حسن فحص
على الرغم من ترحيب طهران الضمني بالدعوة التي أطلقها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى حوار إستراتيجي مع الحكومة العراقية لبحث مستقبل وجود القوات الأميركية في العراق، إلا أنها تتعامل مع هذا التطور بكثير من الحذر بشأن النتائج التي قد ينتهي إليها هذا الحوار والتداعيات التي قد يؤدي إليها والوقائع التي سيكرسها، وأن تكون على العكس مما تتوقع وترغب، لما سيترتب عليه من حقائق وتبعات طويلة الأمد، ولأن هذا الحوار سيحدد نوع ومستوى العلاقات الأميركية العراقية في المرحلة المقبلة.
الإطار العام الذي حدده بومبيو لهذا الحوار الذي من المفترض أن ينطلق في منتصف يونيو (حزيران) المقبل، بقيادة مساعده للشؤون السياسية ديفيد هيل، يأتي من بوابة الدور الإيجابي والمساعد لواشنطن في العراق والصديق الأقرب لهذا البلد، على أن يشمل الوجود الأميركي العسكري والدفاع عن استقلال وسيادة العراق. وهو الأمر الذي يشكل مصدر الحذر والقلق الإيراني، خصوصاً ما يتعلق بأبعاد التعاون العسكري والأمني والاقتصادي والثقافي والسياسي الذي ستضعه الإدارة الأميركية على طاولة التفاوض مع الجانب العراقي.
وقد زاد من منسوب هذا الحذر والقلق لدى طهران، المواقف والرهانات السياسية لبعض القوى السياسية العراقية على الحوار وما يمكن أن يؤسس له من مسار جديد داخل السلطة العراقية في التعامل مع الحضور والنفوذ الإيراني في البلاد، في ظل صمت رسمي حول أبعاد هذا الحوار، الذي من المفترض أن تستغله بغداد لتكريس التعاون الإستراتيجي مع واشنطن في مجالات التنسيق العسكري والأمني وتدريب الجيش العراقي وتسليحه وحجم الاستثمارات التي ستقوم بها الولايات المتحدة لإخراج العراق من دائرة الانهيار الاقتصادي، وما يعينه ذلك من شروط أميركية تتعلق بمستقبل العلاقة بين بغداد وطهران.
ومنسوب القلق والحذر الإيراني من الساحة العراقية وتطوراتها وما يتعلق بالحوار المرتقب مع إدارة البيت الأبيض، ازداد بعدما اضطرت طهران لتمرير الحكومة برئاسة مصطفى الكاظمي، خصوصاً بعد التطور الدراماتيكي الذي رافق عملية اغتيال الجنرال قاسم سليماني، بالإضافة إلى الخطوات السريعة التي يلجأ إليها الكاظمي بعيداً عن التنسيق مع طهران، خلافاً لما كان سائداً مع رئيس الحكومة السابق المستقيل عادل عبد المهدي. كما أن الإعلان عن هذا الحوار جاء بالتزامن مع الزيارة التي قام بها وزير المالية علي علاوي إلى السعودية والنجاح الذي رافقها والذي ترجمته المواقف الإيجابية والمشجعة للقيادة السعودية في التعامل مع الحاجات العراقية واستعدادها لفتح صفحة جديدة من العلاقة بين الرياض وبغداد في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والمالية، بما يخدم سيادة واستقلال العراق وتعزيز مؤسسات الدولة.
الإشارات التي تلقتها طهران من العزم الجدي لدى الرياض في تقديم يد العون إلى الحكومة العراقية في المدى المنظور والسريع والتي تتعلق بتسهيل حصول بغداد على قرض مالي يساعدها في الخروج من أزمة تأمين رواتب قطاع الموظفين، أثارت مخاوفها من تطور الأمور إلى ما هو أسوأ، خصوصاً أنها عاجزة عن تلبية الحاجات العراقية المباشرة لمواجهة التهديدات الاقتصادية التي تنذر بإمكانية انهيار الدولة، نتيجة العجز الكبير الذي تعانيه في الوضع الاقتصادي والإرث المالي الذي ورثته حكومة الكاظمي من عبد المهدي والخزينة الخاوية التي استلمها. فضلاً عن إعلان الرياض استعدادها تنفيذ عملية الربط الكهربائي بين البلدين بأسعار أقل من الأسعار التي تدفعها لطهران مقابل خطوط الجر التي تربط البصرة وديالى وكردستان بالشبكة الإيرانية، إضافة إلى تزويدها بالغاز لتشغيل محطات التوليد بدلاً عن الغاز الإيراني. إذ تعتبر طهران أنه يصب في إطار يخدم المشروع الأميركي في حرمانها من أي مصادر مالية تطبيقاً للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترمب ضدها. وأن هذا الموضوع سيكون في صلب الحوار الإستراتيجي الأميركي العراقي في ظل تأكيد أميركي بأن الإعفاءات التي منحت لحكومة بغداد لشراء الكهرباء والغاز الإيرانيين والتي تم تمديدها لثلاثة أشهر ستكون الأخيرة، وأن على العراق الالتزام بعدها بقرار العقوبات الأميركية.
وتتخوف طهران من أن تستغل واشنطن الأزمات العراقية المتعددة والمتشعبة التي ورثها الكاظمي، والتي تعتبرها بعض القوى العراقية نتيجة لسياسات إيران في العراق ودعمها وصول عبد المهدي وأدائه، في سياق سعي الولايات المتحدة إلى فرض شروطها على حكومة الكاظمي، التي ستكون في موقع الضعف في هذه المفاوضات، ما يضع طهران في مواجهة تداعيات هذه الشروط والخوف من عدم تطبيق ما سعت إلى تمريره عبر القانون الذي أقره البرلمان العراقي في يناير (كانون الثاني) 2020، والذي يلزم الحكومة ببحث آليات خروج القوات الأميركية، وأن ينتهي هذا الحوار وتحت العناوين العامة التي ستشكل محاور التفاوض مدخلاً للالتفاف على موقف البرلمان الذي تراهن طهران كثيراً عليه في ظل عدم رغبتها وحذرها من الدخول في مواجهة عسكرية وعدم اطمئنانها لموقف حلفائها على الساحة العراقية أو قدرتهم على تولي مهمة الدخول في مواجهة عسكرية مع القوات الأميركية المنتشرة في العراق، ما يسهل عملية تحويل أي اتفاقية تعاون إستراتيجي في العناوين السابقة إلى مدخل لتكريس استمرار الوجود الأميركي العسكري على مقربة من الحدود الإيرانية.
وتبدو طهران شبه متأكدة بأن الإدارة الأميركية ستضع مسألة الحشد الشعبي والفصائل الموالية لإيران على طاولة التفاوض والمباحثات، خصوصاً أن واشنطن تتهم هذه الفصائل غير الخاضعة لسلطة هيئة الحشد الرسمية برفع وتيرة اعتداءاتها على القوات والمصالح الأميركية بعد الإعلان عن هذه المفاوضات. وقد عزز ذلك أن هذه التطورات جاءت بالتزامن مع الخطوة المقلقة التي قام بها الكاظمي بزيارة قيادة هيئة الحشد الشعبي والقرار الذي اتخذه في تفعيل القانون الذي ينظم هذه القوات في الإطار الرسمي تحت سلطة القائد الأعلى للقوات المسلحة، في الوقت الذي أكد إصراره على تطبيق القانون ومبدأ “حصرية السلاح بيد الدولة”، التي فهمتها طهران بأنها محاولة للفصل بين القوات الرسمية القانونية وسحب الغطاء عن القوى الأخرى، ما يمهد لاعتبارها خارجة عن القانون ويمنح الحكومة وقواتها الأمنية شرعية التصدي لها ومواجهتها.
يبدو أن الخطوات الأميركية باتجاه تعزيز التعاون مع الحكومة العراقية الجديدة باتت تشكل مصدر قلق حقيقي لمشاريع إيران في العراق والمنطقة، انطلاقاً من أن واشنطن تسعى إلى تعويض تراجع دورها في هذا البلد بعد قرار الانسحاب عام 2011، وأنها تسعى إلى الحفاظ على نفوذها ودورها في العراق وتعزيزه حتى وإن ترافق مع خفض حضورها العسكري، وأن الحوار الإستراتيجي المرتقب سيدور حول هذا المحور الذي يستهدف الدور والنفوذ الإيراني بالدرجة الأولى لإخراج العراق من ظل الهيمنة الإيرانية.
المصدر: اندبندنت عربية