من المهم في فهم مجريات الأحداث وتقدير المواقف تسمية الاسماء بمسمياتها، وإعطاءها الصفات النابعة من المسمى نفسه، والاستعانة بهذا المستوى من الوضوح في إعادة تقييم المواقف والأدوار للقوى والجهات المختلفة المشاركة في صناعة الحدث.
مضطرة اعترفت موسكو بوجود مرتزقة روس يحاربون الى جانب قوات النظام السوري وحلفائه، وقالت عنهم انهم مقاتلون روس متطوعون لا علاقة للجيش الروسي، ولا للسلطات الروسية بهم.
ولم يكن وجود هؤلاء سرًا، فقد تحدث عنه السوريون ” الشعب والمعارضة ” منذ وقت مبكر ، قبل سبتمبر العام 2015 ، لكن الآن فقط اضطرت موسكو للاعتراف رسميًا بوجود هؤلاء المقاتلين، وقد أطلقت عليهم ما شاءت من وصف، لكنهم في حقيقة الأمر، وبالتوصيف الدقيق “مرتزقة”، لا أكثر ولا أقل، تنطبق عليهم كل الأوصاف التي عرفناها في مرتزقة الولايات المتحدة من أمثال “بلاك ووتر “، التي فضحتها مذبحة ساحة النسور في بغداد يوم 16 سبتمبر عام 2007 وهي المذبحة التي قتل فيها 17 عراقيا وأصيب عشرون آخرون، وقد سمتهم واشنطن حينها بالمتعاقدين مع وزارة الدفاع، أو عرفناهم في أولئك المرتزقة الذين قاتلوا قبل ذلك في الكونغو أو في جزر القمر، أو قاتلوا إلى جانب إمام اليمن المخلوع عقب ثورة سبتمبر اليمنية .
إنهم مرتزقة يقاتلون من أجل المال، مستفيدين من خبرتهم القتالية التي اكتسبوها حينما كانوا عاملين في جيوش بلادهم، وملبيين حاجة انظمتهم الغاشمة إلى قتلة ينفذون الأعمال القذرة.
ورغم أن هؤلاء لا يعتبرون بحكم القوانين الوطنية في البلدان المختلفة جزءً من القوات النظامية، إلا أنهم لا يعملون إلا في ظل تلك القوات، وعلى وقع أهدافها ومعاركها. وحينما يشارك بعضهم خارج هذه المنظومة من العلاقات السرية فإن غطاء الحماية العملية المكفول له يرفع، وتبدأ عملية ملاحقة قانونية له، ويسمى حينها باسمه الحقيقي “مرتزق”، كما حدث لواحد من أشهر المرتزقة في النصف الثاني من القرن العشرين وهو “بوب دينار” حينما شارك وزمرة من رجاله في محاولة انقلاب في جزر القمر عام 1995 لم يخطط لها في باريس، فاعتقلته القوات الفرنسية، وتمت محاكمته، وفي المحاكمة دافع عن نفسه بكشف تاريخ العمليات المماثلة التي نفذها، بأوامر فرنسية، و دينار عسكري فرنسي اسمه الحقيقي جيليبر بورجيو”، قاتل هو ومرتزقته بتوجيه القيادة الفرنسية في جبال اليمن وفي الكونغو ولم يلاحقه أحد في حينها ، ولم يسم مرتزقا.
والمرتزق تاجر دماء وقاتل في حروب علنية وسرية، وتحتاجه الدول الغاشمة لأسباب عديدة، منها:
– أنه غير محكوم بقانون معين، وبالتالي فإن ممارساته وأفعاله مفتوحه لا يقيدها قيد.
كل الجيوش حتى الجيوش الغازية، وحتى جيوش الدول العنصرية، وسلطات الاحتلال، والكيانات الغاصبة” ومثالنا هنا الكيان الصهيوني” تحكمها قوانين وقواعد اشتباك وقتال، وتخضع ولو من الناحية النظرية إلى قواعد القانون الدولي التي تحرم ممارسات معينة خلال زمن الحرب، وتعاقب عليها.
لكن المرتزقة لا يخضعون لأي قواعد، ولا يلتزمون أي قيم، ولا توجههم أي معايير غير تلك التي تضمن لهم “قبض الثمن”.
هذه الحقيقة في استخدام المرتزقة تشي إلى توجه قد اعتمدته الجهة التي قررت استخدام المرتزقة وهو أنها تريد “مسلحين ينفذون أفعالا خارج القانون، أفعالا قذرة”.
– كذلك فإن استخدام المرتزقة يسمح بتحميل تكاليف هذا الاستخدام مباشرة إلى الجهة المستفيدة مباشرة، وفي حالتنا هي النظام السوري، بحيث لا تتحمل الدولة التي ينتمي إليها المرتزقة أي عبء مادي نتيجة وجودهم، لا أثناء قيامهم بمهامهم، ولا بعد ذلك ، أي لا رواتبهم الشهرية ، ولا مكافآتهم ، ولا العبء المترتب على مصرعهم أو إصاباتهم.
كذلك لا تتحمل العبء الاخلاقي الناجم عن الأعمال القذرة التي يقومون بها، من مثل المذابح، التعذيب، الاغتصاب، الخطف، القتل خارج القانون …. الخ.
– وأيضًا يسمح وجود هؤلاء المرتزقة للجهات التي تستخدمهم القيام بعمليات تتجاوز الاتفاقات المعقودة ، والتي تلجأ إليها الأطراف المعنية لمنع أشكال مختلفة أو خطرة من الاشتباكات.
وفي مثالنا السوري، فإن هناك اتفاقا روسيا أمريكيا عبر مركز التنسيق المشترك للعمليات في سوريا يحدد مواقع العمل للطرفين، ويحول دون اصطدام قواتهما على الأرض، أو في الجو.
ولهذا السبب بدا الأمريكيون مترددون في القول إن القوات الروسية هي التي عبرت شط الفرات باتجاه مواقع القوات الامريكية وحلفائها، وهو ما دفع الأخيرة لتوجيه ضربة السابع من فبراير العنيفة، وذهب وزير الدفاع الامريكي جيمس ماتيس في تفسير أولي لما حدث إلى القول بأن المسلحين الذين تحركوا وبالتالي تلقوا الضربة، لم يتحركوا بأوامر من مركز القيادة الروسي، وإنما من مسؤولين ميدانيين، أو آخرين، مشيرًا إلى أنه يحتاج إلى مزيد من المعلومات حول ” المتعاقدين الروس”.
– التقليل من مخاطر انتشار القوات النظامية ، وبالتالي التقليل من مخاطر وقوع خسائر بشرية بين هذه القوات، وهذا ما سمح للقيادة العسكرية الروسية القول: إن مجمل قتلى عملياتها العسكرية في سوريا من العسكريين الروس حتى نهاية 2017، لم يتجاوز الخمسين قتيلا، وبغض النظر عما إذا كان هذا الرقم صحيحا أم لا ، فإنه لا يتضمن القتلى من هؤلاء المرتزقة، الذين لا يدخلون في أي حساب رسمي، وقد أدى هذا الإعلان عن عدد القتلى إلى ضجة في الشارع الروسي من أهالي وأسر هؤلاء المرتزقة ، وكذلك في الصحافة الروسية ، من زاوية تجاهل السلطات الرسمية “لدور، وتضحيات هؤلاء المقاتلين” في مسار مصالح ” الدولة الروسية وسياسات قيادتها.
– وفي كثير من الاستخدامات يرتبط جزء من أجر هؤلاء المرتزقة بتحقيق الهدف نفسه، فإذا كان الهدف الاستيلاء على حقول النفط في شرق سوريا فإن تحقيق هذا الهدف ، يعني فيما يعني منبعًا للثروة الإضافية لهؤلاء المرتزقة، وهو دافع كاف لشدة اندفاعهم لتحقيق الهدف ، ولارتكابهم أفظع الجرائم لوصولهم إليه.
– الولايات المتحدة التي ورثت أوربا في نشاطها الاستعماري، عملت في الآونة الأخيرة على توفير نوع من الحماية لهؤلاء المرتزقة حينما وصفتهم بأنهم متعاقدون مدنيون يعملون في إطار ” شركات أمن خاصة”، وفرضت على الدول التي يعملون بها إعطاءهم حصانة قانونية تشبه الحصانة المعطاة لجنود القواعد الأمريكية المنتشرة في العالم، وليس واضحًا بعد ما إذا كانت روسيا قد خطت الخطوات نفسها فيما يتعلق بمرتزقتها.
وحتى لا تختلط المسميات والمفاهيم ، يجب الانتباه هنا أن هؤلاء المرتزقة والشركات التي يعملون من خلالها، لا صلة لهم أبدا بمفهوم ” شركات الأمن الخاصة”، التي قد نواجهها في العديد من البلدان، إذ أن الأخيرة تعمل ضمن القانون ، وتخضع للدولة، وتكون الدولة المسؤولة عن تصرفاتها وملاحقتها في حال شذت عن السبيل المحدد لها، وهذه في العموم شركات مساعدة لقوى الأمن الوطني تحمل بعضًا من الأعباء التي كانت اجهزة الأمن والشرطة تحملها، وقد ظهر هذا النوع من شركات الأمن وشاع حديثا مع تشعب الاحتياجات الامنية في المجتمعات الغربية، ومع التوجه إلى تخفيف العبء عن ميزانيات هذه الدول بتوسيع فكرة الخصخصة.
– وبسبب العلاقات الصميمية بين الشركات المشغلة للمرتزقة وأنظمة دولها، فإنه لا يقيم هذه الشركات إلا عسكريون سابقون ، ولا يعمل مع هذه الشركات إلا جنود سابقون، أي أن هذه الشركات تستفيد من واقع الأهلية التي توفرت لهؤلاء العسكريين في توفير سرعة جاهزيتهم للعمل ، وتكيفهم مع آلية اتباع الأوامر وتنفيذها. كما أنها منذ نشأتها، تقوم على وضع وجودها وإمكاناتها في ظل توجهات ومخططات الدولة الأمنية والعسكرية والاستخباراتية.
لقد اعترفت موسكو أخيرًا بوجود هؤلاء المرتزقة الروس في سوريا، بعد أن أطلقت عليهم اسم متطوعين او متعاقدين مدنيين أو …. الخ، والذي تابع مراحل هذا الاعتراف يدرك أن ما قامت به موسكو تم تحت ضغط الواقع المتولد عن العدد الكبير من هؤلاء القتلى الذين سقطوا بغارات التحالف الدولي في محافظة دير الزور في السابع/ الثامن من فبراير الجاري، حينما حاول هؤلاء تنفيذ هدف السيطرة على مواقع الثروات الوطنية ” موقع غاز كونوكو” التي يسيطر عليها المقاتلون الأكراد المعروفون باسم قوات سوريا الديموقراطية “قسد”، وهي قوات تنفذ الأهداف والخطط الامريكية وتحميها القوات الأمريكية.
قبل هذا التاريخ لم تكن موسكو تعترف بوجود مقاتلين روس، وحتى حينما تحدثت المعارضة السورية ومراقبون عن سقوط مئات من القتلى والمصابين الروس في هجمات السابع من فبراير، اعتبر ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين أن هذه الأخبار غير صحيحة لأنه لا وجود لمقاتلين روس في سوريا، وردد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الموقف نفسه، ثم حينما بدأت الخارجية الروسية على لسان المتحدثة باسمها ماريا زاخاروفا الاعتراف بوجود بعض القتلى ” ذكرت أن عددهم لا يتجاوز الخمسة” ،وأن التحقيق جار لتحديد هوياتهم ، كان امر وجود عدد كبير من هؤلاء المرتزقة قتلى قد شاع ، ولم يعد من الممكن تغطيته، وبات هذا التعاطي المضطرب من موسكو تجاه هذه الواقعة دليلا على مقدار الحرج الذي وجدت القيادة الروسية نفسها فيه، ومقدار الاضطراب في معالجتها لهذا المستور الذي كشف فجأة وبطريقة لا يمكن تغطيتها، خصوصا بعد أن تناولتها بالأرقام وبالتحقيقات الميدانية ومن خلال الأهالي وكالات الأنباء والصحافة الروسية.
(شركة فاغنر للمرتزقة الروس)
وإذا كان اسم ” بلاك ووتر” بات رمزًا للمرتزقة الأمريكيين خلال الاحتلال الأمريكي للعراق، فإن شركة فاغنر الروسية باتت نموذج عمل المرتزقة الروس في سوريا.
وهذه الشركة التي تضم أكثر من ثلاثة الاف مرتزق أسسها العميد السابق في الجيش الروسي ديمتري أوكتين، وأعطاها الاسم الراهن “فاغنر”، وعناصرها من أصحاب التجربة في قتال الشعوب وسبق ان اختبروا في الشيشان ومن ثم في شرق اوكرانيا.
ووسعت هذه الشركة مشاركتها في الحرب الجارية في سوريا بشكل متزامن مع توسع التدخل الروسي في سوريا بدءً من سبتمبر 2015 وتنفذ هذه الشركة وتعمل بالتنسيق المباشر مع القوات الروسية في سوريا ومع وزارة الدفاع في موسكو.
ومن المهم في إطار التعرف على هذه الشركة التي توظف وتدير عمل المرتزقة الروس في سوريا، التنبه إلى أنها تعتبر بمثابة الذراع لشركة “ايفرو بوليس”، التي يملكها يفغيني بريغوزين وهي شركة في مجال بيع الأغذية تقدم الدعم اللوجستي للقوات الروسية وتكاد تسيطر على عقود وزارة الدفاع في هذا الجانب، وقد تحولت هذه الشركة لاحقًا إلى مجال التعدين وانتاج الغاز والنفط، وافتتحت لها مؤخرًا مكتبا في دمشق.
وإذا تنبهنا إلى أن الضربة الامريكية التي وجهت لهؤلاء المرتزقة قرب دير الزور يوم 7 فبراير، هدفت إلى وقف تقدمهم باتجاه محطة الغاز الرئيسة في المنطقة يرتسم بشكل شديد الوضوح نطاق حركة هؤلاء المرتزقة وأهدافهم الميدانية.
العمل والتعامل مع المرتزقة ، قام به الكثير من قادة النظم الاستعمارية ونظم الطغاة، ولأن هذا أمر بشع ، ويتناقض مع مفهوم الدولة وفكرة القانون التي تقوم عليها الدول، فإن قادة ومسؤولي هذه الدول يرفضون الاعتراف بتعاملهم مع هذا التشكيل المرذول، ويتحرجون من الظهور الى جانب قادة ووجوه جماعات المرتزقة هذه ، ولعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما كان يظن أن الأمر سينكشف سريعًا حينما سمح بحضور قائد شركة فاغنر المرتزق ” ديمتري أوكتين”، حفل تكريم الضباط والعسكريين الروس في الكرملين في 28 / 12 /2017 في يوم الأبطال ، إعلانًا للنصر الذي أحرزته هذه القوات في سوريا.
وجاء حضور أوكتين بدعوة من بوتين ليكون بمثابة اعتماد لشرعية هذا التشكيل العصابي، وإعلان من زعيم الكرملين بأن القيادة الروسية شريك فيما يقوم به هؤلاء المرتزقة في سوريا.
وتتأكد هذه النتيجة أكثر إذا عرفنا أن يفغيني بريغوزين مالك شركة ايفرو بوليس التي تخدمها شركة فاغنر للمرتزقة على علاقة وثيقة جدا بالرئيس فلاديمير بوتين حتى أنه عرف في مختلف الأوساط باسم “طباخ الرئيس”، وهو أحد ثلاثة عشر شخصًا اتهمهم الادعاء الامريكي مؤخرًا بضلوعهم في فضيحة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جاءت بالرئيس دونالد ترامب، وجاء هذا الاتهام بعد التحقيقات الموسعة التي أجراها المحقق الامريكي روبرت ميلر.
مرتزقة النظام الروسي ، وقبلهم مرتزقة النظام الأمريكي، ومرتزقة نظم الاستعمار الأوربي هم أبلغ دلالة على طبيعة هذه النظم العدوانية، وعلى حقيقة تمدد ما يمكن أن ندعوه بعصابات المافيا داخل هذه النظم ، التي تملك أكبر قوة تأثير في النظام الدولي، وهي التي تشكل وترسم النظام الدولي، وبالتالي يمكن الاستنتاج أن عقلية عصابات المافيا والمرتزقة متغلغلة في هذه النظم وفي أهم مراكز القرار والتوجيه فيها، وأن الحديث عن مبادئ وقيم، ومفاهيم انسانية وتوجهات أخلاقية لسياسات هذه الدول حديث رصيده على بساط الحقيقة جد متواضع. ولعل هذا الجانب يقدم وجها من أوجه تفسير لماذا الحرب في سوريا ما تزال مستمرة، ولماذا تظهر هذه النظم وكأنها عاجزة عن انهاء هذه الحرب، وهي في الحقيقة ممتنعة عن إنهائها.