بسام شلبي
في مطلع شهر نيسان/ابريل ٢٠١١ راودت الشعب السوري الثائر في ذروة نشوته بعد نجاح فعاليات جمعة الشهداء باحتلال إحدى الساحات العامة الكبرى والتمركز فيها باعتصام مفتوح على غرار الثورة المصرية الملهمة.
تم التفكير في عدة احتمالات ولكن في النهاية استقر الرأي أن أقربها للواقعية هي ساحة العباسيين في أقصى شرق دمشق نظرًا لقربها من الكتلة البشرية الثائرة الأكبر.
رغم أن الافتراضات الأولية كانت تحبذ ساحة الأمويين نظرًا لقربها من المباني الحكومية الحساسة (الإذاعة الأركان…) والقصر الجمهوري.
وقد داعب خيال المنظمين منظر رأس النظام وهو يطل من شرفته ليرى مئات الآلاف من المحتشدين الهاتفين بسقوطه ليلًا ونهارًا. ولكن من الناحية العملية هذا الخيار المحبذ كان بعيدًا جدًا عن الامكانيات الواقعية. كذلك الأمر بالنسبة لخيار ساحة المرجة (الشهداء) بما لها من رمزية تاريخية ولموقعها في مركز العاصمة.
تم التنسيق بين اللجان المحلية أوليًا على أن يكون يوم ١٧ نيسان/ابريل ذكرى الجلاء موعدًا وأن يتم الزحف من أربعة محاور، الأول ينطلق من دوما حرستا وتنضم لهم جموع عربين.
المحور الثاني ينطلق من حمورية سقبا حزة وينطلق إلى الزبلطاني ثم ساحة العباسيين
والمحور الثالث ينطلق من مدينة التل باتجاه معربا ثم برزة.
والمحور الرابع كان مأمولًا أن يأتي من جهة باب توما والقصاع والتجارة باتجاه الساحة ومعلوم بأن هذه الأحياء ذات أغلبية مسيحية. وللحقيقة والتاريخ فإن هذا لم يكن ضربًا من الخيال. وكانت هناك اتصالات، وكان هناك الكثير من المتعاطفين والمشاركين مع الثورة في تلك الفترة من قاطني هذه الأحياء. مع ذلك فإن هذا المحور كان أول من أسقط من الحساب نظرًا لصعوبة توفير الحشد المطلوب لمثل هذا التحرك في ظل التواجد الأمني الكثيف والتركيبة الديموغرافية المتنوعة والآلة الإعلامية الضخمة للنظام، والتي شنت حملة قذرة مكثفة لتخويف الطوائف المسيحية وخلق شرخ بينها وبين الثورة. بالأخص بعد فبركة قصة إمارة حمص الاسلامية. تم تغيير موعد الخطة عن يوم ١٧ نيسان/ابريل الذي كان موافقًا يوم الأحد ذلك العام نظرًا لصعوبة الحشد بالكثافة المطلوبة وتم تأجيلها إلى يوم الجمعة ٢٢ نيسان/ابريل ٢٠١١ الذي كان موافقًا ليوم الجمعة العظيمة عند الطوائف المسيحية، وتم تسمية الجمعة بهذا الاسم أيضًا للتأكيد على تلاحم الشعب السوري بكل طوائفه. لكن حمص العدية استعجلت وقامت باعتصامها الشهير في ساحة الساعة في حي الحميدية يوم ١٨ نيسان ردًا على ارتقاء عددًا من الشهداء في مظاهرات يوم الجلاء. وتمكنت من احتلال الساحة بأعداد غفيرة.
ولكن مع فجر التاسع عشر من نيسان/ابريل قام النظام بفض الاعتصام بوابل من رصاص حي مباشر ترك خلفه أكثر من مائة وخمسين شهيدا ومئات المعتقلين. وبدا جليًا أن رسالة النظام كانت واضحة ومباشرة أيضًا بعدم قبول أي اعتصام مفتوح مهما كانت الكلفة البشرية والسياسية.
أعادت تلك المجزرة الرهيبة طرح السؤال على المنظمين والثائرين: هل مازالت الخطة قابلة للتطبيق أم أنها باتت ضربًا من الجنون والخيال؟
لكن الروح المعنوية والنشوة الثورية في تلك الأثناء لم تكن تسمح بأي احتمال للتراجع أو الاستسلام. في اليوم الموعود خرجت في مدينة التل مظاهرة كبيرة لكنها لم تصل إلى الأعداد المأمول فيها من قبل المنظمين، حيث لم يستطع الثوار من أبناء القرى والبلدات المجاورة الوصول إليها بعد إغلاق المداخل الشمالية والغربية بحواجز عسكرية طيارة. ولم تستطع المظاهرة التي بلغ قوامها بضع آلاف الخروج للالتحام مع مظاهرة برزة نظرًا لإغلاق المدخل الرئيسي بحاجز عسكري قوي عند مدخل حرنه الشرقية، استطاع مع القوى الأمنية والشبيحة تفريقها باستخدام العنف والغاز المسيل للدموع دون سقوط شهداء.
خرجت في دوما أيضًا مظاهرة حاشدة تجاوزت العشرة آلاف متظاهر من أبنائها وأبناء القرى المجاورة (مسرابا، مديرة، الريحان) ولكن مع ذلك لم تستطع الخروج للالتحام مع مظاهرتي حرستا وعربين وقد وجهت بالرصاص الحي وكل أنواع العنف حتى تم تفريقها بعد ارتقاء بضع شهداء وعشرات الجرحى.
وحدها مظاهرة سقبا حمورية ومن انضم إليهم من أبناء الغوطة الشرقية هي التي نجحت، وقطعت شوطًا طويلاً فوصلت إلى الزبلطاني قريبًا من الهدف المنشود، وعندما اقتربت من مجمع ٨ آذار، ودون سابق إنذار انهال عليهم الرصاص الحي من بنادق القناصة المتمركزين على الأسطح بكثافة.
وخلال بضع دقائق من محاولات التقدم كان قد ارتقى مائة واثنا عشر شهيدًا وعشرات الجرحى.. وكانت الإصابات كلها في الرأس أو الأجزاء العلوية مما يؤكد أن التعليمات كانت بالقتل وليس الاعاقة. وبدى التقدم مستحيلاً وسط وابل من رصاص لا يرحم. والتراجع كان صعبًا حيث القوى الأمنية المحاصرة من الخلف كانت تسعى لاعتقال أكبر عدد ممكن.. وبأعجوبة تفرقت المظاهرة خلال ساعات عصيبة تركت وراءها آلام جديدة في جمعة الآلام لشعب قد صلب أربعين عامًا على مذبح الحزب الواحد والقائد الخالد.
لقد كانت حقًا جمعة الآمال والآلام لشعب أبي ورجال ونساء عشقوا الحرية وقرروا التضحية من أجلها. لقد فشلت خطة اعتصام ساحة العباسيين ولكنها مع ذلك كانت جمعة عظيمة. فقد تجاوزت نقاط التظاهر الكبيرة على طول سورية وعرضها حاجز المائة في مراكز المحافظات والمدن غير التظاهرات في القرى والبلدات الثائرة.
وقد دخلت مناطق جديدة في نطاق الثورة مثل ريف حماة الشمالي والغربي.. وبينما كانت حمص تداوي جراحها بعد مجزرة الساعة كان ريفها يشتعل من الرستن إلى الحولة إلى دير بعلبة والقصير وتلكلخ.
ودخلت دمشق أيضًا بمظاهرات حي الميدان والقدم وركن الدين. وزرع حيي برزة والقابون الدمشقيين قدمًا راسخة في مسيرتها. لقد كانت جمعة عظيمة حقًا اسمًا على مسمى. جمعة الآلام والآمال لشعب كان ومازال محكومًا بالأمل.
المصدر: اشراق