محمود الوهب
يرى كثيرون من أنصار الثورة السورية أنه لو لم يتدخل الروس والإيرانيون دعماً للنظام السوري لسقط وانتهى أمره منذ ذلك الوقت، أي منذ العام 2013 أو 2015، ويتصوَّر هؤلاء أن الوضع في سورية كان سيسير على نحو أفضل مما آل إليه بعد ذلك.
ويستند هؤلاء إلى ما ارتكبه الروس من مجازر إذ كانت حربهم على المدنيين، بحق، أكثر مما هي على الإرهاب والإرهابيين. وبذلك تسببوا بقتل عشرات آلاف المدنيين من نساء وأطفال وهدموا آلاف المنازل، وهجروا ملايين البشر، ولم تنج من ضرباتهم المدارس ولا المشافي، ولا حتى الأسواق العامة المكتظة بالناس.. إذ اتبعوا في حربهم مبدأ الأرض المحروقة، والهدم التام، كما فعلوا في غروزني عاصمة جمهورية الشيشان. وبالطبع، حقق الروس لبلدهم استثمارات اقتصادية وفق عقودٍ طويلة الأمد، الخاسر فيها هو الجانب السوري الأضعف، وكذلك الحال بالنسبة لقاعدة حميميم في طرطوس التي استأجرت 49 عاماً، وفق شروط مجحفة بحق السوريين، إذ لا تسمح تلك الشروط بدخول أي مسؤول سياسي أو عسكري إليها إلا بإذنٍ من إدارتها. وأظهرت زيارتا الأسد الاثنتان ذلك الأمر بوضوح تام، إذ هو ضيفٌ لا غير، وهو رأس السلطة السورية.
قبل البدء بمناقشة هذه الفكرة لا بد من القول: إن التاريخ يكتب نفسه، بحسب العوامل الفاعلة في مساره وحركته المستندة إلى ماضٍ قريب، وصيرورة حاضر قائم ووقائع ملموسة! ولا شك في أنَّ للعوامل الذاتية دوراً في ذلك المسار كله. ومن هنا، نرى كلمة “لو” غير ذات جدوى.
وبناءً على ما تكشّف من أحداث، يمكن القول إن ذلك التصوّر في شقه الأول صحيح، وربما
بنسب عالية جداً، فالكل يعلم أنَّ النظام، حينذاك، قد كان آيلاً للسقوط فعلاً. بل إنَّ زخم المظاهرات القوي قد أسقطه، خلال الأشهر الأولى، لولا أنه دفع بالجيش إلى الشارع ليبدأ بحصد الناس، وليدبّ فيه التشتت والخراب، فلكل فعل ردة فعل معاكسة، وهذا ما حصل في الجيش، إذ أدرك بعض ضباطه وصف ضباطه وجنوده أن هذه المعركة ليست معركتهم. وهكذا حصل الانشقاق العمودي، ليتلوه توقف الشباب السوريين عن رفده، إما بتخفّيهم أو بهجرتهم خارج البلاد، إضافة إلى هؤلاء الذين هم تحت سنّ الاحتياط الذين فعلوا الشيء نفسه. وما قوَّى هذا الأمر أيضاً ظهور النزعة الطائفية هنا وهناك.. وذهاب الدولة إلى الاعتماد على المليشيات تحت مسمّيات مختلفة “لجان الدفاع الوطني”، أو “اللجان الشعبية… إلخ” (نقل تجربة العراق ما يشير إلى الأصابع الإيرانية منذ البداية). وعلى ذلك، فقد أخذت ترتكب الموبقات المختلفة ما سرَّع بعملية التسليح المضاد، وبدأ التدخل الإقليمي، وسرعان ما امتلأت الأرض السورية بالفصائل العسكرية التي أخذت كلها طابعاً إسلامياً محضاً: أسماء فصائل، ولحى قيادات، وألقاباً تراتبية، ومحاكم شرعية، ودواوين حسبة، وإلى آخر ذلك مما هو نائم في مخازن التاريخ. وسال السلاح على الأرض، وأغدقت الأموال معه بغير حساب.
والسؤال الذي لا بد أن يخطر ببال كل من يتصوَّر هكذا سيناريو هو: هل كان السقوط لصالح الشعب السوري؟ أعني سيؤول إلى الذين يمثّلون جوهر الثورة السورية الديمقراطي المتطلع إلى دولةٍ مدنيةٍ تفسح في المجال للحريات العامة التي تشمل جوانب الحياة السياسية والاجتماعية.. أم إن سورية كانت ستقع بيد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة وجيش الإسلام، وأمثالهم ممن يتمتع قادته اليوم هنا في تركيا بملايين الدولارات، المنهوبة طبعاً.
العقدة هنا، وهنا يمكن أن يحدث التباين في الرأي، إذ المعركة مع هؤلاء أصعب، وخصوصاً من خلال ما رأينا من تجربتي “داعش” وجبهة النصرة وفصائل أخرى أقل قوة، لكن تتمتع بالعقلية ذاتها، ولا أعني بممارسات الفصائل بالنسبة للناس الذين يقعون تحت حكمهم، بل بتسلط الفصائل بعضها على بعض، وهذا ما حصل بالفعل إذ الكبير أخذ يأكل الصغير، كما السمك في البحر، وكل منها يستند إلى آيات وأحاديث وفقهاء مشهود لهم. ولدى كل منهم سجون ومعتقلات، وأدوات تعذيب أي كل لوازم دولة الاستبداد التي يعرفها حكّام العرب اليوم، ويحاول جيل الشباب التغلب عليها! وكان أول من أقصي عن هذه الفصائل هم الضباط المنشقون الذين كان يمكن أن يلعبوا دوراً في التدريب والتهيئة لحماية المواطنين، بحسب تبرير العسكرة، ودوافعها البريئة التي قدّمت للمتظاهرين.. وخصوصا أنهم سوريون، لا كهؤلاء القادمين من وراء البحار ومن دول عربية وإسلامية. وعلى الرغم من ذلك، فالسؤال الذي يفرض نفسه، في النهاية، هل كان سيجري تدخل دولي وإقليمي أم لا؟ سيحصل كما هو الحال اليوم في ليبيا وفي أفغانستان والصومال سابقاً. وقد حصل التدخل فعلاً، وقبل أن يتدخل الروس بعام، إذ دخل التحالف بقيادة الولايات المتحدة بقرار من أوباما في العاشر من سبتمبر/ أيلول عام 2014. وقد رحبت المعارضة بالتدخل، وطلب النظام مشاركته، لكن طلبه رفض.
قد يكون أصحاب رأي “لو لم تتدخل” صحيحاً لو أن هناك جيشاً وطنياً قوامه الأساسي مجموعة
الضباط الذين انشقوا عن النظام، كما أشرت، ولهم القوة والدعم الذي كان للفصائل القوية الأخرى، دونما شروط قاسية، أو لو أن السقوط حصل قبل تدخّل الجيش، أي خلال الأشهر الستة الأولى، واعتقادي أنَّ النظام أخذ في الحسبان تدخّل الإيرانيين والروس أيضاً في حال فشل الجيش.
ارتكب الروس من الجرائم ما يعجز عنه الوصف، وحققوا كما ذكرت منافع متعدّدة على الصعيدين، العسكري والاقتصادي، إذ يقول بوتين إنهم جرّبوا نحو ثلاثمائة نوع من السلاح. وتفيد تقديرات بأنهم باعوا إثر ذلك بما قيمته نحو 35 ملياراً من الدولارات. والأهم من هذا وذاك انهم عادوا إلى المسرح السياسي الدولي، إذ لهم مشاركاتهم في قضايا كثيرة، وها هم أولاء يعودون، عبر سورية، إلى ليبيا التي خُدعوا، كما يقولون، لدى بداية أزمتها، والخلاصة أنهم ككل متدخل في أرض غيره لا اسم له غير محتل أو مستعمر.
وأخيراً، وإذا كانت المفاضلة مرفوضةً في أساس منطقها غير السليم، فإن تجارب الإسلام السياسي في بلداننا العربية لم تحقق أي نجاح، حتى إن حركة النهضة في تونس التي تعدُّ الأكثر تنوراً دفعت أمينها العام، راشد الغنوشي، إلى أن ينتقد نفسه والحركة، لنتائج الانتخابات قبل الأخيرة، علناً بقوله: إننا لم نستطع تلبية مطالب شعبنا، (يذكر أن الوزارة أو أغلبها كانت بيد الحركة). أما من أراد القياس على تركيا وماليزيا، فالفارق كبير، ولعل بعض كلمات رئيس وزراء ماليزيا، مهاتير محمد، في منتدى كوالالمبور للفكر والحضارة عن “التجربة الماليزية في النهوض والتنمية” يضع أفقاً أمام الحركات السياسية الإسلامية، إذ قال: “المجتمعات المسلمة عندما رضخت لبعض الفتاوى والتصورات الفقهية، التي لا تتناسب مع حركة تقدّم التاريخ، أُصيبت بالتخلف والجهل…!” وأضاف: “العديد من الفقهاء حرّموا على الناس استخدام التلفزيون والمذياع، وركوب الدراجات، وشرب القهوة، بل وجرَّموا تجارب عباس بن فرناس للطيران”. وقال: “نحن المسلمين، صرفنا أوقاتًا وجهودًا كبيرة في مصارعة طواحين الهواء عبر الدخول في معارك تاريخية، مثل الصراع بين السنة والشيعة، وغيرها من المعارك القديمة..”. وبعد: إنَّ رائد أي حركة سياسية في عصرنا، وبعيداً عن أية أيديولوجيا، هو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومرتكز الاثنتين التنمية المستمرة والكل مطلب سورية الرئيسيِّ والملح.