محمود الوهب
لم يكن الضابط ذو رتبة النقيب ليُعْجِب أسرة أحمد مخلوف، لا لأنه ضابط صغير، بل لأنَّ أسرته من قاع عشيرة الكلبية التي لا ترقى إلى أسرة آل مخلوف (عشيرة الحدادين) في الجبل العلوي، ولأن الضابط بعثيٌ وآل مخلوف “سوريون قوميون”، بينهم وبين البعثيين ما صنع الحداد، إذ هم متهمون باغتيال الشاب الدمشقي والبعثي اللامع، العقيد عدنان المالكي، في 22 إبريل/ نيسان 1955. ولكن الضابط النقيب الممتلئ حماسة وطموحاً سياسياً واسعاً تفُوقُ هذه المسائل كلها، وجد الطريق إلى قلب معلمة المدرسة، أنيسة أحمد مخلوف، بواسطة أهل الخير، ومنهم زميله الضابط صلاح جديد الذي أودى به فيما بعد، حيث استطاع النقيب حافظ الأسد اقتياد أنيسة إلى بيته، لتكون زوجة وشريكة عمر. وحين أخذ نجمه يسطع، وكان قد تخلص من رفاق دربه، وأخذ يؤسس لـ “مملكة الظلام” ذابت، عندئذ، الفوارق الاجتماعية والسياسية، إذ وحَّد الأسرتين السعي إلى المال والجاه وترسيخ فكرة القائد الأبدي، وتناسى الحدّادون نظرتهم الفوقية، وأخذ محمد مخلوف، الأخ الوحيد لأنيسة، يتقرَّب من صهره أكثر، ليرتقي في الوظائف التي تسمح له بمد يده الطويلة أصلاً. وبعد سنوات قليلة أيضاً، اعتذر حافظ الأسد لـ “السوريين القوميين” أي حين أطلقت يده في لبنان، عن سوء تقدير “البعث” وحدة سورية الكبرى!
وفي العام 1972، عُيّن محمد مخلوف مديراً للمؤسسة العامة للتبغ، ثم انتقل في 1985 إلى المصرف العقاري، حيث “قدّرت سرقاته من المصرف بأكثر من مليار ليرة سورية على مدى أكثر من عقد”، غير أن ذلك كله لم يرض نهمه للمال، فانتقل إلى تأسيس إمبراطورية كبرى للمال، ما جعله يتقدَّم قائمة الفاسدين. وبعد عقدين، ومع مرحلة “الوريث”، ظلَّ محمد مخلوف يترأس مملكة المال الفاسد من وراء ستار، بينما تصدَّر ابنه رامي المشهد، لتأخذ العائلة في التكاثر لتغدو أكثر من ثلاثين شركة وثروة قدَّرها فراس طلاس بين 14 مليار دولار إلى 18 مليارا، نافياً أن تكون قد وصلت إلى 40 أو 100 مليار، وعدّها فراس بن رفعت الأسد مئة في حدها الأدنى..! لكنه، للحقيقة والتاريخ، لم يوافق على قول رامي إنها من عطاء رب العالمين الذي يعزّ من يشاء، وقد اختار من بين السوريين آل مخلوف للعز في وقت فُرِض فيه الجوع والقهر والموت على ملايين السوريين الآخرين.
لم يبق أحد في العالم أجمع ليماري في هذا الأمر، ولكن لا بد من إشاراتٍ عابرةٍ إلى القليل مما
يعرف، لا عن السرقات والرشا التي كان يفرضها محمد مخلوف، بل عن التسهيلات التي قُدّمت لابنه رامي، بدءاً من إعفاءات منافذ البيع فيما تسمى السوق الحرة من الضرائب كلياً، ما أفقد خزينة الدولة سنوياً ملايين الدولارات. أما شركتا الخليوي التي زعمت حينها وزارة الاتصالات عجزها عن دفع تكلفة لوازم تأسيس الشركة أكثر من 400 مليون ليرة سورية (تؤكد دراسات الجدوى الاقتصادية للعقود بعد مقارنتها بالخيار الأمثل لاستثمار الشركتين أن مقدار ما يضيع على الدولة خلال 15 عامًا يقدر بـ 400 مليار ليرة سورية، وفقًا لدراسة قدّمها النائب رياض سيف لمجلس الشعب). وقد باعت شركة سيريتل الخط الواحد بدءاً من ستين ألف ليرة، (1500 دولار) ثم بأربعين ألفا ليتدرج في النزول خلال عدة أشهر إلى عشرين ألفا، ثمَّ ليهوي إلى مستوى الشعب. ويذكر أن إقالة محمود الزعبي من رئاسة الوزارة في مارس/ آذار 2000، بسبب رفضه خيار الـ”B.O.T” (بحسب رياض سيف)، وجيء، من خلال اجتماع استثنائي للقيادة القطرية، حضره حافظ الأسد بمصطفى ميرو، وأن وزير الاتصالات آنذاك، رضوان مرتيني (الحزب الشيوعي/ جناح يوسف فيصل) وجد مخرجاً لنفسه ولحزبه، فسلَّم الملف لرئيس الوزراء الجديد، ومن هنا يمكن فهم انتحار الزعبي بعدة رصاصات في الرأس.
أما قسم الحاويات في مرفأ اللاذقية فقد استثمره رامي بتراب الفلوس، إذ لم يدفع إيجار المتر المربع الواحد سنوياً سوى 25 ليرة فقط. ناهيكم بشروط الشراكة التي تفرض على كل من يريد تأسيس شركة ما مقابل أعمال كالحماية مثلاً أو خدمات تافهة، ليست الشركة بحاجة إليها، أن يدفع جزءاً محدّداً من أرباح شركته لا يقل عن 25% أو مضايقات وعراقيل في وجه المستثمر. ويدخل في هذا الجانب (بحسب فراس طلاس في لقاء له على “R.T. ARABIC” أخيرا) نسبة 7% من كل عقد بيع، أي ما يعادل ما بين ستة ملايين دولار إلى سبعة ملايين يومياً (وهذا ما يفسره الشعب السوري بأن النفط لا يدخل في حساب الموازنة العامة للدولة). وعلى الرغم من ذلك و(بحسب فراس رفعت الأسد ابن عم بشار الأسد)، لم يكن رامي مخلوف أكثر من “طرطور” عند آل الأسد، وهذا يعني أن المال هو ملك رأس النظام، وما رامي إلا أجير عنده، ما يشير إلى اعتراف صريح من فراس بأنَّ الذي يحكم سورية هم (أوبة حرامية) لا أكثر!
ولعلَّ عبارة كارل ماركس عن أصحاب رؤوس الأموال تبرز في أوضح تجلياتها عند آل الأسد، إذ يرى “أن صاحب رأس المال يَكْذِبُ في حالِ ربحَ ألفاً، ويَسْرِق إذا ربح عشرة آلاف، ويَقْتُلُ إذا تجاوز ربحه مئة الألف..”. وتفسِّر هذه العبارة بدقة متناهية ردود فعل رأس النظام على الشعب السوري، حين هبَّ هذا الشعب محتجاً على تجاوزاته عام 2011، إذ خشي أن تنتقص سلطته، وإنْ قيد أنملة، فكان أن رفع شعار “الأسد أو نحرق البلد”، وهذا هو جوهر ما جرى، فلا إرهاب ولا ما يحزنون. وإذا كان ثمّة إرهاب، فقد نشأ في سياق تنفيذ ذلك الشعار الاستبدادي الـ “مافيوي” وما قابله من ردود أفعال لدى بعض المتطرّفين! وإذا كان من توصيف لما يجري أيضاً، فإن النظام الذي أخذ في التفسخ منذ ثمانينيات القرن الماضي وظلَّ في ازدياد حتى شارف على نهايته، يريد أقطابه النجاة بأنفسهم اليوم، ومن هنا لهاثهم المجنون خلف المال وصراعهم حوله ويبدو أنّ رامي مخلوف استطاع تهريبه خلال السنوات الماضية (بحسب ابن رفعت الأسد). أما الفائدة الرئيسية الوحيدة من كل ما حصل ويحصل فهي: أن من يحكم سورية منذ خمسين عاماً هي مافيات بكل معنى الكلمة.
للروس دور تحريضي كبير فيما جرى ويجري، إذ يعدّون أنفسهم من أنقذ بشار الأسد، وقد
غامروا بسياستهم وعسكرهم. صحيحٌ أنهم جرّبوا أسلحة، وعقدوا صفقاتٍ رابحة، وحصلوا على استثمارات ربما ما كانوا ليحلموا بشروطها المجحفة! لكنهم، في المقابل، يدركون أن لعنة السوريين سوف تظل تلاحقهم عقوداً، إنْ لم أقل قروناً طويلة، ثمّ إن المسألة السورية طالت، وكلفتها تزداد يوماً بعد يوم، وجاءهم وباء كورونا ليزيد من أوجاعهم الاقتصادية، وبشار الأسد غير مبال بهم، ولم يزل يلعب على حَبْلَيْ الروس والإيرانيين. لكن وقت الروس ضاق كثيراً، فقد أبرموا اتفاقاتٍ مع دول تربطهم بها مصالح، ولابد من الالتزام بها. ويعلن الأميركان، والغرب عموماً أنْ لا إعمار في سورية إنْ لم تحل المسألة السورية بما يرضي الأطراف كلها. إذاً لابد من الحل الذي ينتظره المجتمع الدولي، ولن يكون الحل إلا بإزاحة وريث مملكة الظلام الذي يصرُّ على البقاء منفرداً. ومن هنا، لا بد من أن يكون للروس قرارهم لتنفيذ اتفاقاتهم، والخلاص من المأزق الحرج الذي حشر فيه الجميع، ولعلَّ كثرة الانتقادات الروسية المهينة لرأس النظام، وما أشيع عن تسريباتهم إلى مخلوف، وما تقوله الوقائع السورية عن قرب انفجار شعبي سببه الانهيار الاقتصادي، وتدهور الوضع المعيشي وإذلال المواطن، إضافة إلى ما أحدثته السنوات التسع في نفوس السوريين وسلوكهم. وما نَشْرُ هذه الفضائح اليوم، وهذا الصراع في قلب الموالين أنفسهم، إلا واحدٌ من أشكال إضعاف رأس النظام وتعريته ما يمهد للتخلص منه، وهذا ما يلبي طموح الشعب السوري.
المصدر: العربي الجديد