بسام شلبي
ترجم كتاب موسى والتوحيد إلى اللغة العربية الكاتب جورج طرابيشي وهو عبارة عن ثلاث مقالات مطولة تم تعديلها وتطويرها لتصدر في كتاب كان ومازال مثيرًا للجدل وكان صادمًا للكثيرين في الشرق والغرب. ولكنه بجوهره تطبيق عملي لنظرية فرويد في التحليل النفسي على ما يسميه الأساطير الدينية التاريخية ويبدأه ببحث يشكك فيه في نسب موسى إلى بني اسرائيل ويرجح أنه كان مصريًا. وإن دعوته إلى توحيد الإله كانت إحياء لديانة أخناتون مع تطوير واستكمال لديانة كانت قيد التشكل وتجاوز فكرة الإله المجسد بصورة آلهة الشمس عند أخناتون إلى الإله المتصور المجرد عن التجسيد والذي يعتبره فرويد من وجهة نظره شطحة في ذروة التماهي مع الأب في عقدة أوديب التي ذكرناها سابقًا.
فهذا الإله الكبير.. القوي.. الجبار.. المنتقم.. وفي نفس الوقت هو اللطيف.. الرحيم.. الودود.
فهو التحوير الكامن لصورة الأب المحمولة في اللاوعي الطفولي في مرحلة التكوين..
إن هذا الإله الصارم الذي يفرض على المؤمنين الختان هو من وجهة نظر فرويد التذكير الرمزي لقدرته على الإخصاء. ذلك الهاجس المخيف الذي يشكل ذروة السنام في عقدة أوديب المؤسسة للشخصية في التحليل النفسي.
ويعتبر أن اعتماد القباب والمئذنة كرمز للمعابد في اليهودية والكنائس في المسيحية -ولم يذكر المساجد في الإسلام ربما لعدم إلمامه- بأنها تجسيد رمزي غير واعي للقضيب. وتجلي كاشف لعقدة أوديب في تشكيل الأديان.. وبالأخص اليهودية.
إن إضفاء صفات القداسة على هذا الإله “الأب” وإعطاءه سلطة العقاب وتحديد المحرمات.. وصفات التعالي كونه في السماء عكس آلهة الشعوب القديمة التي غالبًا ما كانت مجسدة على الأرض.. فيعتبرها مرحلة متقدمة في تطور الأنا الأعلى الذي ذكرنا أنه يعتبره مؤثرًا أساسيًا في تحديد السلوك.
وإن فكرة نزول نص مكتوب من عند هذا الإله المتعال هي أول تجربة إنسانية لتوثيق محددات الأنا الأعلى مع إعطائها نفحة القداسة كونها قادمة من خارج النفس البشرية.
إن اعتلاء رجال الدين للمنابر في مستوى فوق البشر وتلحفهم بأزياء خاصة غير المستخدمة في الحياة الاجتماعية هي حالة لتكريس كونهم جزء من هذا الأنا الأعلى المنفصل.
في الجزء الثاني يشكك فرويد في وحدة أصل بني إسرائيل -وهي ركيزة أساسية من العقيدة اليهودية- ويعتبر أن خليطًا من الشعوب التي كانت متأهبة للهجرة من مصر هي التي خرجت مع موسى ويعتبر أن أسطورة عبور البحر قد تم اختلاقها لتوحيد ذلك الخليط تحت اسم العبرانيين. ثم بعد اختلاط العبرانيين مع الشعوب الموجودة شمال جزيرة سيناء من قادشيين وغيرهم.. اقتضت ابداع فكرة ‘شعب الله المختار” لتوحيد المزيج الجديد.. ويعتقد أنه هناك نشأت فكرة غزو -ويذكر المعنى بهذا اللفظ- بلاد كنعان والاستيلاء عليها.
وفي الفصل الثالث يرجح فرويد فرضية اغتيال موسى من قبل شعبه “الأبناء’ في ذروة الدراما الأوديبية حيث إن موسى الذي تماهى مع الإله ‘الأب”. فأصبح بالنسبة لهم الصورة المجسدة للأب الذي يحبونه وفي نفس الوقت يتمنون غيابه من المشهد حتى انتصرت النزعة الأخيرة وتبعها غضب الإله.. وكأنها تكرار معدل لأسطورة أوديب.
عندما أغلقت الصفحة الأخيرة من الكتاب هاجمني السؤال: هل من المعقول أن يكون صديقي ذاك قد قرأ هذا الكتاب؟! الذي يفكك كل الأسس والمسلمات التي قامت عليها العقيدة اليهودية. وكل الأديان السابقة واللاحقة. إذا كان لم يقرأه فتلك مشكلة.
ولكن المشكلة الأكبر إذا كان قرأه.. وأنا لا استغرب ذلك وأعتقد أنه ممكن، فعندما يكون لدينا تصورات مسبقة مسيطرة فنحن لا نقرأ ما هو مكتوب ولا نرى ما يعرض إلا من خلال هذه التصورات، فالعقل ليس أداة مجردة أو محايدة.
وعندما يكون مبرمج مسبقًا.. ولا يتم صقله بحس نقدي يراجع ويشكك في المسلمات المسبقة
فإنه قد لا يميز بين الحقيقة كما هي والتصورات المسبقة حتى لو كانت المسافة بينهما كالمسافة بين الأرض والشمس.