محمود الوهب
استضاف برنامج “المشهد” الحواري الذي تبثه قناة “بي. بي. سي. عربي”، وتقدمه الصحافية جيزيل خوري، ذات الحضور اللافت بهدوئها وحسن إدارتها للحوار، رياض الترك، المناضل المزمن من أجل الحرية والديمقراطية، والوجه البارز بين وجوه المعارضة السورية، وقد قاربت مدة سجنه الفترة التي مكثها الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا في سجنه.. وظل يقيم في دمشق حتى أواخر عام 2018. وقد قوبلت المقابلة باهتمام إعلامي محدود في الأوساط السورية خصوصا، وقد يقول بعضهم، وربما كان على حق، إن الرجل على عتبة التسعين، ومعظم حديثه معاد ومكرَّر.. ولكن المشكلة، في جوهرها، ليست كذلك، فأول ما يتبادر إلى الذهن من أسباب هو الحال التي وصلت إليها قيادة المعارضة السورية من بؤس وإفلاس، إذ لم يبق بيدها شيءٌ مما كانت تمسك به.. وأن الثورة، كما أشار إلى ذلك رياض الترك نفسه في المقابلة التلفزيونية، قد فشلت في تحقيق هدفها الرئيس، وهو إسقاط النظام الممعن في استبداده. ما ترك جمهور المعارضة في حال من اليأس والإحباط، لا لأن الأسد لم يسقط، بل لأن سقوطه قد يأتي بتوافقاتٍ دوليةٍ استحوذت على القرار السوري، واستثمرت ذلك الزخم الثوري الذي برز في سورية خلال النصف الأول من العام 2011، ولعلَّ مسؤولية ذلك تعود على النظام والمعارضة سواء بسواء.
وبحسب ما يشاع أو يسرَّب، وبما يفرضه الواقع الذي وضع المتدخلين، وخصوصا الروس منهم، في استعصاء حلول لم تُفْضِ إلى ما يناسب الشعب السوري، ولم ترض المجتمع الدولي، وعلى ذلك، قد تكون هناك مساومات، ربما في المستقبل القريب، أي بعد الخلاص من كورونا، بشأن تأمين خروج آمن لبشار الأسد بأمواله التي اكتنزها من الشعب السوري، وتهرّباً من قانون سيزر (الأميركي) وتقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية… وهذا ما يمكن في ظل وضع المعارضة الحالي أن يفوّت على الشعب السوري إمكانية تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية، فالمسألة، بحسب الشعب السوري، لا تتعلق بأحقاد وانتقام، بل بقضية شعب ووطن، فمئات الألوف من السوريين زُهقت أرواحهم بالسلاح الكيميائي وبالبراميل المتفجرة، وجلهم من المدنيين الأبرياء، رجالاً ونساء وأطفالاً.
من هنا حساسية سؤال جيزيل خوري ضيفها رياض الترك: أين أخطأت المعارضة، وحزب الشعب خلال مسيرة الثورة السورية؟ رحَّل “ابن العم” جوابه بلغة دبلوماسية إلى جهة أخرى في المعارضة، إذ قال: “الآن، بعد تسع سنوات، أستطيع أن أضع ملاحظة على جماعة الإخوان المسلمين هي: أنهم لم يلتزموا تماماً بتوجهات الثورة الديمقراطية الشعبية بمقدار ما كانوا يميلون إلى ترجيح كفّة توجههم الإسلامي، أي أن تفاؤلنا أو حرصنا على دور للإخوان المسلمين لم يتحقق، وأنهم لم ينخرطوا كقوة إلى جانب فصائل الثورة السبعة، بل كقوة تحرِّكها قوى خارجية”. وجواباً عن استفسار ثانٍ بشأن خطأ الإسلاميين، أشار إلى نقطتين: اللجوء إلى العنف، وتسليط الضوء على جماعتهم.
وبغض النظر عن هذا النقد الذي جاءت على ذكره قوى عريضة من الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة السورية وغيره، فإن رياض الترك، الشيوعي القديم والمشهود له بنضاله وتاريخه، لم يشر إلى أيِّ خطأ لحزب الشعب الذي يتمتع بتجربة سياسية غنية عمرها نحو مائة عام إلا قليلا، والترك هو الذي وقف، يوما، ضد دكتاتورية قيادة حزبه الشيوعي أوائل سبعينيات القرن الماضي، ورفض التعاون مع حافظ الأسد، (ذكر ذلك في المحاورة التلفزيونية رداً على سؤال ما كان قد التقى بحافظ الأسد)، إذ قال إنه التقى الأسد الذي دعاه إلى التعاون معه، وإبعاد خالد بكداش، ذلك أنَّ الترك وجماعته قوميون عرب أقرب إلى نهج حافظ الأسد، لكن الحزب (الشيوعي/المكتب السياسي) آنذاك رفض ذلك. ومن هنا يمكن الإشارة إلى ما كتبه ماهر مسعود في صحيفة القدس العربي (12 سبتمبر/أيلول 2018) بُعيد الحوار الذي أجراه محمد علي الأتاسي مع رياض الترك في فرنسا عن معارضة اليسار السوري عموماً “الملتبسة” ضد نظام الأسد.
والحقيقة أن رياض الترك لم يكن رافضاً التعاون مع حزب البعث عموماً، وما نقله عن حافظ الأسد صحيح، فالخلاف الذي جرى في الحزب الشيوعي السوري لعبت فيه فكرة القومية دوراً كبيراً، وقد تركز الخلاف حول مفهومين عن الأمة العربية، أحدهما: “أمة عربية موجودة بكامل مقومات الأمة” (رياض الترك)، وثانيهما: “أمة عربية في طور استكمال مقوماتها” (خالد بكداش). وقد حسم هذه المسألة آنذاك “الرفاق الكبار” (العلماء السوفييت، والبلغار) لصالح التعريف الثاني. ويشار في هذا الصدد إلى أن رياض الترك لم يكن ضد التحالف مع “البعث”، فقد كتب مقالة نشرت باسمه في العدد 157 من “نضال الشعب” (صحيفة الحزب الشيوعي السوري) أوائل مايو/ أيار 1972، أي بُعيد توقيع ميثاق الجبهة بشهرين، بعنوان “الجبهة الوطنية التقدمية إنجاز جديد في حياة سورية العربية”. والحقيقة أن طرفي الحزب آنذاك ذهبا في اتجاهين متضادين، تحالف أحدهما مع الأسد عبر الجبهة الوطنية التقدمية بطلب من السوفييت ومباركتهم، والثاني مع مجموعة صلاح جديد التي أصبح أقطابها في السجن، على الرغم من التفاف تنظيم البعث المدني حولها..! وربما كان موقف رياض الترك أكثر انسجاماً مع موقف الحزب الشيوعي الذي كان قبل انقلاب حافظ الأسد. وفي الوقت نفسه، كان حزب الاتحاد الاشتراكي قد انقسم أيضاً بخروج جمال الأتاسي من الجبهة، محتجّاً على المادة الثامنة من الدستور، ليتشكّل بعد عدة سنوات “التجمع الوطني الديمقراطي”، وليدخل أقطابه جميعاً إلى السجن، وبذلك يكون حافظ الأسد قد دمَّرَ الحياة السياسية في سورية، ما قاد فيما بعد إلى تدمير سورية.
ومما يؤسف له أن المعارضة السورية التي عانت ما عانته من عسف سجون نظام حافظ الأسد ونجله لم تستطع أن تعيد تكوين نفسها، ولا أن تخْلِصَ للشعارات الليبرالية التي رفعتها، الحرية والديمقراطية والدولة المدنية وتداول السلطة.. والحقيقة أن تلك الشعارات كانت غريبة في جوهرها عن أيديولوجيا كل حزب من أحزاب المعارضة، وعن ممارساته…!
المصدر: العربي الجديد