سالفاتوري بابونيس ترجمة: علاء الدين أبو زينة
مرة أخرى يعلن المنتقدون نهاية الرأسمالية والعولمة. لكن شبكات الإنتاج العالمية تتمتع بمرونة عالية، وهي جاهزة للعودة إلى العمل بمجرد ذهاب الوباء… بمجرد أن تأتي الطلبات، يمكن إعادة تشغيل شبكات الإنتاج في غضون لحظة. وعندما يكون الناس مستعدين للشراء، ستكون المنتجات جاهزة للبيع. وهذا ما يجعل أزمة فيروس كورونا اليوم مختلفة تمامًا عن الأزمة المالية العالمية في 2008-2009.
ثمة ركودٌ يتعمق الآن بينما يقع اقتصاد رئيسي تلو الآخر فريسة لوباء فيروس كورونا. وقد تقلص الاقتصاد الصيني للمرة الأولى منذ عقود، وهو يعاني من انكماش اقتصادي لا يستطيع حتى الإحصائيون الاقتصاديون الورديون في البلد أن يخفوه. وتقترب البطالة في الولايات المتحدة من 20 بالمائة، لتكون بذلك قريبة من مستوياتها في حقبة الكساد. وتسببت القيود المفروضة على السفر في مقتل السياحة العالمية وأغرقت صناعة النفط في حالة من الفوضى. كما توقف إنتاج السيارات فعليًا، وانتقل البيع بالتجزئة إلى العمل من خلال الإنترنت، وأُغلقت المطاعم في كل مكان تقريبًا.
كانت الشركات الوحيدة التي تعمل بشكل جيد تقريباً في جائحة فيروسات كورونا هي شركات تصنيع المعدات الطبية، وخدمات بث الفيديو، و”أمازون”.
في شتاء سخطنا هذا مع فيروس كورونا، يصعب تصور أن صيفاً اقتصادياً مجيداً ربما يكون على بعد بضعة أشهر فقط.
الناس لا يشترون الآن بكثرة سوى ورق التواليت؛ والمفكرون يعلنون، كالعادة، نهاية الرأسمالية. وتتراوح التوقعات الاقتصادية لهذا العام بين الركود الحاد والكساد المطول. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 3 في المائة في العام 2020 وأن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي للاقتصادات المتقدمة في أوروبا وأميركا الشمالية وشرق آسيا بنسبة 6 في المائة.
ومع ذلك، تمامًا مثلما كان يجب أخذ توقعات خبراء الأوبئة بحدوث عشرات الملايين من الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا ببعض الحذر (وربما مع رشة ملح)، ربما تبين أيضًا أن توقعات خبراء الاقتصاد كانت مبالغًا فيها. وإذا تبين أن أسوأ السيناريوهات كانت نبوءة خاطئة وعاد الناتج المحلي الإجمالي هادراً في وقت أقرب مما كان متوقعًا، فسوف يكون ذلك بسبب العولمة بالتحديد. بعيداً عن كونها البعبع الذي يصورها المنتقدون به، فإن العولمة هي السبب في كون الاقتصادات أكثر إنتاجية، وأكثر كفاءة، -و، نعم، أكثر مرونة في مواجهة الصدمات. ونتيجة لذلك، أصبح بوسعنا الآن أن نفعل المزيد بتكلفة أقل -والاستمرار في ذلك حتى بينما ينهار العالم من حولنا.
الانطباع الشائع هو أن شبكات الإنتاج المعولمة هشة بشكل كبير بسبب تعقيدها المذهل، وأنها تتعطل بسهولة بسبب ممارسات إدارة “المخزون في الوقت المناسب”. وفي الواقع، تم إلقاء اللوم في جزء كبير من تفكك الاقتصاد المرتبط بالوباء على انهيار هذه الشبكات. لكن هذا الانطباع مضلل تمامًا. صحيح أن شبكات الإنتاج معقدة بشكل لا يصدق -لكن هذا التعقيد يمنحها القوة، مثل شبكة كثيفة مصنوعة من خيوط دقيقة. وسوف تهدد المخزونات الضعيفة الجداول الزمنية للإنتاج فقط في حال لم يكن قد تم بناء صناعة كاملة من الخدمات اللوجستية المحمولة جواً حولها.
قبل العولمة، ربما كان المصنع النموذجي سيحتفظ بما يكفي لعدة أسابيع أو أشهر من القطع والمكونات في المخزون، فقط للتأكد من عدم نفادها أبدًا. وقد أدى ذلك إلى قمع الابتكار، لأنه عنى أن أي إعادة تصميم للمنتج قد تحول مخزوناً كاملاً باهظ الثمن إلى مجرد ثقالات ورق قديمة عفا عليها الزمن. في عصر العولمة، تعهد المصانع بإدارة مخزونها عملياً إلى شركات الخدمات اللوجستية: عندما يحتاج المصنع إلى أحد المكونات، فإنه يطلبه، ببساطة. وإذا تعذّر الحصول على المكوِّن من مورّده المعتاد (على سبيل المثال، في صين مغلقة بسبب فيروس كورونا)، يمكن أن تتحول سلسلة التوريد بسهولة إلى مزودي خدمات بديلين في بلدان أخرى. وكبديل عن ذلك كله، يمكن للمصانع ذات الآلات المتطورة والقابلة لإعادة البرمجة أن تتحول إلى إنتاج نماذج مختلفة، والتي يحدث أن تكون مكوناتها متوفرة.
هذا النوع من المرونة التي تجعلها العولمة ممكنة هو بالضبط ما رأيناه في الاستجابة لأزمة فيروسات كورونا. ولنأخذ السيارات على سبيل المثال. عندما أغلق الوباء العديد من مصانع الموردين الصينيين في شباط (فبراير)، توقع المراقبون أن يتوقف إنتاج السيارات العالمي. واستغلوا قصة الإغلاق المؤقت لمصنع “فيات كرايسلر” في صربيا ليعرضوه كدليل على هشاشة سلاسل التوريد في القرن الحادي والعشرين.
ولكن، ما عليك سوى أن تقرأ التفاصيل الدقيقة، وسوف تبين أن المصنع الصربي كان من المقرر إغلاقه مسبقاً من أجل إعادة تجهيزه؛ لم تتوقع شركة “فيات كرايسلر” أن يؤثر التغيير في الجدولة على إجمالي إنتاجها الشهري. ثم، كما اتضح، لم يغلق المصنع الصربي أبوابه على الإطلاق –إلى أن أغلقت شركة “فيات كرايسلر” جميع مصانعها الأوروبية كإجراء وقائي ضد الإصابة بفيروس كورونا واستجابة لتراجع الطلب. لقد صمدت سلاسل التوريد البعيدة التي يفترض أنها هشة بصلابة؛ كان الاقتصاد الأكبر هو الذي فشل.
اضطرت بضع منشآت أخرى حول العالم إلى جلب أجزاء مخصوصة بالطائرات لتعويض النقص. في اليابان، اضطرت شركة “نيسان” إلى وقف الإنتاج في مصنع واحد لمدة يومين بسبب تعطل سلسلة التوريد، بينما في كوريا الجنوبية، أغلقت شركة “هيونداي” مصنعًا واحدًا لمدة خمسة أيام، وأغلقت شركة “كيا” ثلاثة مصانع لمدة يوم واحد. وهذا كل شيء. لا انهيار، ولا انقطاع -ولا حتى أجبر تباطؤ الطلب شركات صناعة السيارات على إغلاق المتاجر لمنع تراكم المخزون عند وكلائها. وأغلقت شركة “تيسلا” مصنعها في كاليفورنيا فقط بعد أوامر الحكومة، وليس بسبب أي نقص في قطع غيار.
وتكررت القصة نفسها في صناعة الإلكترونيات. فقد اضطرت شركة “سامسونغ” إلى إغلاق مصنع لتجميع الهواتف الذكية في كوريا الجنوبية، ليس لأنها لا تستطيع الحصول على قطع غيار، وإنما لأن أحد عامليها ثبتت إصابته بفيروس كورونا. وتم نقل القطع إلى مصنع آخر في فيتنام لتجميعها هناك. وأيضاً في كوريا الجنوبية، تم إغلاق مصنع كاميرات “إل. جي” بسبب إصابة بعض العاملين بالمرض، وليس بسبب كسر سلاسل التوريد. ولم يتسبب أي من من هذه الإغلاقات بما يصل إلى حدوث انقطاع شامل في إمدادات الهواتف الذكية. وفي الحقيقة، يضمن الترابط العالمي لشبكات إنتاج الإلكترونيات أنه لا يمكن لأي نقطة فشل واحدة أن تعطل الإنتاج لفترة طويلة.
وحتى لو تم إيقاف إنتاج منتج معين مؤقتًا بسبب مشاكل في سلسلة التوريد، فقد ولّدت العولمة مثل هذا العدد الكبير من المنتجات بحيث تكون البدائل القريبة متوفرة على الدوام. اليوم، تشكل السيارات والهواتف المحمولة بعضاً من أكثر المنتجات الاستهلاكية تعقيدًا على الإطلاق، ولكن، حتى في مواجهة أشد الكوارث تدميراً منذ الحرب العالمية الثانية، لم يُحرم أي شخص في العالم من فرصة شراء سيارة أو هاتف نتيجة لمشاكل الإنتاج. ربما تكون السلطات الصحية في العالم قد خذلتنا، لكن شبكات الإنتاج العالمية مرت بتميز تحفها أعلام الانتصار الملونة.
وهذا يمنحنا الأمل في حدوث انتعاش اقتصادي أسرع –إذا، وعندما، يعود الطلب.
وهي “إذا” كبيرة، بكل تأكيد، طالما أن الكثير من الأشخاص والأعمال التجارية يكافحون. ولكن، بمجرد أن تأتي الطلبات، يمكن إعادة تشغيل شبكات الإنتاج في غضون لحظة. عندما يكون الناس مستعدين للشراء، ستكون المنتجات جاهزة للبيع. وهذا ما يجعل أزمة فيروس كورونا اليوم مختلفة تمامًا عن الأزمة المالية العالمية في 2008-2009. فقد بدأت تلك الأزمة في “وول ستريت” وألحقت الضرر بمعظم النظام المالي الغربي، تاركة إرثاً دام عشر سنوات من الركود العالمي. يبدو أن النظام المالي أقل مرونة بكثير من الاقتصاد الحقيقي.
جعلت العولمة الاقتصاد الحقيقي يشبه الإنترنت إلى حد كبير. ويعني الهيكل الموزَّع للإنترنت أنه يستطيع النجاة والبقاء حياً ومتماسكاً بعد يوم قيامة نووي. وكان للزيادة الهائلة التي تسبب بها تفشي فيروس كورونا في حركة المرور على الإنترنت من ملايين الأشخاص الذين يعملون ويدرسون من المنزل بالكاد تأثير في متوسط سرعات التحميل، ناهيك عن تعطل الشبكة. وأثبتت الهندسة الفوضوية الشبيهة بالشبكة للإنترنت أنها أكثر قوة من شبكات التمويل العالمي عالية التنظيم. وتتمتع شبكات الإنتاج العالمية بنفس الميزة.
هذا هو السبب في أن شبكات الإنتاج التي يفترض أنها هشة انحنت بالكاد بسبب الوباء. قد يتم إغلاق الاقتصادات المحلية والوطنية بسبب قواعد التباعد الاجتماعي وحالات الإغلاق المفروضة، ولكن الشبكات العالمية استمرت في العمل.
كما أن شبكات الإنتاج العالمية لم تكن هي المسؤولة عن نشر فيروس كورونا نفسه. كانت النواقل الرئيسية للمرض هي حفلات الكوكتيل، والتجمعات الدينية والسياحة. ولا يتحدث أي من المعلقين الذين يعارضون العولمة الآن ويصرخون ضدها عن إغلاق منحدرات التزلج في كولورادو أو المعارض الفنية الأوروبية، ناهيك عن صناعة السفن السياحية. ومع ذلك، لم ينتشر الوباء محمولاً على شاشات الهواتف المحمولة صينية الصنع. لقد انتشر لأن الناس يحبون السفر، ولن يغير ذلك أي قدر من تفكيك العولمة.
إن عولمة الإنتاج تجعل من الممكن تمامًا أن ينتهي الركود الذي جلبه فيروس كورونا بنفس السرعة التي أتى بها تقريباً. وليس في هذا عزاء لآلاف الشركات التي ستنهار أو ملايين الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم مسبقاً. لكن ركوداً قصيراً وعميقاً سيكون أفضل من كساد طويل. وبفضل العولمة، سيظل هناك اقتصاد عالمي تمكن العودة إليه بمجرد أن ينتهي الوباء في كل مفرد.
في الوقت الحالي، ربما تقوم الولايات المتحدة بفرض تدابير الإغلاق، لكن شرق آسيا شرع في الانفتاح مسبقاً، كما تقوم الدول الأولى في أوروبا بالتخفيف من إجراءات الإغلاق لديها أيضاً. وعندما يعود الاقتصاد الأميركي إلى العمل في غضون بضعة أشهر، فإنه سيجد اقتصادًا عالميًا تواقاً إلى شراء سلعه ومستعدًا لاستيعاب إمكاناته المكبوتة. هذا هو سحر العولمة. إنها لا تستطيع أن تعالج الفيروس، لكنها ستساعدنا جميعًا على التعافي بشكل أسرع كثيرًا مما كنا لنفعل في أي وقت من تلقاء أنفسنا.
*Salvatore Babones: باحث مساعد في مركز الدراسات المستقلة في سيدني، وأستاذ مشارك في جامعة سيدني.
المصدر: (فورين بوليسي) / الغد الأردنية