عمار ديوب
شهدت الأشهر والأيام الأخيرة في سورية انهياراً كبيراً للعملة السورية “دولار1 يساوي أكثر من 1200 ليرة سورية”، وربما الأسوأ أن السوريين سمعوا كلاماً من بثينة شعبان، وهي مستشارة في القصر الجمهوري، ومفاده أن الاقتصاد حالياً أفضل بخمسين مرّة من 2011، وأن الدولار لا يمكن أن يُصرف بـ 850؛ أكاذيب بالجملة تطلقها، ويعرف ذلك السوري البسيط وسواه.
السويداء التي صعّدت تارة، وخفّفت، تارة أخرى، المظاهرات الاحتجاجية منذ 2011، وحصل فيها انفلاتٌ أمنيٌّ كبير في السنوات الأخيرة، ردّت باحتجاجاتٍ شعبية، وخرجت المدينة وبلدة شهبا في الأيام الأخيرة، وهناك دعوات إلى استمراريتها وتوسّعها، وجاءت تحت شعار كبير “بدنا نعيش”. دلالته واضحة، فقد أصبح السوريون يئنون من انعدام فرص العمل وانهيار العملة وأجورهم. قضيتهم الأولى حالياً هي الفقر والخوف من استمرار هذا الوضع، وهو ما يرونه في مقتبل الأيام. إذا لا بد من الرفض، ولو أضفنا كل ما حصل في عموم سورية، ومنذ 2011، فإن الاحتجاج هذا صرخة قوية في وجه النظام الذي يسبّب الإفقار والتهميش، وكل ما حصل في سورية.
ما قالته بثينة شعبان، هو لسان النظام، إنه الإنكار الكامل، لكل مطالب الشعب، ومهما كانت، اقتصادية سياسية اجتماعية طائفية، كلّه مرفوض؛ فنحن انتصرنا وهناك صعوبات، وسيتم التخلص منها لاحقاً. خطاب لم يعد يسمعه أحد؛ ربما فقط من لا يزال مرعوباً من النظام أو ممن أعمته طائفيته أو سذاجته. يعرف الموالون بالتأكيد وضع النظام، ولم يُسمح لهم بالاحتجاج مرّة، ورأوا ما حصل في بقية البلاد، ورأوا رداءة مشاريع الجهاديات والإسلام السياسي، وصراعات الدول الإقليمية على أرضهم بأقوى مراحلها؛ كلها عناصر لا تدفعهم نحو الانتفاض، ولكن الفقر يتسلّل إلى غرف نومهم، ويعض بطونهم. الآن، بدأت السويداء، فهل يتطوّر الأمر أم ينكفئ؟ كل الاحتمالات قابلة للتحقق، ولكن ما هو غير قابل للتراجع هو الوضع السيئ، إذاً هناك وضوح ذهني وواقع معاش، يقول: إن النظام غير قادر على تأمين احتياجاتنا، والوضع يزداد تدهوراً، وهو مسؤول عن أحوالنا. وبالتالي، لا خيار لنا خارج الاحتجاج. الاحتجاج بذلك يصبح الخيار الوحيد أمام المُفقرين.
يمكن تأويل شعار اليوم “بدنا نعيش” بأوجهٍ عديدة، وهو مثل شعار “بدنا حرية” في العام 2011، ولكن هذه المرة يَطرح الاقتصادي والاجتماعي بشكل واضح. ومن قبل كان يطرح السياسي مدخلا للاقتصادي والاجتماعي، على الرغم من أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي كان سيئاً كذلك، الآن يحصل العكس تماماً. الاحتجاجات هذه، تُدرج ضمن الاحتجاجات الشعبية التي سمّيت الموجة الثانية من الثورات، وكان لها دور كبير في كل ما حصل في السودان في العام 2011″والجزائر ولبنان والعراق، وبالتالي من الخطأ الكبير التقليل من شأن ما يحصل في هذه المدينة، واعتباره “رايحين على الحج والناس راجعة”، أو “الآن، تتظاهرون”، وهناك انتقادات أسوأ، ولها بعد طائفي باعتبار أن المدينة أغلبيتها من الطائفة الدرزية، ومنها أكاذيب بالجملة، وعدا أنها تتجاهل أن ثورة سورية 2011 أيضاً لم تكن طائفية، ولم تعم كل المدن والأحياء، ومنها سنيّة خالصة، أقصد أن احتجاجات السويداء أشعلت صراعاتٍ بين السوريين مجدّداً، وهذا فيه أوجه سلبية وأخرى إيجابية، وهناك تيار من الموالين والمعارضين يرفضها، وكلٍّ لأسبابٍ مختلفة.
أما لماذا بدأت الاحتجاجات في هذه المدينة، وليس في اللاذقية، أو حلب، أو دمشق؟ نقول إن الإفقار الكبير، وهو يعمّ سورية والخدمات “ندرة المازوت والكهرباء وسواهما” بأسوأ أوضاعها، والأرقام تتحدث عن نسبة 90% فقراء بل وجوعى، ولكن الرفض جاء من السويداء هذه المرّة. سبب ذلك خصوصية المدينة، حيث لم تعلن ثورةً كاملة في 2011، ولم يعلن النظام حرباً كاملة عليها كذلك، وضمن ذلك تفاقمت أوضاع المدينة؛ فليس هناك من فرص عمل، ودخلت عمالة جديدة للسوق “هذه تسع سنوات من 2011 وإلى 2020″، وانهارت العملة. وعدا ذلك كله، هناك قوة المجتمع المحلي إزاء السلطة، ورغبة النظام بعدم قطع شعرة معاوية. عوامل عديدة، تدفع المدينة إلى الانتفاض، وأغلب الظن أنّه سيتوسع، فماذا سيخسر الناس بعد أن أصبحوا جوعى، وكيف سيتم إسكات صفير أمعاء أطفالهم؟ ما يحصل هو بداية قوية، وستتعمّم في هذه المحافظة. والسؤال وهل ستنتقل إلى بقية المدن السورية؟ هذا سؤال السوريين حالياً، وليس لماذا تأخرت الثورة؛ قلت الوضع الاقتصادي والاجتماعي يزداد انهياراً، والخوف والدمار والتشرّد واللجوء والرعب من النظام قد يؤجل الأمر قليلاً، ولكن الانفجار الكبير قادم في بقية سورية، ويتطلب حادثةً ما، أو خطأ كبيراً، يقع فيه النظام مع الموالين والصامتين، والذين عادوا إلى حضن الوطن.
قضية مهمة حالياً، وهي المحافظة على الشكل السلمي للتظاهر؛ نعم يجب رفض كل شكل للتسلح، ولعمليات الاغتيال، أو الاندفاع بطريقة عشوائية. تجربة السوريين خاصة، وتجارب كل من السودان والجزائر ولبنان والعراق كلّها تؤكّد، بشكل حاسم، ضرورة رفض أي شكلٍ للتسلح؛ أولاً لدينا نظام لن يتورّع عن تدمير المدينة كما فعل. ثانياً هناك محيط إقليمي ودول عظمى رفضت كل شكل للتسليح النوعي، وراقبت كيف تتدمّر سورية مدينة مدينة وبلدة بلدة، وهناك انتصارات شعبية حقيقية في بلدان لم تستخدم السلاح، وبالتالي الأفضلية للسلميّةِ خيارا نهائيّا للاحتجاجات.
قضية أخرى، وتتعلق برفض كل شكل للاحتجاج الديني أو الطائفي، وأن تتقدم المطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعانيها الناس فعلاً؛ أقصد أن الديني يفسد كل معركة اجتماعية، وهو أداة تستخدمها الأنظمة لتطويع الشعوب وإفشال ثوراتها، ألم يُسنن النظام الثورة، وكذلك فعلت أقسام من المعارضة، وعدا ذلك، فالبعد الوطني يَغيَّب كليّة، ويحضر فقط البعدان، الديني والطائفي، وكيفية الوصول إلى النظام أو البقاء فيه؛ هذا ما فعله النظام، وأقسام من المعارضة السورية، واستعانوا لأجله بالخارج!
تنهار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية كلية، والبلد منزوع السيادة كذلك، حيث الاحتلالات تسيطر على كل سوري؛ أقصد هناك قضايا كبرى، توحّد السوريين، وهو ما يجب إيلاؤه أكبر الاهتمام، وطي صفحة المعارضين والموالين، فهل هذا ممكن؟
المصدر: العربي الجديد