عمر قدور
في وسعنا استنتاج نجاح الجهود الدبلوماسية خلال الأيام الماضية في منع حدوث مواجهة تركية-روسية، فالطرفان أظهرا كل الحرص على نفي الاشتباك بينهما، وإظهار ما يحدث في إدلب كحرب بين القوات التركية وميليشيات الأسد المدعومة بالميليشيات الشيعية. أيضاً، يعكس التقدم الميداني التركي غياب ما يمكن تسميته حرباً بالوكالة، مع غياب التغطية الروسية الجوية لدفاعات الأسد، ولو كان الغياب مؤقتاً ومرسوماً بحدود ينبغي على أنقرة عدم تجاوزها.
التفوق التركي على الخردة المسماة “الجيش العربي السوري” غير مفاجئ، والتقدم البري للفصائل المدعومة تركياً يعيد التأكيد على أن تحييد سلاح الجو يؤذن بانهيار تلك الخردة، وهذا ما كان وسيبقى ممنوعاً إلا ضمن ما ترسمه التفاهمات الدولية من مناطق نفوذ. ذلك لا يعني غياب القيادة الروسية للعمليات من الخلف، خاصة بهدف استيعاب الصدمة التي أحدثها التقدم التركي، لكنه يثبت أن التقدم السابق لميليشيات الأسد كان صناعة روسية بالكامل. ما تقوله وقائع الأيام الأولى أن أنقرة لم تستخدم سوى البعض من إمكانياتها التقنية لتلحق الهزيمة والأذى الشديدين بتلك الميليشيات ولو لم تكن الأرقام التي أوردتها وزارة الدفاع التركية دقيقة، فالصور التي بثتها تؤكد زيف الأرقام المعلنة من الطرف المقابل، وتلك المعلنة عبر وسائل إعلام عربية ودولية نقلاً عن “مرصد” تفترض تسميته أنه معني بحقوق الإنسان!
لم تتوقف المفاوضات التركية-الروسية في أثناء العملية العسكرية التركية، بل أفضت إلى اتصال بين أردوغان وبوتين وإلى الاتفاق على عقد قمة بينهما، وما رواه الأول عن المكالمة يؤكد على رغبته بحصر المعركة مع قوات الأسد. ثمة تراجع روسي لم يفضِ فقط إلى التواصل الهاتفي بين الرئيسين، بل أنعش فكرة عقد لقاء بينهما بعدما كان الكرملين رافضاً الفكرة، ومراهناً على أن رد الفعل على استهداف الرتل التركي في إدلب سيقتصر على ضربات انتقامية. ولا يخلو من مغزى إعلان وزير الدفاع التركي عن عملية “درع الربيع” بعد ذلك الاتصال والمفاوضات التي لم تنقطع، فالإعلان تأكيد إضافي على أن أنقرة لا تنتقم لجنودها فحسب، وإنما تتصرف وفق الخطة التي أعلنتها وزجت من أجلها في إدلب آلاف الجنود وكميات ضخمة من العتاد، فضلاً عن الإمدادات التي تقدّمها للفصائل المدعومة منها.
لم تحدث، ومن المرجح ألا تحدث، المواجهة الكبرى بين القيصر والسلطان. كثر يتمنونها، والغالبية منهم تنتظر ضربة قاصمة لتركيا. لدينا في المنطقة دول خليجية وغير خليجية يحركها منطق النكاية، وهي مستعدة للتطبيع مع بشار الأسد وفقه. إيران أيضاً تنتظر الفرصة لإبعاد أنقرة عن الميدان السوري، حيث تكون ميليشياتها هي البديل المسيطر على الأرض رغم كل ما يُشاع عن تحجيمها من قبل موسكو. بشار الأسد نفسه يرى في تحقيق النصر أملاً بالتخلص من الثقل الروسي الضاغط بحكم الحاجة العسكرية له، وإشارةً على ازدياد فرص بقائه وقدرته على اللعب بين جميع القوى التي أبقت عليه بما فيها التواطؤ الغربي.
تشجّعُ شخصيتا بوتين وأردوغان على الظن أن المواجهة حتمية بينهما، لكنهما لم يظهرا حتى الآن التهور المنتظر منهما معاً أو من واحد منهما. التعقل الذي أبداه الرجلان، بعد التصعيد اللفظي بين مسؤولي البلدين، يوحي بعدم امتلاك أحد منهما يقيناً إزاء مواجهة كبرى. المواقف الغربية لم تأتِ مشجعة لأحد الطرفين، مع تأكيدها على التهدئة وعدم قبول تحول دراماتيكي في الموقف. ربما يجوز لنا تشبيه الموقف الغربي بالتردد بين خصم محبوب وحليف مكروه، وضمن حسابات الربح والخسارة لا يريد الغرب لأحد منهما الانتصار، وفي الوقت نفسه لا يبدو الغرب مستعداً لحسم في الملف السوري، ولا يرى موسكو تحديداً ناضجة من أجل الحل.
سيناريو انحياز الغرب إلى أحد الطرفين قد يدحضه سيناريو آخر لا يتسم بالمبدئية، ويتعامل مع الحدث لحظة بلحظة بحيث يحافظ على التوازن الذي يريده، ما يحمل في النهاية خسارة مؤكدة للطرفين المتحاربين، مع التشديد على النصيب الروسي الأكبر منها بسبب إعادة موسكو تسويق نفسها كقطب عالمي، وبسبب التركيز على أن تدخلها في سوريا مكسب صافٍ لقاء صفر من الخسائر. في حساب الأرباح والخسائر، ربما أخطأ بوتين في قراءة المزاج العام التركي ظناً منه أن إيقاع عشرات القتلى من الجنود الأتراك سيُضعف أردوغان داخلياً فأتت النتيجة بموجة عداء تركي تجاه روسيا، وتوقفُ الموقف الغربي عند الدعم اللفظي الأمريكي لأنقرة ليس مطمئناً له ما دام كافياً عند مستوى معين من الاشتباك.
ثمة مخرج بقي محفوظاً، ينتصر فيه أردوغان ولا يُهزم بوتين. بموجبه تستعيد أنقرة السيطرة على مساحة من المناطق التي تم قضمها في الأسابيع الأخيرة، ويُعلن وقف جديد لإطلاق النار وفق خطوط تماس الجديدة. هكذا سيأتي انتصار أنقرة ليمحو الهزيمة الأكبر التي منيت بها، وتكون موسكو قد احتفظت بقسم لا بأس به مما قضمته. الطرفان لم يعلنا رسمياً انتهاء تفاهمات أستانة وسوتشي، وفي عدم الإعلان إبقاء على خط الرجعة بينهما، وفيه خلاص للغرب الذي لا يريد تحمل مسؤولية في قضية اللاجئين أو فرض حل نهائي.
قد يراهن بوتين على تفاهم يمتص الغضب التركي الحالي، ليستعيد لاحقاً سياسته في قضم مناطق النفوذ التركي، لكن الأرض غير مهيأة لمثل هذا الافتراض كما كانت من قبل. عامل الثقة القديم لم يعد متوفراً، ويصعب تصور إقدام أنقرة على سحب جيشها من دون تسوية نهائية أو هزيمة قاصمة. ستحدث مواجهات شرسة جداً قبل القمة المنتظرة يومي الخامس والسادس من هذا الشهر، يسعى فيها كل طرف إلى تمتين موقعه التفاوضي، أو لأجل رسم خط إطلاق النار بالمعارك. كانت موسكو قد عرضت على أنقرة شريطاً بعمق 15 كيلومتراً، بينما طالبت الثانية بعمق يتراوح بين 30 و35 كيلومتراً. هناك مساحات وسط يمكن الاتفاق عليها بين الجانبين، وهذا أسهل ما في الأمر، الأصعب هو تقديم الضمانات الكافية لوقف إطلاق نار مستدام. فرص نجاح قمة بوتين-أردوغان ضئيلة، وإذا انفضت فقط على تهدئة وكلام مكرر من تفاهمات سوتشي لن ننتظر طويلاً حتى تتجدد المعركة.
المصدر: المدن