د- عبد الناصر سكرية
يتساءل بعض العرب عن معنى وحدة المصير العربي متهكمين. وبعضهم الآخر يتهكم على من يتحدثون عن العروبة أو الأمة العربية. حتى راح بعضهم ينكر وجودها أصلا ويتنكر للعروبة باحثا عن هوية أخرى فيجد ضالته في تسميات طائفية أو عرقية أو مناطقية فيسميها هوية وينسب نفسه إليها.
البعض الآخر يتخذ موقفا انفعاليا غاضبا من تقصير النظم الحاكمة حيال القضايا العربية المشتركة؛ فيتنكر للعروبة محملا إياها مسؤولية الضعف والتردي والهوان الذي نحن فيه؛ ويخلط بين سلوك السلاطين ومعنى الهوية القومية الجامعة المشتركة ومقتضيات ترجمتها إلى وقائع.
حتى بعض من كانوا قوميين عربا؛ غادروا مواقعهم إلى انتماءات وولاءات أدنى انفعالا أو بحثا عن مصالح كانوا يحتاجونها فوجدوها في مكان آخر.
كثير من الشباب والأجيال الجديدة التي تتلقى تعليما وتثقيفا من مؤسسات أنظمة سايكس – بيكو الإقليمية؛ لا تعرف شيئا عن كل ما هو مشترك عربي.. لا في التاريخ ولا في الجغرافيا ولا في مجال المصالح الحيوية الإستراتيجية المشتركة. فتشكل وعيهم فقط على ضوء التثقيف الإقليمي القاصر الغبي المرتبط المرتهن للنفوذ الأجنبي والتوجيهات الأجنبية.. فلم تعد تعني لهم شيئا مصطلحات الأمن العربي المشترك او المصير العربي الواحد وانقطع كل اتصال عقلي فكري ثقافي بالأمة العربية ومكوناتها التاريخية..
ومنذ نهايات حقبة سبعينيات القرن العشرين ومع تراجع دور الدولة ذاتها وضمور ومؤسساتها تبعا لنهج مقصود متعمد من قبل سلطاتها الإقليمية لإضعاف كل ما هو عام يجمع لمصلحة كل ما هو خاص يفرق؛ كانت وسائل الإعلام ومتنوعاتها المستحدثة والمعتمدة على الشبكة العنكبوتية (الأنترنت) قد بدأت تتوسع وتنتشر بكثافة حتى أصبحت – بمفردها تقريبا – مصدر المعلومات والمعرفة والتثقيف والبرمجة العقلية. الأمر الذي أفقد الأجيال الجديدة في العقود الأخيرة المعرفة اللازمة للوعي بذاتها وشخصيتها التاريخية الحضارية الاعتبارية. فراحت تمارس وعيها المشوه الذي استقته من تلك المصادر الإعلامية المشبوهة؛ وتتخذ من المواقف ما ينسجم مع ذلك الوعي المضلل.
هنا التقت إستراتيجيات أنظمة الإقليمية العربية مع إستراتيجيات القوى المؤسسة لتلك الوسائل الإعلامية الساعية في استبعاد الوعي السليم الموزون بالهوية العربية والمتوازن بين هوياتها الوطنية ومشاعرها المحلية الفطرية الموضوعية. واستبداله بوعي مجتزأ مشون مضلل يكون سببا في تلك التقسيمات الجغرافية والانقسامات العرقية والمذهبية الانفصالية كما نشهدها اليوم؛ تطبيقا لأركان مشاريع استهداف الأمة العربية وتدمير مقومات وجودها ونهب مواردها جميعا واحتلال أرضها وإنسانها.
كل هذا في وقت تيتم فيه كل فكر عربي قومي وكل دعوة توحيدية؛ وتجري مطاردة فاعلة شرسة لكل ما هو وحدوي أو مشترك وكل ما يذكر أبناء العروبة بما يجمعهم من مشتركات. وحتى اللغة العربية لم تسلم من تلك المطاردة. فضلا عن تشويه خطير يطال الرموز الكبرى الجامعة من صلاح الدين إلى جمال عبد الناصر. ويدخل في إطارها تشويه التاريخ والتراث وكل ما يضيء ويدعو إلى الثقة ويحرض على التفاعل الجدلي الاجتماعي باعتباره وسيلة ناجعة لاكتشاف الذات ومعرفة مقومات المصير الواحد والوعي بما تتطلبه من جهود عملانية متضافرة لتحمل مسؤولياتها.
وهكذا يتصاعد العقل التقزيمي الانعزالي في السنوات الخمسين الماضية؛ ويشتد عود الدعوات الانفصالية التقسيمية بأنواعها المختلفة؛ في غياب أية مرجعية عربية ولو بمعناها التضامني المبسط؛ وتغييب كل مصادر الوعي القومي والمعرفة السليمة للذات والهوية العربية.
فكانت نتيجة تضافر هذه العوامل مجتمعة؛ ما وصلنا إليه حاليا من سيادة عصر صهيوني حيث يتسابق الكثيرون لخطب الود وطلب الحماية والتعاون ولو في السر والخفاء.. حتى تجاوز العدوان الصهيوني كل الحدود فأعلن عن دولته” اليهودية “وقراره بضم الأرض وتوسيع الرقعة حتى ” إسرائيل الكبرى “.. وهكذا وجدت الأقاليم نفسها – منفردة – تحت رحمة الحقد الصهيوني والصلف والأطماع التي ليس لها حدود ولا ترى للعرب وجودا في الأصل والأساس.. ووجد الجميع ذاتهم بمعناها الإقليمي الضيق والعربي الواسع في مهب رياح التوسع الصهيوني الذي لن يرحم أحدا ولا يحمل أصلا إلا خيارا واحدا وحيدا وهو الرضوخ وتسليم دولة ” إسرائيل ” قيادة المنطقة برمتها ورسم ملامح مستقبلها على ضوء الفكر التلمودي العنصري الذي يعرفه الجميع.. وهكذا عاد الجميع إلى نقطة الصفر:
كيف نحمي الأمن المستباح…؟؟!!!
ما الأمن العربي وما المصير العربي الواحد؟؟
لا يكاد يخلو بلد عربي واحد من تهديدات أمنية تضعف استقراره وتهز أركان بنيانه الإستراتيجية.. تشترك في ذلك البلدان الفقيرة والبلدان الغنية. البلدان الكبيرة وتلك الصغيرة. في المغرب كما في المشرق.. فيما حول فلسطين المحتلة أو فيما هو بعيد جغرافيا عن حدودها..
الجميع مهدد في أمنه. وفي رزقه. وفي موارده.. وفي مستوى معيشته. في حاضره وفي مستقبله أيضا. التدخلات الإقليمية والأجنبية تزداد. وتحولت في قسم مهم منها إلى احتلال مباشر أو احتلالات بالوكالة.. انقسامات مناطقية وعرقية وطائفية وأخطرها المذهبية والعرقية التي بدأت بتأسيس كيانات انفصالية معادية لمحيطها؛ متنكرة لتاريخها وهويتها العربية؛ متناغمة مع الكيان الصهيوني حتى تلك التي ترغي كثيرا بالعداء له.. جميعها تحت الحماية الأجنبية، سواء بطلبها هي أو رغما عنها. فالكل أصلا يحتاج الحماية الأجنبية بل نشأ وترعرع في كنفها وتحت ظلالها.. الجميع يخضع للابتزاز الدائم فيسود منهج التشبيح والتشليح..
لا يملكن أحد سلطة قرار.. أو إرادة استقلال. ولا يستطيع إن هو أراده.. لا يملك أحد مقدرة الحياة منعزلا.. منفصلا.. مستنزفا في عداوات مع أهل بلده ممن يجاوروه وكانوا معه يوما أبناء وطن واحد..
تدهور الجميع في نظام العولمة التي تجتاح العالم. ليس بمقدورهم منفردين الاستمرار في تلبية احتياجاتهم المحلية في مواجهة متطلبات العولمة المتفاقمة.. فلسطين حيث مقدساتهم الدينية مهددة بالتهويد الجاري والمتصاعد باستمرار..
ما العمل في ظل هذه الأخطار جميعها؛
كلام كثير عن أخطار وجودية عامة لن ترحم أحدا.. فما العمل؟؟هل في مقدور أحد منفردا التصدي لهذه المخاطر ؟؟هل بمقدور أحد أن يحمي ذاته؛ جماعة أو بلدا أو كيانا انفصاليا مستجدا؛ ويحمي شعبه ويؤمن متطلبات معيشتهم في رحاب مثل تلك التهديدات والتدخلات والمخاطر؟؟
سواء اتفق الجميع على نوع المخاطر والتهديدات ومصادرها ومداها؛ أم لم يتفقوا؛ فإنهم جميعا يتحدثون عنها ويشيرون إليها ويدفعون ثمنا باهظا حيالها؛ ولا يفلحون …
فلماذا لا يجربون، ولو مرة جدية واحدة، إستراتيجية للأمن العربي المشترك تترجم وحدة المصير العربي عمليا؟؟جميعهم موقعون حبيا على معاهدة الدفاع العربي المشترك؛ نصوصها واضحة وحيثياتها أيضا؛ فلماذا يتجاهلونها ويهدرونها دون مبرر جدي؟؟
كل عمليات التنمية والبناء والاستثمار في كل المجالات ما لم تكن محمية أمنيا فهي إلى ضياع لأنها ستكون دائما مهددة بالأطماع والتدخلات الإقليمية والأجنبية.. فهل يفكرون في حماية ما يبذلون ويبنون حتى ينمو ويستمر ويكبر ويتطور؟؟
تدل جميع الوقائع الراهنة في عموم البلاد العربية على وجود أزمة وجودية تتعلق بالمقدرة على حماية الذات الفردية والجمعية.. الجميع تائه لا يدري ماذا يفعل والجميع يبتعد عن الحل المضمون الواضح المجرب: المصير العربي الواحد.. وبالعودة إلى تجارب التاريخ العربي منذ آلاف السنين؛ فما من مرة تفرق ابناء هذه الأرض إلا وانهزموا.. وما من مرة انتصروا وتقدموا إلا وكانوا متحدين برؤية واحدة ومشروع واحد..
في كتابه الرائع ” أسس التقدم عند مفكري الإسلام والعرب “، يسهب المفكر الدكتور فهمي جدعان في استعراض محطات التاريخ التي تبين أنه لا يمكن التصدي لأي خطر خارجي أو إقليمي؛ إلا وفقا لقاعدة وحدة المصير العربي الذهبية…حتى لو لم يكن الخطر يطال الكل، وحتى لو كان تهديدا لجزء من الكل ولو صغيرا.. فلماذا الإصرار على إغفال حقائق التاريخ الثابتة والجنوح إلى مستنقع العزلة والفردانية الإقليمية القاصرة الضعيفة؟؟
لماذا نستضعف ذاتنا ونحن نملك كل مقومات الدولة العظمى التي تفرض ذاتها وتحمي مواردها وإنسانها فيهابها الجميع ويحسبون حسابها بل يتسابقون لودها ورضاها وليس العكس؟؟!!
المساحة الإجمالية للأرض العربية ضخمة ممتدة تبلغ حوالي خمسة عشر مليون كيلومتر مربع؛ مع الأراضي المحتلة منها من قبل تركيا وإيران.. ويقارب عدد سكانها النصف مليار إنسان. في بقعة هي قلب العالم الإستراتيجي. وبإمكانيات طبيعية وبشرية بالغة الثراء والتنوع.. فكيف لا تكون قوة موحدة تحمي ذاتها وما تبنيه لتنمو وتقوى وتتطور؟؟
إن أي تفكير علمي موضوعي لمواجهة الأخطار التي تهدد الكل معا والأجزاء واحدا واحدا. لا يمكن إلا أن يرى الحل المتاح والأوفر ماليا وبشريا والأبقى إستراتيجيا وهو: ترجمة المصير العربي إلى إستراتيجية عمل موحدة..
فهل في الوقائع الموضوعية ما يكذب هذا الحل ويدحضه؟؟ لن نناقش النوايا والخلفيات الغامضة المانعة ولا ما إذا كانت هناك مصالح فئوية تعرقل ولا تريد ذلك الاتجاه؛ يكفي أن نستعرض سريعا مقومات الكيان العربي المجزأ تاريخيا وجغرافيا؛ لندرك اشتراك الأجزاء جميعا في كل مقومات الحياة المشتركة والمصير الواحد. فمن أصل الجذور التاريخية الواحدة أو المتقاربة ؛ إلى الأصول الحضارية التاريخية المشتركة إلى الاشتراك في تاريخ سياسي وثقافي واقتصادي واجتماعي واحد منذ الف وخمسمئة سنة ؛ مرورا باللغة الواحدة ووحدة المنظومة الأخلاقية الإنسانية – الاجتماعية ؛ الى وحدة الجغرافيا السياسية والإستراتيجية ؛ وذلك الانسياب التكاملي الطبيعي في تضاريس التكوين والطبيعة والجغرافية المائية والبحرية والبرية – الجبلية الصحراوية ؛ يتفوق عليها جميعا ويغنيها ويرفدها ذلك التوافق النفساني الثقافي الأخلاقي العربي بين كل ابناء الأمة ..بين أبناء أي بلد وأبناء البلد الآخر..
جميعها مكونات تجمع وتوحد وتضم الجزء إلى الكل. أما إذا أضفنا إليها وحدة المصلحة الجيو سياسية الراهنة بحكم الوقائع العملية؛ يتأكد لنا أن لا مناص من بناء آليات عملانية لترجمة وحدة المصير العربي إلى برامج إستراتيجية تضم الطاقات إلى بعضها لتحمي ذاتها وتمتلك المقدرة على الاستمرار وضمان مكتسباتها ومستقبلها الواضح..
وعلى الرغم من كل الأفكار الإقليمية والمناهضة لوحدة المصير العربي؛ فإن أيا من تلك المدارس التي تتبناها؛ لا تجرؤ على نفي وحدة المصير العربي ولا على مناقشتها كخيار إستراتيجي متاح بديل عن كل الإستراتيجيات الجزئية الراهنة القاصرة..
إن أحدا لا يناقش هذه الفكرة بل يتجنبها جميع مناهضيها مما يدل على غياب الحجج الموضوعية التي تدعم أفكارهم ورؤيتهم الإقليمية؛ ويشكل اعترافا ضمنيا على صوابية فكرة وحدة المصير؛ فيلجؤون لا إلى دحضها في الواقع الموضوعي؛ بل إلى تخويف الأجزاء من بعضها وتأليبها على بعض باصطناع حساسيات عابرة ومصالح آنية متضاربة ذات خلفيات شخصانية أو فئوية لا تعبر عن ضمير الناس ولا عن مشاعرهم ومصالحهم الحقيقية. وفي أغلب الأحيان يستخدمون التهديد سلاحا لمنع التقارب والاقتراب من فكرة وحدة المصير وما تستلزمه وما تنتجه من وقائع تخدم الجميع. بل ومنع حتى الاقتراب من مجرد التفكير بها أو مناقشتها سلبا أو إيجابا. لإدراكهم أن أية مناقشة لها لا بد إلا أن تؤدي إلى نتائج في مصلحتها.. ولا يمتنعون حتى عن استخدام القوة بأنواعها الناعمة والغليظة؛ لدحر من يقترب منها مجرد اقتراب…
على أن الكثيرين يعارضون العروبة باسم وطنيتهم المحلية متنصلين من ارتباطهم بالعروبة بحجة حماية وطنيتهم.. وآخرون يظنون أن مجرد طرح فكرة العروبة والالتزام بها سوف يعني تعارضا وتضاربا مع وطنيتهم وما فيها من هموم ومشكلات. فيرفضون العروبة من مواقع الوطنية ظنا بوجود تناقض بينهما.. أو لعدم وجود الوقت الكافي والإمكانية العملية للاهتمام بالجانب العربي خارج حدود المشكلات الوطنية. فهل هما كذلك؟؟ وهل الالتزام بمقتضيات العروبة يأخذ من الاهتمامات الوطنية ولا يعطيها؟؟؟
أما الجانب الآخر الذي يتذرع به آخرون من أخصام العروبة ولو من مواقع العتب وحسن النية، فهو إشارتهم إلى ضعف تعبيرات العروبة عن نفسها إزاء المشكلات العربية القائمة في هذا البلد أو ذاك؛ مستشهدين بهذا الضعف التعبيري لنفي فكرة العروبة من أساسها ونكران وجودها في الواقع. وبعض آخر يتهم الإنسان العربي بالتشوه والتآكل وعدم الانتماء وانعدام الحس الوطني؛ لذات الأسباب.
إنهم يخلطون بين الحقيقة الموضوعية وبين إمكانية الناس في التعبير عنها أو تجسيدها عملانيا. فكلاهما مختلف عن الآخر. أما ضعف التعبير عن متطلبات الحقيقة أو حتى غياب التعبير الحي عنها؛ فله حيثيات أخرى ومتطلبات ينبغي توفيرها ليتجسد حركة فاعلة مؤثرة. تشبه أقنية تصريف المياه واستخدامها في الري حتى تكون مفيدة فلا تضيع هدرا.. فهل هي متاحة أمام الإنسان العربي ضمن معطيات واقعه الراهن؟؟ وهل يمكن توفيرها إن لم تكن موجودة؟؟