علي العبد الله
كشفت المواقف السياسية والميدانية والإعلامية الروسية والتركية؛ الحادّة والمستفزة، عن دخول العلاقة بينهما مرحلة تحديد الأحجام والأدوار، بعد بلوغ حالة التقاطع والتشارك السياسي والجيوسياسي نهايتها، ما جعل فرز الأوراق والمواقع حتميا، فالروس متمسّكون بتحقيق نصر سياسي بدفع الشريك التركي إلى القبول برؤيتهم السياسية للصراع السوري، عبر استثمار حالة العزلة والخصومة السياسية التي يعيشها النظام التركي مع حلفائه في التحالف الغربي، وانخراطه في صراع سياسي واقتصادي مع دولٍ في محيطه الإقليمي، فالعزلة والخصومة كشفتاه سياسيا وحاصرتاه دبلوماسيا وإعلاميا، وجعلتا النظام الروسي يعتقد أن الفرصة مواتيةٌ لاحتوائه أو استتباعه. وقد عبّر الوفد السياسي والعسكري والمخابراتي الروسي، في مفاوضاته مع الجانب التركي في أنقرة، عن ذلك، عندما أبلغه أن روسيا تعتزم استعادة جميع المناطق التي يوجد فيها المسلحون المدعومون من تركيا “بشكلٍ غير قانوني”، بما في ذلك مناطق عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، تنفيذا لقرار القيادة الروسية إعادة جميع الأراضي السورية إلى سيطرة الحكومة الشرعية في دمشق.
استغلت روسيا إعلانات مسار أستانة؛ حيث تكرّر الإعلان عن الاتفاق على سيادة سورية، وسلامة أراضيها ووحدتها، ذكّر الرئيس الإيراني، حسن روحاني، بذلك بقوله في مؤتمره الصحافي، 16 فبراير/ شباط الحالي، “أبلغَنا أردوغان خلال الاجتماعات أنه يحترم سورية بلدا موحدا، وأكد على أهمية سيادة الحكومة السورية على أراضيها، ونأمل منه العمل بذلك”، وإعلان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال التحضير لعملية نبع السلام موافقته على تسلّم النظام السوري الحدود المشتركة، وبنود اتفاق سوتشي بين الرئيسين، التركي، رجب طيب أردوغان والروسي، فلاديمير بوتين، في 17 سبتمبر/ أيلول 2018، والتي حدّدت منطقة منزوعة السلاح عرضها بين 15 و20 كيلومترا؛ خالية من السلاح الثقيل، وإبعاد الفصائل المتطرّفة عنها، والفصل بين الفصائل المعتدلة والمتطرّفة، ومحاربة الأخيرة، خصوصا “هيئة تحرير الشام” المصنفة من الأمم المتحدة منظمة إرهابية، وفتح الطرق الدولية إم 5 وإم 4، في تبرير مشاركتها في الهجوم على ريف محافظتي حلب وإدلب، وتحفظها على التعزيزات العسكرية التركية الضخمة التي أرسلت إلى الأراضي السورية، وعلى تقديمها أسلحة نوعية لفصائل المعارضة المسلحة، الإشارة هنا إلى صواريخ “تاو” المضادّة للدبابات و”ستنغر” المضادة للطائرات، استخدمت في إسقاط مروحيتين للنظام السوري، قال مركز حميميم “إن جنودا أتراكا هم من أسقطوا المروحيتين”.
لقد دخلت تركيا المصيدة بقدميها عندما استسلمت للإغواء الروسي الذي زيّن لها التحالف معها بديلا للتحالف مع الولايات المتحدة التي أدارت ظهرها للدعوات التركية المتكرّرة لإقامة منطقة آمنة على الحدود السورية التركية المشتركة، لاستيعاب موجات اللاجئين السوريين الكبيرة؛ والتي فضّلت العمل ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) مع وحدات حماية الشعب، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) الذي تعتبره تركيا امتدادا لحزب العمال الكردستاني (التركي) المصنف إرهابيا، ودعمتها بالأسلحة والتدريب والتمويل، وفتحت أمامها طريق تشكيل كيان سياسي، شبه دولة، الإدارة الذاتية، على طول الحدود السورية التركية المشتركة، وعزّزت الإغواء بمنحها ضوءا أخضر للقيام بعمليتي درع الفرات، يوم 24 أغسطس/ آب 2016، وغصن الزيتون يوم 20 يناير/ كانون الثاني 2018، سيطرت في الأولى على مثلث جرابلس أعزاز الباب، وفي الثانية على منطقة عفرين، فصلت بالأولى بين كانتوني عين العرب/ كوباني وعفرين. وقضت في الثانية على كانتون عفرين. وهذا جعلها تستمرئ السم الروسي في دسم الإغواء؛ لما للقضية الكردية من ثقل وحضور في التفكير الأمني التركي، وشجّعها على خوض معركة ضد كانتون الجزيرة، وشن عملية نبع السلام، والسيطرة على منطقتي رأس العين وتل أبيض بطول 110 كيلومترات وعمق 30 كيلومترا، والتوقيع على اتفاق سوتشي 2 مع روسيا يوم 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، تعهدت موسكو بموجبه بسحب وحدات حماية الشعب الكردية من كامل الشريط الحدودي السوري – التركي، الواقع شرق الفرات بطول 440 كلم وبعمق 32 كلم.
اختارت روسيا لحظةً دقيقة لنقض اتفاق سوتشي، علما أن تركيا نفّذت أجزاء منه، بإخراج هيئة تحرير الشام، والسلاح الثقيل من المنطقة منزوعة السلاح، وتعليق تنفيذ بقية الخطوات على خلفية عدم تنفيذ النظام السوري الجزء الخاص به، وسحب قواته بعيدا عن المنطقة منزوعة السلاح، ليُصار لفتح الطرق الدولية، وقضم مساحات شاسعة من منطقة خفض التصعيد الرابعة والأخيرة، خطوة على طريق إخراج تركيا من منطقة غرب الفرات، لحظة تورّط النظام التركي في أكثر من صراع وملف ساخن، من الاشتباك مع قبرص على خلفية التنقيب على الغاز في المياه الاقتصادية للجزيرة، تنقب في ما تعتبره المياه الاقتصادية لدولة قبرص التركية التي لا يعترف بها سوى تركيا من بين كل الدول، إلى الاشتباك مع اليونان على خلفية الخلاف على حدود المياه الاقتصادية، وعدم اعتراف تركيا بمياه اقتصادية لجزر بحر إيجة التابعة لليونان، الاشتباك مع دول منتدى شرق المتوسط الذي يضم مصر وقبرص واليونان وإسرائيل على حدود المياه الاقتصادية، وعلى مد خط أنابيب لنقل الغاز من شرق المتوسط إلى دول جنوب أوروبا، الانخراط في نزاع سياسي مع دول أوروبية، على خلفية تدخل تركيا في ليبيا، عبر عقد مذكرتي تفاهم مع الحكومة الليبية، المعترف بها دوليا واحدة لتخطيط حدود المياه الاقتصادية بين الدولتين، وأخرى لتقديم دعم عسكري للحكومة الليبية، لصد هجوم قوات الضابط المتقاعد، خليفة حفتر، على طرابلس، العاصمة السياسية والمالية للبلاد، الانخراط في معارك سياسية وإعلامية مع محور مصر والسعودية والإمارات والبحرين، على خلفية تبنّي تركيا جماعة الإخوان المسلمين، وتقديم دعم سياسي وإعلامي لها، وتأييد موقف قطر في مواجهة الحصار الذي فرضته هذه الدول عليها؛ ودعم هذا الرباعي قوات سوريا الديمقراطية (قسد) سياسيا وماليا، الانخراط في الصراع الصومالي، عبر دعم النظام القائم في مواجهة حركة الشباب الإسلامية المتطرّفة، دعما عسكريا واستثماريا وإقامة قاعدة عسكرية دائمة، نزاع سياسي مع الولايات المتحدة حول دعم الأخيرة “قسد”، والشكوك حول موقفها من محاولة الانقلاب الفاشلة، وعدم تقيد تركيا بالعقوبات الأميركية على إيران. وهذا مع تطوير علاقاتها مع روسيا عبر عقود استثمارية وتجارية، خط أنابيب “السيل التركي” لنقل الغاز الروسي إلى دول أوروبا، والاتفاق معها على بناء مفاعل نووي لتوليد الكهرباء وشراء أنظمة صواريخ إس 400، وانحياز الإدارة الأميركية لليونان ودول منتدى المتوسط للغاز، ما عمّق التناقضات بينهما وطبع العلاقة بالسلبية محققا رغبة روسية دقّ إسفين بينها وكل من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) على أمل حصول قطيعة دائمة.
مع أن معركة السيطرة على إدلب في بداياتها، إلا أن النتيجة المنطقية ليست في صالح تركيا، ذلك لأن امتلاكها “فائض قوة”، وفق الكاتب التركي، توران قشلاقجي، دفعها إلى الانخراط في أكثر من صراع وملف ساخن، وأدخلها في اشتباكات مع دول كثيرة، وذات إمكانات ما جعلها عرضة لأخطار كبيرة، وبحاجة لسند دولي قوي، فلجأت إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، لكنها لم تحصل سوى على تأييد دبلوماسي فضفاض، فبيانات الدعم الأميركية لتركيا في ما يتعلق بإدلب “لا ترسخ الثقة”، وفق تعبير الرئيس التركي، واشتباكها مع دول في أوروبا والولايات المتحدة، على خلفية خلافها مع اليونان حول غاز شرق المتوسط ومذكرتي التفاهم مع الحكومة الليبية، وضعها في جهة واحدة مع روسيا، وبحاجة إلى دعمها في هذين الملفين، ومنح الأخيرة فرصة الربط بين هذين الملفين، وملف إدلب، في حين هي بحاجة لدعم لاحتواء هجوم النظام السوري المدعوم روسيا في محافظة إدلب، خصوصا بعد أن جعلها الرئيس التركي بقوله “أي كفاح لا نقوم به اليوم داخل سورية سنضطر للقيام به لاحقا في تركيا”؛ جزءا من الأمن القومي التركي، ما سيضطرّه للقبول بالتصوّر الروسي النهائي، وبصيغة مرحلية معدلة من اتفاق سوتشي تلحظ التغيرات الميدانية الأخيرة.
لقد غدا حال الرئيس التركي، أردوغان، كحال الصياد العجوز في رائعة الروائي الأميركي، أرنست همنغواي، “العجوز والبحر”، والذي سأل نفسه بعد ثلاثة أيام من الصراع مع سمكة أبو سيف كبيرة اصطادها وربطها لكبرها إلى جانب الزورق، فأكلتها أسماك القرش، ولم تترك له منها إلا الهيكل العظمي، من الذي هزمك؟ لا أحد أنا الذي ذهب بعيدا.
المصدر: العربي الجديد