أيمن أبو هاشم
في زمن النكبة السورية، من نجوا من أيادي البطش والغدر الأسدي، وما أكثرها، كان الموت كمداً بانتظارهم حيثما ارتحلوا. قلّما ننهض على يومٍ جديد دون خبرٍ يقضُّ مضاجعنا، برحيل أحبة وأصدقاء قصف القهر أعمارهم، حتى فاضت أرواحنا بلوعة الفقدان ووحشة الغياب. نبكيهم ونحن نودع من كانوا عالمنا الحقيقي، وننعي أسماءهم وشخوصهم وعبق الأزمنة التي جمعتنا بهم، ونرثيهم بما تبقى من ذاكرتنا التي تنطفئ رويداً رويداً، كلما حصد منجل الموت ركناً من روايتنا اليتيمة.
الحكم النعيمي، الإنسان والفنان والشاعر، ابن النكبتين وشاهد الثورتين، وعاشق اليرموك، وحارس الحلم العنيد، آخر الوجوه التي تغادرنا قبل أن تنصفها الحياة. نودعك اليوم بلا طقوس الوداع، أيها الغافي على مواعيد الوجع والخذلان،
تترك لنا ابتسامتك الساخرة من عسف النهايات، كي تخفف عليناً قليلاً من رهبة الأقدار، ومثلك أيها الملتاع من تواريخ الاقتلاع، يعرف كيف تموت عصافير الجليل، حينما احرق المجرمون أعشاشها بلا رحمة، ويعرف أن المنافي ترش الملح على جرح الغريب، وترميه من حصارٍ إلى اختناق، ومن سطوة الموت بالجوع والبراميل القاتلة، إلى ظلال اليأس من لا جدوى النجاة.
مَن غيركَ يا عاشق الجمال، سيرسم صدى الوجوه المسافرة مع الريح! مَن سواكَ أيها العين الرائية سيصمم أغلفة الكتب الشريدة على رفوف الماضي الجميل! مَن سيملأ غيابك لتوثيق مسيرة الشهداء في مفكرة الأوفياء! مَن بعدَك سيُكمل قصائد العشاق في أمسيات الشمال الحزينة! وأين سيأوي الصعاليك يا ملاذ أغنياتهم العتيقة!
أرثيك يا صديقي، ومعك كل أتراب رحلتنا الأخيرة في دروب التيه، أنعيك ومعك كل الأرواح التي لم تحتمل سقوط المخيم من تضاريس الحلم، ولأنك عشت طيفاً سارحاً بين حكايات المنسيين، أودع معك زمننا المتعب من زحمة المآسي والانكسارات. أعذرني يا صديقي، أن يكون رحيلك الموجع، سبباً للبوح عنك وعمّا تركته لنا من ذكريات، فلطالما أخبرتني عن أولئك الذين يتجاهلون الأحياء، فيما يبعث موت النبلاء شهيتهم للرثاء.
كيف أنسى أيها الوفيّ، حنوّك الدافئ كلما نثرت أحزاني على كتفيك، وأمسياتنا الممتدة من اليرموك إلى غازي عنتاب. وحواراتنا المشبوبة على أنغام فيروز والشيخ إمام، ومزاجك المتفلت من سرديات العلاقات البليدة، وأسرار وتذكارات عالقة تحت ركام النسيان. رثاؤك يا صديقي يوقظ جراحنا القصيّة، ونزيفنا الممتد من فلسطين إلى سورية، ويستحضر شريط الراحلين من رفقاء ماضينا الغارب.
أودعك يا فتى الجاعونة المتمرد على سياط الظلم والاستبداد، مذ تفتحت عيناك على جراح القضية، وأنت الذي لم تفلت من قبضة السجون الأسدية، ولم تزل وقتذاك ابن الستة عشر ربيعاً، لكنك خرجت وأنت أكثر رغبةً بالحياة، كما رسمتها مخيلتك الزاهية بألوان الشروق، وأغنيتَ بأعمالك الفنية أرشيف الفن الفلسطيني، وسكبت في دواوينك الشعرية، حبور أسئلتك الفلسفية، عن الجمال الشارد بين ضفاف الانتظار.
أودعك يا سليل أحلامنا المؤجلة، وسيرتك العطرة عبق الرثاء، وكما كنت تنسل من عيون الوقت، حين يداهمك ضجر اليقين، ستبقى نظرتك المُبحرة في قوافي المعاني النبيلة، وروحك الجائلة في دروب الحرية، معلماً حياً لا ينطفئ برحيلك جسداً، أيها الحكم الساكن أبداً في أرواح كل محبيك.