سمير سعيفان
تدفع الأحداث الكبرى القوى العالمية إلى أن تسعى إلى حل العقد السياسية الأقل أهمية، من أجل التفرغ للخطر الأكبر. وبهذا المعنى، هل يُحدِث انتشار وباء كورونا مثل هذا المناخ من حول الصراع الدائر في سورية وعليها، خصوصا مع تزامن مجموعة من العوامل ذات العلاقة بالشأن السوري والتأثير في مساره؟
احتوى تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية حول اللطامنة (بلدة شمال غربي حماه)، والذي صدر في 8 الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) اتهامًا صريحًا للنظام باستخدام الأسلحة الكيميائية في اللطامنة في مارس/ آذار 2017. وهذه جريمة ضد الإنسانية. ولهذا التحديد أهميته، لأنه يعني أن النظام في سورية قد خالف اتفاق تدمير أسلحته الكيميائية، موضوع قرار مجلس الأمن 2118 لعام 2013، والذي نصّ على أنه “في حالة عدم الامتثال، فإنه ووفقًا للفقرة 21 من القرار…. تفـرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة”. وتكمن خطورة هذا التقرير بالنسبة للنظام ولروسيا بأنه يفتح الباب أمام إمكانية اتخاذ المجتمع الدولي خطواتٍ من شأنها تمهيد الطريق أمام محاكمة أركان النظام.
قرار تقديم مجرمي الحرب السوريين للعدالة الدولية يجب أن يمرّ من بوابة مجلس الأمن، أي تحت مقصلة الفيتو الروسي والصيني، وبالتالي لا ينتظر صدور مثل هذا القرار الآن، ولكن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، وسيبقى سيف التقديم للعدالة مسلطًا على رقاب الأسد وقادة نظامه للأيام المقبلة، حيث لن يبقى لروسيا مصلحة في حمايتهم بعد مغادرتهم السلطة التي ستأتي، وربما ليس بعد زمن بعيد، خصوصا أن منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ما زالت تحقق في ثماني قضايا أخرى مشابهة.
يأتي توقيت تقرير منظمة الأسلحة الكيميائية مع اقتراب موعد بدء تنفيذ قانون سيزر الذي سيكون في منتصف يونيو/ حزيران المقبل، والذي يتضمن عقوبات أشمل وأشد صرامة من كل ما سبقه من قرارات. سينتج هذا القانون مزيدًا من الضغوط على النظام، وستحدّ أكثر من قدرته المحدودة أصلاً على حل أي من المشكلات الكثيرة، وخصوصا الخدمية والمعيشية، ما سيسبّب صعوبات إضافية للسوريين في مناطق سيطرته، وسيجعل الحياة أصعب بما يؤدي إلى ربط أقوى بين بقاء النظام، وعلى رأسه بشار الأسد، وبقاء الوضع المزري في سورية. وتقطع أي آمال في تطبيع العلاقات مع النظام وفي المساعدة على إعادة الإعمار.
يشكل صمود اتفاق موسكو الذي عقد في 5 مارس/ آذار 2020 بين الرئيسين، التركي أردوغان والروسي بوتين، لوقف إطلاق النار في إدلب وريف حلب، على الرغم من مساعي تخريبه المستمرة من النظام وإيران، عاملًا آخر له دلالته، فهو، في حال صموده المتوقع، يشكل مؤشرًا على انتهاء فترة الصراع العسكري، ما يفسح في المجال أمام الحل السياسي للصراع.
يشكل بقاء جزء من الأرض السورية خارج سيطرة النظام ورقة ضاغطة بيد الأتراك، لاعبا رئيسا في الصراع الدائر في سورية وعليها. وعلى الرغم من أن روسيا لا تمانع، بل ترغب بعودة هذه المناطق إلى سيطرة النظام، وانتزاع هذه الورقة من اليد التركية، غير أن تشدد أردوغان في مقابل بوتين، وإبراز الجدّية المطلقة في منع عودة هذه المنطقة إلى سيطرة النظام، وإقامة اكثر من 50 نقطة مراقبة عسكرية تركية، وإرسال أكثر من عشرة آلاف جندي تركي ونحو مائة وحدة من المركبات المدرعة الثقيلة، بما في ذلك الدبابات والمدافع ذاتية الدفع، إلى المحافظة، قد أرغم بوتين على القبول بثبات هذا الاتفاق واستمرار وقف إطلاق النار، بدون تكرار سيناريو الاتفاقات السابقة. ويبدو أن ثمّة عوامل عديدة مركّبة تتعلق بالمصالح القومية التركية، وبالسياسة التركية، ومواقف حزب العدالة والتنمية، والحسابات الداخلية للحزب ولأردوغان ذاته، كلها تدفع أردوغان إلى التمسك بهذه الاتفاقية، وهي تبرز هذه الجدّية بتحشيد قوات عسكرية تركية أكثر في هذه المنطقة في مقابل تحشيد إيران مليشياتها على حدود هذه المنطقة، في مسعى إلى تفجير القتال مرة أخرى.
من طرف آخر، يستمر الموقف الأميركي والأوروبي بربط رفع العقوبات على النظام والفيتو على تمويل إعادة الإعمار، ربطهما بحدوث انتقال سياسي حقيقي في سورية. ويشكل هذا الربط عاملًا ضاغطًا على روسيا. وقد أفشلت الولايات المتحدة مع الأوروبيين مساعي روسيا الحثيثة إلى استغلال انتشار وباء كورونا لرفع العقوبات المفروضة على النظام، وتطبيع العلاقات معه، أو مساعي إعادة النظام إلى جامعة الدول العربية، فالعقوبات لا تشمل الأغذية والأدوية وأي احتياجات صحية، بما فيها مكافحة الفيروس الجديد.
استمرار هذا الموقف والتمسك به سيضع الروس أمام استعصاء وإجبارها على المفاضلة بين خيارين، إما بقاؤهم في “سورية الأسد” المدمرة والمقسمة والمحاصرة، مع نفوذ إيراني منافس على أرضها، مع استمرار العقوبات، وبدون إعادة إعمار، وهو خيار فيه خسارة لروسيا، أو قبولهم انتقال سياسي بدون الأسد وقيادات الصف الأول لنظامه، والانتقال إلى نظام سياسي جديد بقيادات أخرى منتخبة ديمقراطيًا في ظروف معقدة.
على الجانب الروسي، كان لافتا صدور عدة مقالات في وسائل إعلام ومراكز دراسات روسية موالية للكرملين، مثل برافدا رو الإلكترونية، والمجلس الروسي للشؤون الدولية (يقدّم استشارات لوزارة الخارجية الروسية) ومنتدى فالداي للحوار (تأسس بتوجيه من الرئيس بوتين) وغيرها، تنتقد الأسد بشدة غير مسبوقة، وتتهم الأسد ونظامه بأنهم ضد الحل السياسي، وإن أقل من معظم الشعب السوري لا يريده رئيسًا، وتتحدّث عن المشكلات الكبرى في الاقتصاد السوري، وعن نظام الفساد المهيمن في عائلة الأسد وحاشيتها، وعن اقتصاد الظل ونهب ثروات المواطنين البسطاء، بينما يظهر الأسد وأقرباؤه الترف والبذخ في وقت تبدأ فيه البلاد الخروج من كارثة الحرب الأهلية، وأن 45% من المنازل دمرت، ونصف المرافق الصحية، و40% من المدارس والجامعات، وقد وصل 80% من السوريين إلى ما تحت خط الفقر. وتسمّي المقالات شخصيات النظام بأسمائها، مثل ماهر الأسد ورامي مخلوف وحافظ مخلوف وعماد خميس، ورجال الأعمال حسام ومحمد قاطرجي ومحمد حمشو.
بغض النظر عما إذا كانت هذه المقالات أدوات ضغط على النظام، أم هي مقدّمات للتمهيد للتخلي عن الأسد ومغازلة المعارضة، فإنها تظهر ضيق بوتين بالكذب المستمر لبشار الأسد الذي يأخذ جانب إيران، على الرغم من أن روسيا هي من أنقذه، سواء بحمايته في مجلس الأمن منذ 2011 أو بتدخلها العسكري في سبتمبر/ أيلول 2015، بل هي أكثر من ذلك، فهي قد تعكس قناعة بوتين أن بشار الأسد ليس الحصان الذي يمكن الرهان عليه. هذا كله على الرغم من أن هذه المقالات حذفت من مواقعها الإلكترونية.
إضافة إلى تلك العوامل الخمسة، يأتي وباء كورونا، والمأساة التي يسببها للمجتمع البشري، لينتج مناخًا جديدًا يدفع القوى الكبرى إلى تخفيف أعبائها، وحسم الصراعات الصغيرة للتفرغ لمواجهة خطر أكبر، فالجهات التي تمول الصراع في سورية أصيبت قدراتها بأضرار كبيرة. ما يعني أن مناخًا سياسيًا مواتيًا ينضج لاستمرار جهود الحل السياسي، والتي من المحتمل أن تبدأ خلال الشهر المقبل (يونيو/ حزيران)، حيث يتوقع أن يكون وباء كورونا قد حط رحاله، والتي من الصعب توقع نتائجها.
ما زال الموقف في سورية معقدًا للغاية، وقد بات الفاعلون في الملف السوري أربعة أطراف، روسيا وإيران (وقد غدت إيران لاعبًا ثانويًا على الرغم من وجودها الملموس على الأرض السورية) مع الشرط الأميركي لإخراجها من سورية، ومن طرف آخر تركيا والولايات المتحدة. والطرفان المقرّران في هذه اللعبة التي أُخْرِجَ منها صاحب الشأن، الشعب السوري، هما الولايات المتحدة وروسيا، وفي حين تقبض روسيا على الداخل السوري، فإن الولايات المتحدة تقبض على المجتمع الدولي وعلى مصادر تمويل إعادة الإعمار وإعادة الاعتبار للسلطة القائمة أو التي ستقوم في دمشق، إضافة إلى وجودها الفيزيائي في منطقة شرق الفرات. بدون الدور الأميركي لن يكون هناك انتقال سياسي، وحتى لو كان الحماس الأميركي في سورية دون المستوى للوصول إلى حل قريب للكارثة السورية، فإنهم لن يسمحوا بأن تحل الأزمة السورية بدون دور رئيس لهم. وقد يجد ترامب أن من مصلحته الانتخابية أن يُحدث اختراقًا في سورية يصب في صالحه، على الرغم من الأهمية الثانوية للقضايا الخارجية في الانتخابات الأميركية، ولكنها تبقى نقطة في صالحه. وموقف تركيا في الشأن السوري أقرب إلى الموقف الأميركي، فمطلبها المحدّد هو تحقيق انتقال سياسي في سورية، وقد بات من الصعب على القيادة التركية أن تتراجع أكثر من ذلك، ولكن تركيا تختلف مع الموقف الأميركي في ما يخص الموقف من مليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الكردية. وقد تجد روسيا من مصلحتها التخلي عن الأسد الملوث دوليًا بجرائم ضد الإنسانية، مع ميله الواضح إلى إيران على حساب المصالح الروسية، ما يغضب بوتين، وأن العقوبات الشديدة على سورية ستبقى ما بقي نظام الأسد، والتحدّي أمام روسيا هو كيف تضمن مصالحها في سورية في حال ذهب الأسد، وجرى انتقال سياسي بقيادات جديدة يصعب التحكّم بها. أما إيران فهي تحضر المشهد بحيث ينهار كل شيء فيما لو ذهب الأسد، وذلك لدفع روسيا إلى التمسك به (زيارة وزير الخارجية جواد ظريف دمشق في 20 إبريل/ نيسان)، وستعمل إيران على عرقلة الوصول إلى أي حل سياسي إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، وهي تراهن على خسارة الرئيس ترامب وفوز رئيس ديمقراطي يتابع معها سياسة أوباما، ويحافظ على الاتفاق النووي المبرم سنة 2015، والذي يتيح لها استمرار التخصيب المقيد حتى 2025، والتخصيب غير المقيد بعد هذا التاريخ، وهو الرهان الذي تريد إيران أن تكسبه، لأنها تقيم رهاناتها على امتلاك سلاح نووي، يحولها إلى لاعب رئيس في الإقليم.
تكاد البوابة الوحيدة أمام الاستعصاء السوري قيام صفقة “روسية أميركية”، الطرف الأول فيها روسيا التي تقبل انتقالًا سياسيًا في سورية، بدون الأسد وقيادة صفه الأول، إلى نظام سياسي ديمقراطي ينتج في هذه الظروف المعقدة، ويقيد دور إيران في سورية، ويضمن، في الوقت نفسه، مصالح روسيا في سورية، والطرف الثاني أميركا التي تقبل الانسحاب من سورية، ما يقطع الطريق على مشروع الـ PYD الانفصالي، مع معالجة عادلة لمطالب السوريين الكرد، ورفع العقوبات المفروضة على سورية، وإلغاء معارضتها المساعدة في إعادة الإعمار وتمويله. وتكمن الصعوبة أمام هذه الصفقة في خشية الروس على مصالحهم، في حال تم مثل هذا الانتقال السياسي مما يدفعهم، في حال خشيتهم الكبيرة إلى التمسّك بالأسد ونظامه.
إخراج هذا الحل، في حال قناعة روسيا بالصفقة، هو إجبار الأسد على الدخول في عملية صياغة الدستور بفعالية، وقد تكون النتيجة دستورا متوافقا عليه دوليًا، ويحتوي على نص يمنع الأسد من الترشح، ويوضع على طاولة لجنة صياغة الدستور كي يوقع عليه الجميع، وأن تمنح اللجنة صلاحيات الإشراف على الانتخابات بإشراف الأمم المتحدة أو شراكة معها، وليس مجرّد صياغة الدستور، وأن يترافق هذا مع مناقشة الملفات الأخرى العديدة، وخصوصا المعتقلين والمغيبين قسريًا، واللاجئين والمليشيات الأجنبية وغيرها، وهذا يتطلب تقديم دعم تقني كبير لعمل اللجنة.
على الرغم من أن هذه الصفقة ما زالت حلمًا، ولكن ليس أمام السوريين من فرصة أخرى لأن يتحرّكوا للعب دور أكبر في تقرير مصير بلدهم وشعبه، وتحقيق بعض ما انتفضوا لأجله في 2011 ودفعوا أثمانًا باهظة غير مسبوقة في التاريخ. ويمكن أن يكون شكل التحرّك من خلال تشكيل مجموعة تواصل من عدد قليل من الشخصيات السورية التي لها اعتبار دولي، تتعزّز بمجموعتين استشاريتين، سياسية وإعلامية، وتنظم مجموعات عمل في عدد من البلدان الفاعلة في الملف السوري، لإيجاد ضغط بأشكال مختلفة على السياسيين وصانعي القرارات. وتتحرّك المجموعة بفاعلية وفق خطة مرسومة باتجاه الإدارة الأميركية، والتواصل مع مجموعات الضغط في الكونغرس والإعلام والسياسيين لدفع الإدارة الأميركية إلى موقف ضاغط على روسيا، لعقد هذه الصفقة، ووضع حد للمأساة السورية في سنتها العاشرة التي ستعرف عبر التاريخ بسنة كورونا.
المصدر: العربي الجديد