عبد الباسط حمودة
العديد من تدابير الطوارئ قصيرة الأجل، كما يحصل الآن، ستتحول إلى عناصر ثابتة في حياتنا، تلكم طبيعة حالات الطوارئ، فتقديم العمليات التاريخية يتم بسرعة مذهلة، والقرارات التي يستغرق إقرارها سنوات من المداولات في الأوقات العادية يتم تمريرها الآن في غضون ساعات، إذ يتم استخدام التقنيات غير الناضجة وحتى الخطرة هذه الأيام لأن مخاطر عدم القيام بها سيجعل الضرر أكبر.
فماذا يحدث عندما نعمل جميعاً من المنزل ونتواصل عن بعد فقط؟ ماذا يحدث عندما تتصل المدارس والجامعات بأكملها بالإنترنت؟ ففي الأوقات العادية، لن توافق الحكومات والشركات والمجالس التعليمية على إجراء مثل هذه التجارب. لكن هذه الأوقات ليست عادية، إذ يبدو أن الحجر الصحي سيستمر دهوراً، أو كما لو أنه يتحوّل إلى قاعدة في التعامل البشري تأخذ صفة الديمومة. لقد باغت الفيروس التوقّع والمتوقّعين، كالإرهاب تماماً، واستفاد في انتشاره وسفره ممّا توفّر من أسباب اختلاط وتنقّل وترحال بين القارات ليصبح جائحة.
الفيروسات تحوّلت الى جائحات خارج السيطرة أو الضبط أو القدرة على التوقّع في القرن الأخير بأكمله مع السيطرة على أغلبها، قبل أن يصل ’’ كورونا” من ذاك السوق الصيني حيث مأكل اللحوم الحيوانية يبلغ أقصى احتمالاته. سافر ’’ كورونا‘‘إذاً على متن طائرات الحداثة وسفنها وسياحتها ومؤتمراتها، وانتقل من الصين حيث قُمِع الأطبّاء المُنبّهون منه بدايةً الى محيطها المباشر، قبل أن يبلغ معاقل الحداثة الغربية، في أوروبا وأميركا الشمالية. إنه داهم مجتمعات ظنّت أنها دجّنت المخاطر الكبرى وقضت على الأوبئة وأحالتها حكراً على دول فقيرة أو محدودة القدرات بالتوقّع والتخطيط واليقينيات العلميِة، وزعزع ثقتها بنفسها وبنُظمها وبانتظام يوميّاتها.
فلأول مرة في تاريخ البشرية، تتيح التكنولوجيا مراقبة الجميع طوال الوقت. وبذلك يكون امتثال السكان لمبادئ توجيهية معينة، مع مراقبة ذلك كأنه ضرورة لوقف هذا الوباء !
في معركتها ضد وباء ’’كورونا‘‘، استخدمت عدة حكومات بالفعل أدوات مراقبة جديدة، أبرزها هو ما حدث في الصين. لقد تمت مراقبة جميع الهواتف الذكية للمواطنين عن كثب، وتم تشغيل مئات الملايين من كاميرات التعرف على الوجه، وإلزام الأشخاص بفحص درجة حرارة أجسادهم وحالتهم الطبية والإبلاغ عنها، فالسلطات الصينية لم تحدد بسرعة حاملي ’’كورونا‘‘ المشتبه بهم فحسب، بل أيضاً تتبع تحركاتهم والتعرف على جميع الأشخاص الذين يتصلون بهم، كما وتحذر مجموعة تطبيقات الهاتف المحمول المواطنين من التقرب إلى المرضى المصابين.
ما يحدث ليس جديداً كلياً. الجديد فيه هو التقدّم الهائل في تقنياته لتتبع ومراقبة ومعالجة بيانات الناس. فما يحدث هو تغير في إحداثيات الغد؛ ذلك أن هذا الوباء قد يُمثل فاصلاً هاماً في تاريخ المراقبة، ليس فقط لأنه سيُسهم في قبول ونشر أدوات المراقبة الجماعية في البلدان التي رفضتها حتى الآن، ولكن أكثر من ذلك، لأنه يشير إلى انتقال كبير في نوعية المراقبة. إنه انتقالها من ’’فوق الجلد‘‘ إلى ’’تحت الجلد‘‘.
عندما تلمس بإصبعك شاشة هاتفك الذكي وتنقر على رابط معين، أرادت السلطات منك أن تنقر عليه، فمع الإجراءات ضد ’’كورونا‘‘ يتحول الاهتمام إلى جهة أخرى، فالسلطات تريد الآن معرفة درجة حرارة إصبعك وضغط الدم ’’تحت الجلد‘‘.. وهكذا سيبقى الإنسان مشحوناً بالخوف، الخوف من تلك العين اللا مرئية التي تجعل من الإنسان كائناً مرئياً لعدساتها. ستجعله كائناً تحت سطوة رقابتها، وستُلزمه بالخضوع لرقابتها، بل ستلزمه بشكرها على أنه تحت تلك الرقابة، فإحدى المشاكل التي نواجهها حول المراقبة هي أنه لا أحد منا يعرف بالضبط كيف تتم مراقبتنا، وما ستجلبه لنا السنوات القادمة! إن تكنولوجيا المراقبة تتطور بسرعة فائقة، وما بدا أنه خيال علمي قبل عدة سنوات أصبح أخباراً قديمة هذه الأيام؛ فلو افترضنا أن حكومة افتراضية تطالب بأن يرتدي كل مواطن سواراً بيولوجياً يراقب درجة حرارة الجسم ومعدل ضربات القلب على مدار الساعة، فسيتم تجميع البيانات الناتجة وتحليلها بواسطة خوارزميات حكومية، لتجد الخوارزميات أنك مريض حتى قبل أن تعرف أنت، وستعرف أيضاً أين كنت، ومن قابلت. كما يمكن معها تقصير سلاسل العدوى بشكل كبير، وحتى قطعها تماماً؛ هذا النظام قد يوقف الوباء في غضون أيام. هذا الأمر يبدو رائعاً، أليس كذلك؟
إن عالم الغد، سيغدو عالماً تحت سطوة المراقبة، مراقبة لن تسمح لمواطنيه بأن يخرجوا من إساره. عالمٌ يُحصي أنفاسهم، وتحت ما يمكن تسميته بالمراقبة الدستورية المشروعة.
سيكون العالم تحت وطأة نظام مراقبة مُرعب. فهل تعلم، أنك إن نقرت على رابط بدلاً من رابط وأنت تشاهد فيديو مثلاً، فيمكن أن يعلمّك شيئاً عن آرائك السياسية وربما حتى شخصيتك، ولكن إذا تمكنت من مراقبة ما يحدث لدرجة حرارة جسدك وضغط الدم ومعدل ضربات القلب أثناء مشاهدة الفيديو، يمكن معرفة ما يجعلك تضحك، وما الذي يجعلك تبكي، وما يجعلك غاضباً حقاً. علماً أن الغضب والفرح والملل والحب هي ظواهر بيولوجية مثل الحمى والسعال، ويمكن للتكنولوجيا نفسها التي تحدد السعال أن تحدد الضحكات أيضاً.
سيكون ذلك حال أن تبدأ الشركات والحكومات في جمع بياناتنا البيو مترية بشكل جماعي، فيمكنهم التعرف علينا بشكل أفضل بكثير مما نعرف أنفسنا، ومن ثم لا يمكنهم فقط التنبؤ بمشاعرنا بل التلاعب بها وبأوهامنا، وبيعنا أي شيءٍ يريدونه، سواءٌ كان ذلك منتجاً تجارياً أو سياسياً.
حتى عندما تنخفض الإصابة بـ ’’كورونا‘‘ إلى الصفر، يمكن لبعض الحكومات المتعطشة للبيانات أن تجادل بأنها بحاجة إلى إبقاء أنظمة المراقبة البيومترية في مكانها لأنها تخشى حدوث موجة ثانية من ’’كورونا‘‘، أو لأن هناك، سلالة جديدة من فيروس ’’إيبولا‘‘ تتطور في وسط أفريقيا،الخ.
كانت هناك معركة كبيرة تدور رحاها في السنوات الأخيرة حول خصوصياتنا، يمكن أن تكون أزمة ’’كورونا‘‘ نقطة التحول في المعركة، فعندما يُتاح للأشخاص الاختيار بين الخصوصية والصحة، فإنهم عادة ما يختارون الصحة .
إذاً، عليك أن تتسمر مقابل الشاشات التي تتناقل أخبار الفايروس. عليك أن تبقى مرعوباً خائفاً، محاطاً بالمجهول، طالما ليس لك ما للقنفذ من أشواك تغطي جسدك، فلتغطي جسدك بالأوهام. ولا تنسى أن تغسل يديك بالماء والصابون، مع أن الصابون قد اخترع قبل خمسة آلاف عام من ظهور الفايروس.
ولكن لتحقيق مثل هذا المستوى من الامتثال والتعاون، فأنت بحاجة إلى الثقة؛ يحتاج الناس إلى الثقة بالعلم، والثقة بالسلطات العامة، والثقة بوسائل الإعلام، فهل هذه الثقة متوفرة في بلداننا العربية؟!
على مدى السنوات الماضية، قوض السياسيون غير المسؤولين عمداً الثقة في العلوم والسلطات العامة ووسائل الإعلام، والآن يميل هؤلاء إلى السير في الطريق السريع نحو الاستبداد بشكل أشد مما كانوا، بحجة أنه لا يمكنك الوثوق في الجمهور لفعل الشيء الصحيح. فعندما يتحدث الناس عن المراقبة، فإن نفس تكنولوجيا المراقبة يمكن استخدامها عادة ليس فقط من قبل الحكومات لمراقبة الأفراد، ولكن أيضاً من قبل الأفراد لمراقبة الحكومات. وبالتالي فإن وباء ’’كورونا‘‘ هو اختبار رئيسي للمواطنة، فكلٌ منا يجب أن يعطي الثقة في البيانات العلمية وخبراء الرعاية الصحية بشأن نظريات المؤامرة التي لا أساس لها والسياسيين الذين يخدمون أنفسهم.
فمن أجل هزيمة الفيروس، نحتاج لمشاركة المعلومات عالمياً، هذه هي الميزة الكبيرة للبشر على الفيروسات، فلا يمكن للفيروس في الصين والفيروس في أميركا تبادل النصائح حول كيفية إصابة البشر، ولكن يُمكن للصين أن تُعلم أميركا العديد من الدروس القيمة حول الفيروس وكيفية التعامل معه.
كما يمكن للسوريين الأحرار الإفادة من مشاركة المعلومات وصولاً لوحدة موقف وإرادة جادة للتخلص من الهمجية المزمنة لجائحة ’’كورونا‘‘ الأسد. فما بين المعرفة والعمل روابط وثيقة، فلا يكون العمل إنسانياً خالصاً إن لم يأت نتيجة معرفة واسعة تستوعب الأسباب الدقيقة، ونتيجة حرية اختيار ترتفع على أسس هذه المعرفة؛ وبذلك تكون المعرفة والحرية شرطي العمل الإنساني القويم. فثمة فارق بين المشاركة والاشتراك؛ إن المشاركة لا تكون إلا في عمل يحتاج إلى إنجاز، بالتعاون مع أخريات وآخرين، أو في اتخاذ قرار، بالتشاور والنقاش والحوار، أما الاشتراك فلا يكون إلا في أمر مُنجَز أو مؤسسة قائمة. لذلك نفرِّق بين المشاركة، التي تؤسس المواطنة المتساوية، وبين الاشتراك السلبي أو الهامد، الذي تبنى عليه مقولة ’’العيش المشترك‘‘، التي يتلمظ بها زعماء الطوائف والعشائر والاثنيات، والتي تنفي استقلال الأفراد وحريتهم، وتهدر إنسانيتهم، وتفترض أنهم كالأنعام، التي ’’تتمتع‘‘ بالعيش المشترك في مراعيها ، في كنف الرُعاة ورعايتهم.
المصدر: اشراق