذا خفضتَ تكلفة شيء ما، فسيستخدم الناس المزيد منه. اجعل الأنوار أقل جوعاً للطاقة وسيتركها الناس مضاءة لفترة أطول. ويُعرف هذا بـ”مفارقة جيفونز”، على اسم الاقتصادي ويليام ستانلي جيفونز من القرن التاسع عشر، الذي وصفها لأول مرة. لكن أندرو مكافي يجادل بأن مفارقة جيفونز لا تصمد. فلنفترض أنك تحولت من المصابيح المتوهجة إلى مصابيح “ل. إي. دي” في منزلك ووفّرت حوالي ثلاثة أرباع فاتورة كهرباء الخاصة للإضاءة. إنك عندئذٍ قد تترك المزيد من الأضواء مشتعلة لفترة أطول، ولكن بالتأكيد ليس لأربعة أضعاف المدة.
تعني الأساليب الأكثر كفاءة في الزراعة أن العالم يقترب الآن من “ذروة الأراضي الزراعية” -على الرغم من العدد المتزايد من الناس وطلبهم على المزيد من الغذاء من نوعية أفضل، فإن إنتاجية الزراعة آخذة في الارتفاع بسرعة كبيرة بحيث يمكن توفير الاحتياجات البشرية بمساحة متقلصة من الأرض. في العام 2012، جادل جيسي أوسوبيل من جامعة روكفلر وزملاؤه بأننا سنستخدم، بفضل التكنولوجيا الحديثة، مساحة من الأرض أقل بنسبة 65 في المائة لإنتاج كمية معينة من الطعام مقارنة بما كان قبل 50 عاماً مضت. وبحلول العام 2050، تشير التقديرات إلى أنه سيكون قد تم إطلاق سراح مساحة بحجم الهند من المحراث والبقرة.
كما أن ادخار الأراضي هو السبب في أن الغابات تتوسع، خاصة في البلدان الغنية. وفي العام 2006، توصل أوسوبيل إلى أنه لا يوجد بلد غني بقدر معقول يعاني من مخزون متناقص من الغابات، من حيث كثافة الأشجار أو المساحة. وتعود الحيوانات الكبيرة بوفرة في البلدان الغنية؛ حيث تتزايد أعداد الذئاب والغزلان والقنادس والوشق والفقمات والنسور البحرية والنسور الصلعاء؛ وحتى أعداد النمور تعود الآن إلى التصاعد ببطء.
لعل الإحصاء الأكثر إثارة للدهشة هو أن بريطانيا تستخدم طاقة أقل بثبات. ويشير جون كونستابل من منتدى سياسات الاحترار العالمي إلى أنه على الرغم من أن اقتصاد المملكة المتحدة قد تضاعف ثلاث مرات تقريباً منذ العام 1970، وأن عدد سكاننا ارتفع بنسبة 20 في المائة، فإن إجمالي الاستهلاك الأولي للطاقة المحلية انخفض فعلياً بنسبة 10 في المائة تقريباً. وقد حدث الكثير من هذا الانخفاض في السنوات الأخيرة. وليست هذه بالأخبار السارة بالضرورة، كما يقول كونستابل: فعلى الرغم من أن تحسن كفاءة استخدام الطاقة للمصابيح الكهربائية والطائرات والسيارات هو جزء من القصة، فإن هذا يعني أيضاً أننا نستورد المزيد من الطاقة المدمجة في المنتجات، بعد أن دفعنا بالكثير من صناعات الفولاذ والألمنيوم والكيماويات لدينا إلى الخارج مع بعض من أعلى أسعار الطاقة للصناعة في العالم.
في الواقع، قد يتسبب كل هذا التوفير للطاقة بمشاكل. فالابتكار يتطلب إجراء تجارب (معظمها تفشل). والتجارب تتطلب طاقة. والطاقة الرخيصة للغاية أمر حاسم بالغ الأهمية -كما أظهرت الثورة الصناعية. وبالتالي، قد تكون الطاقة هي المورد الوحيد الذي يجب أن يستخدم سكان مزدهرون قدراً أكبر منه. ولحسن الحظ، أصبح من الممكن الآن أن يوفر الاندماج النووي ذات يوم طاقة بالحد الأدنى، باستخدام القليل جداً من الوقود والأرض.
منذ نشأتها، كانت الحركة البيئية مهووسة بمحدودية الموارد وقابليتها للنفاد. وقد نعى الكتابان اللذان أطلقا الصناعة الخضراء في أوائل سبعينيات القرن العشرين، “حدود النمو في أميركا” و”خطة للبقاء في بريطانيا”، الاستنفاد الوشيك للمعادن والوقود. وتوقع كتاب “حدود النمو” أنه إذا استمر النمو بهذه الوتيرة، فإن العالم سوف ينفد من الذهب والزئبق والفضة والقصدير والزنك والنحاس قبل وقت طويل من العام 2000. وسرعان ما رددت كتب النصوص المدرسية هذه المزاعم.
تسبب هذا في قيام الاقتصادي جوليان سيمون بتحدي عالم البيئة بول إرليخ ومراهنته على أن سلة من خمسة معادن (يختارها إيرليخ) سوف تكلف في العام 1990 أقل مما كانت تكلف في العام 1980. وقال سيمون إن العصر الحجري لم ينته بسبب نقص في الحجارة، مجادلاً بأننا سنجد البدائل إذا أصبحت المعادن نادرة. وقد ربح سيمون الرهان بسهولة، على الرغم من أن إيرليخ كتب الشيك على مضض، وقال إن “الشيء الوحيد الذي لن نفقده أبدا هو البلهاء”. وحتى يومنا هذا لم يرتفع سعر أي من هذه المعادن بشكل كبير أو ينخفض من حيث حجم الاحتياطيات، ناهيك عن النفاد. (إحدى مقتنياتي العزيزة هي جائزة جوليان سيمون التي فزت بها في العام 2012، وهي مصنوعة من المعادن الخمسة).
ثمة مفارقة حديثة، هي أن العديد من السياسات الخضراء التي يُنادى بها الآن ستؤدي في الواقع إلى عكس الاتجاه نحو استخدام أشياء أقل. تتطلب مزرعة الرياح قدراً من الخرسانة والصلب أكثر بكثير من نظام مكافئ يعتمد على الغاز. وقد أعاقت المعارضة البيئية للطاقة النووية نظام التوليد الذي يحتاج إلى مساحة أقل من الأرض، وقدر أقل من الوقود والصلب أو الخرسانة لكل ميغاواط. ويعني حرق الأخشاب بدلاً من الفحم في محطات الطاقة استغلال المزيد من الأراضي وطرد المزيد من طيور نقار الخشب –بل صدور انبعاثات أعلى. وتستخدم الزراعة العضوية مساحة من الأراضي أكبر من الزراعة التقليدية. وقد وضعتنا التكنولوجيا على الطريق إلى كوكب أنظف وأكثر خضرة. ولا نحتاج إلى التحول إلى السير في اتجاه جديد. وإذا فعلنا ذلك، فإننا نجازف بإعاقة التقدم.
مع اقترابنا من دخول العقد الثالث من هذا القرن، سوف أقدم نبوءة: في نهاية هذا العقد، سوف نرى فقراً أقل، ووفيات أطفال أقل، ومساحات مخصصة للزراعة أقل في العالم. وستكون هناك المزيد من النمور والحيتان والغابات والمحميات الطبيعية. وسيكون البريطانيون أغنى، وسيستخدم كل واحد منا موارد أقل. وقد يكون المستقبل السياسي العالمي غير مؤكد، لكن الاتجاهات البيئية والتكنولوجية واضحة إلى حد ما -وهي تشير إلى الاتجاه الصحيح.
المصدر: (ذا سبيكتيتور) الغد الأردنية