د_ معتز محمد زين
راجعني مريض في عيادتي يشكو من تعب عام وخمول وأعراض أخرى، وبعد التحري والكشف تبين أنه يعاني من داء السكري وبأرقام مرتفعة جدًا.. قمت بوضع خطة علاجية (حمية وحركة وأدوية) وتوعية المريض حول خطورة المرض في حال إهمال العلاج وطلبت منه المتابعة معي لعدة أيام حتى تتم السيطرة على المرض والوصول بأرقام السكر إلى الحد المعقول. أخبرني المريض أنه يفكر بعدم استعمال الدواء والاعتماد فقط على الحمية والحركة. قلت له: وفقًا لأرقام السكر لديك فإنني أنصحك أن لا تغامر لأن السكر قد يفتك بالأعضاء الحيوية في جسدك. بعد حوالي سنة أحضر لي المريض بحالة غيبوبة مع إرتفاع شديد في أرقام السكر واختلاطات عديدة أخرى.. وبعد اتخاذ الإجراءات اللازمة وعودة المريض لوعيه اعترف لي أنه لم يأخذ العلاج منذ خروجه من عيادتي. تكرر ذات المشهد مع مريض آخر لديه قصور كلوي حاد بأرقام كرياتينين عالية ونصحته بضرورة إجراء التحال الدموي لكنه رفض مستشهدًا بشخص من أصدقائه عالج نفسه بالأعشاب دون الحاجة لمراجعة المشفى!
هناك الكثير من الأمراض – كالداء السكري – لا يمكن معاندتها أو تجاهلها أو تركها للزمن لأنها أمراض مزمنة ولديها القدرة على التسلل إلى كل خلايا الجسم والتأثير على معظم أعضائه وتعطيل الكثير من وظائفها وإحلال الفوضى بدل التنظيم والتنسيق الدقيق الذي كان يضبط عمل أعضائها بما يضمن سلامة الجسد بأكمله.. إن سياسة التجاهل والتغافل ستعطي المرض المهلة الزمنية الكافية والغطاء المناسب لنخر أعضاء الجسد من الداخل وتدمير خلاياه وإنهاك قواه حتى يصل إلى حالة الغيبوبة التامة.
أن تصاب بالسكري فهذا ليس مدعاة لليأس والإحباط والاستسلام. بل على العكس من ذلك. أن تصاب بالسكري فهذا يعني أن تستجمع قوتك وتتخذ تدابيرك وتعيد ترتيب أساليب حياتك اليومية وتتحرك بشكل أكثر فاعلية لمواجهته ومنعه من تدمير جسدك.
ولكي تواجه الداء السكري فأنت بحاجة أولًا إلى استشارة أهل الخبرة والاختصاص من أجل وضع برنامج متكامل للتعامل مع المرض (حمية وحركة ودواء وتغيير عادات الغذاء وتعديل بعض السلوكيات الحياتية اليومية).
إن التعامل مع المرض المزمن المتغلغل في جسدك بسلبية والركون السلبي إلى سلطة القضاء والقدر دون اتخاذ الخطوات اللازمة لتحجيم المرض ووضع حد لأثره المدمر على أعضاء الجسد سيعني حتمًا فقدان التوازن والدخول في غيبوبة ربما لا يستطيع الجسد الخروج منها.
لا بد من بعض التعديلات والتغييرات في سلوكنا وأسلوب حياتنا وعاداتنا، فنحن قبل الإصابة بالمرض لسنا كما بعد الإصابة، ولا يمكن مواجهة المرض بذات السلوكيات التي كانت سببًا في حدوثه. فاعتماد ذات العادات والأساليب السابقة ستعطي الفرصة إلى انتشار أكبر للمرض في خلايا جسدنا والفتك بها.
عندما نهمل العلاج ويتمكن المرض من جسدنا قد نضطر إلى بتر أحد الأطراف للحفاظ على بقية الجسد. لكننا سنعيش بقية عمرنا في حالة إعاقة أو عجز.
المسألة في التعامل مع مثل تلك الأمراض ليست مجرد وجهة نظر. إنها مسألة وجود. حياة أو موت. لذلك لا بد من فهم طبيعة المرض ومساره واختلاطاته بشكل جيد ووضع خطة متكاملة لمحاصرته واستنفار كل أعضاء الجسم والإفادة من كل إمكاناتها لدعم هذه الخطة.
هل هي مقالة طبية؟؟ هل نتكلم في هذه المقالة عن السكري أم عن الاستعمار والاستبداد والاستفراد والاستعباد والتخلف والجهل والتبعية وفقدان الهوية؟؟؟ هل نتكلم عن الفوضى الاجتماعية والفكرية وأثر الصراعات البينية؟؟ هل نتكلم عن تمييع الدين وتجميده في زوايا المساجد وحلقات الذكر؟؟ هل نوجه لخطورة الغزو الفكري والتغريب الثقافي؟؟ هل نشير بوضوح إلى الاستعمار الإيراني والروسي لبلادنا والاستعمار الغربي لقرارنا وثرواتنا؟؟ هل نعرض مشاهد من الثورة السورية بوجهيها السياسي والعسكري؟؟ هل نشير إلى أثر المال السياسي؟؟ هل ندعو إلى ضرورة تغيير الاستراتيجية التي أوصلت الثورة الى حالة الانسداد المعروفة؟؟
وهل الجسد المقصود جسد صاحبنا الذي أهمل العلاج فعاد بعد فترة بحالة غيبوبة؟؟ هل هناك علاقة بين جسد المريض وجسد الأمة؟؟ وهل بلادنا تعيش حالة غيبوبة؟
هل نتكلم عن علاقة سورية بالعرب. أو شمالها بتركيا؟؟ وهل نحذر تركيا من النتائج الكارثية على الداخل التركي إبان تغيرات الشمال السوري؟؟ هل نلمح لمسلمي الايغور أو ميانمار أو الهند؟؟ هل نشير إلى تغافل الحكام وتجاهلهم المقصود أو الغبي لتسلل الكثير من عوامل التدمير والتخريب لجسد المجتمع؟؟ ضعوا الأجوبة التي تناسبكم.
لقد تغلغلت بعض الأمراض عميقًا في جسد المجتمع والأمة وسرت داخل شرايينه وباتت قادرة على الوصول إلى أي عضو فيه. وهدفها واحد. تدميره من الداخل وتقطيع أوصاله وصولًا للإعلان عن وفاته. وإن تجاهل هذه الأمراض يعني منحها المزيد من الوقت للوصول إلى أهدافها.. لا بد من المواجهة. ولا بد من استراتيجية وخطة واضحة. وإلا فالغيبوبة ستطول. وقد تنتهي بكارثة.
المصدر: اشراق