تتجنب تركيا منذ سنوات الدخول في مواجهة مع التنظيمات المتشددة لا سيما هيئة تحرير الشام في محافظة إدلب شمالي سوريا، لكن معارضة هذه الجماعات للاتفاق الأخير مع روسيا على وقف إطلاق النار في المحافظة وفتح الطريق الدولي وسقوط قتلى وجرحى من الجيش التركي لأول مرة بهجوم لهذه الجماعات يبدو أن المواجهة التي يعتبرها الكثيرون «حتمية» قد اقتربت كثيراً وباتت على الأبواب.
والخميس، أعلنت وزارة الدفاع التركية مقتل جنديين وإصابة ثالث، بنيران جماعات وصفتها بـ»راديكالية» بمنطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب السورية، موضحةً أن «بعض الجماعات الراديكالية شنت هجوماً بالصواريخ على القوات التركية المكلفة بمهام في منطقة خفض التصعيد في إدلب»، ولفت البيان إلى أن القوات التركية في المنطقة ردت بالمثل على الهجوم، وأنها ضربت على الفور أهدافاً محددة في المنطقة.
وفي وقت سابق، أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى «انفجار عبوتين ناسفتين في رتل عسكري للقوات التركية أثناء مروره على الطريق الدولي إم -4» في ريف إدلب الغربي، ليعتبر بذلك أول هجوم على القوات التركية منذ دخول وقف اتفاق النار الذي توصلت إليه أنقرة وموسكو حيز التنفيذ في السادس من الشهر الجاري، وأول سقوط لقتلى من الجيش التركي في هجمات لجماعات توصف بـ»راديكالية» تعارض الاتفاق التركي الروسي.
ومنذ سنوات، تتخذ روسيا والنظام من وجود ما تقول إنها تنظيمات إرهابية وعلى رأسها «هيئة تحرير الشام» مبرراً لاستمرار وتبرير الهجمات على إدلب، بدعوى مكافحة الإرهاب، وهو ما يضعف موقف تركيا أمام روسيا والمجتمع الدولي، وذلك على الرغم من تيقن أنقرة بأن هدف النظام لا يتعلق بالتنظيمات الإرهابية وإنما بإنهاء المعارضة السورية بكافة أشكالها الشعبية والعسكرية المعتدلة والمتشددة، وبسط سيطرته على كامل الأراضي السورية. وتصنف الكثير من دول العالم هيئة تحرير الشام التي كانت تحمل سابقاً اسم جبهة النصرة التي ولدت من رحم تنظيم القاعدة على أنها منظمة إرهابية، كما صنفتها تركيا كذلك، لكنها لم تدخل في مواجهة عسكرية مباشرة معها على غرار ما فعلت مع تنظيمي داعش و»ب ي د» الكردي شمال سوريا.
وفي إطار اتفاق سوتشي الموقع مع روسيا عام 2018، تعهدت تركيا بسحب التنظيمات المسلحة من منطقة عازلة بعمق 15 إلى 25 كيلومتراً، كما تعهدت بفصل ما أطلق عليهم العناصر المعتدلين عن العناصر المتشددين المنتمين إلى «التنظيمات الإرهابية». لكن تركيا اتهمت النظام بعدم الالتزام بتعهداته بالانسحاب هو أيضاً من حدود المنطقة منزوعة السلاح أو وقف الهجمات العشوائية أو تحقيق أي تقدم في المسار السياسي لتمكينها من الضغط على هيئة تحرير الشام لحل نفسها أو محاربتها عبر عمليات عسكرية سواء محددة أو واسعة ضدها.
ورغم اضطرارها لتقديم تعهدات باتخاذ إجراءات ضد هيئة تحرير الشام في إدلب لوقف هجمات النظام على المحافظة، إلا أن أنقرة لم تجد أي صيغة للإيفاء بهذه التعهدات في ظل عدم رغبتها في الدخول في صدام عسكري مباشر مع التنظيم، وخشية أن تكون العملية بمثابة خدمة مجانية للنظام السوري الذي رفض تقديم أي تنازلات سياسية أو حتى وقف الهجمات الجوية لكي يتمكن الجيش التركي من التحرك ضد الهيئة وكي لا يظهر أن الجيش التركي يعمل بالتوازي مع النظام وروسيا ضد فصيل سوري، وغيرها من الأسباب والتعقيدات.
وعقب المواجهة العسكرية الأكبر في إدلب، والتي استمرت طوال الأسابيع الماضية، اضطرت تركيا لإعادة التعهد بتنفيذ بنود اتفاق سوتشي وأبرزها ما يتعلق بفتح الطريق الدولي إم 4 والقضاء على المجموعات المتشددة، وهو ما عزز من احتمالات المواجهة مع هيئة تحرير الشام.
ففي الخامس عشر من الشهر الجاري، وبموجب اتفاق موسكو الأخير، حاول الجيشان التركي والروسي تسيير أول دورية عسكرية مشتركة على الطريق الدولي في إدلب، وهي المهمة التي لم تتكلل بالنجاح بسبب الاحتجاجات والمعوقات التي وضعت على الطريق واتهمت مصادر تركية وروسية مجموعات متشددة بالقيام بها وبعضها من خلال استغلال بعض المدنيين.
وعلى الرغم من أن هيئة تحرير الشام أعلنت معارضتها للاتفاق التركي الروسي، إلا أن بيان وزارة الدفاع التركية لم يتهمها بشكل مباشر بأنها هي من نفذت الهجوم الأخير على قواتها، كما أن الهيئة لم تؤكد الاتهامات الموجهة لها من جهات أخرى، بالمسؤولية عن الهجوم. وبغض النظر عما إذا الهيئة هي من نفذت الهجوم بشكل مباشر، أو عناصر «غير منضبطين» فيها نفذوه بشكل فردي، فإن الأيام المقبلة يتوقع أن تشهد تصعيداً تدريجياً مع الاستحقاقات المفروضة على تركيا بضرورة تسيير الدوريات المشتركة وإيجاد حل لملف الهيئة على المدى البعيد.
وعلى مدى السنوات الماضية، سعت تركيا للحل السلمي لملف الهيئة وذلك من خلال تشكيل الجيش الوطني المعارض واستقطاب العناصر «غير المتشددة» من التنظيم لإضعافه تدريجياً، لكن ومع الهجوم الجديد على القوات التركية ووصول الضغط الروسي إلى ذروته، وعدم رغبة تركيا في تفجر الأوضاع مجدداً في إدلب وعودة هجوم النظام وروسيا بحجة محاربة الإرهاب، فإن الخيار العسكري لتركيا يبدو أقرب من أي وقت مضى، لا سيما أن الجيش التركي يتمتع بقدرات واسعة في إدلب عدم إدخاله آلاف الآليات والجنود مؤخراً إلى داخل المحافظة وتعزيز حضوره العسكري المباشر هناك.
ولكن على الرغم من ذلك أيضاً فإن الخيار العسكري سيكون مكلفاً وسيتسبب بخسائر في صفوف القوات التركية وهو آخر ما يمكن أن يقبل به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عقب الضغوط الكبيرة التي تعرض لها نتيجة سقوط قرابة 60 جندياً تركياً في المواجهة الأخيرة بإدلب، الأمر الذي يبقي الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام كافة الاحتمالات.
إسماعيل جمال
المصدر: «القدس العربي»