بسام شلبي
عندما قامت حركة ٨ آذار/مارس 1063 وتمكنت النخبة العسكرية من السيطرة على الحكم تحت غطاء حزب البعث، وفرضت حالة طوارئ عامة مكنتها من القيام بإجراءات استثنائية من العزل السياسي والمصادرات المالية والإجراءات الاقتصادية التي كان المتضرر الأساسي منها طبقة التجار والصناعيين في المدن الكبرى (دمشق، حلب، حمص) وهي فعليًا التي كانت مسيطرة على أهم مفاصل السلطة السياسية والاقتصادية. حيث إنها من تحملت وقامت بأعباء إنشاء نظام الحكم في الجمهورية بعد الاستقلال، وقد قامت بدور وطني كبير، لكنها لم تمتلك القدرة -بحكم تكوينها التاريخي- على التكيف مع مرحلة صعود الحركات الشعبية واليسارية وتصدر النخب العسكرية التي كانت تجتاح العالم الثالث قاطبة منذ أواسط الخمسينات مما أدى إلى سقوطها وانكفائها بسهولة.
بعد أشهر من الانشغال بتثبيت دعائم السلطة في تصفية الخصوم في الجيش والساحة السياسية، كان لابد من أن تطرح المسألة الاقتصادية نفسها بقوة، بالأخص أن النخبة العسكرية المتوارية خلف الستار حتى ذلك الحين لم يكن لديها رؤية لإدارة اقتصاد دولة بحجم سورية، وكذلك حزب البعث الذي أرادوه كأداة تنفيذية لم تكن رؤيته واضحة ومتباينة بين يمين كان يمثله آنذاك صلاح الدين البيطار ويسار كان قد أسسه أكرم الحوراني، لكن بعد استبعاده من المشهد بدأ يتمحور حول صلاح جديد الذي قام بحركة انقلابية في شباط ١٩٦٦ وجلب حكومة يسارية برئاسة يوسف زعين ونائبه ابراهيم ماخوس ووزير الاصلاح الزراعي عبد الكريم الجندي.
وكانت فترة حكمها هي الأقسى بالنسبة لشريحة كبار الملاك العقاريين ‘من أراض زراعية أو عقارات تجارية وسكنية’ ولشريحة التجار والصناعيين من العائلات التي لم تكن منخرطة في السياسة بشكل مباشر أو لم تكن في الصف الأول للسلطة حيث إن تلك الفئة قد تم تصفيتها تمامًا من قبل النظام العسكري بمصادرة أملاكها وتشريد أفرادها او اعتقالهم وملاحقتهم.
ولكن أيضًا في تلك المرحلة كانت قد نشأت أول قناة بين شريحة التجار -المستاءة بصمت- والنظام الجديد عن طريق بدر الدين الشلاح الذي كان يلقب بشهبندر التجار حيث استطاع بناء علاقة خاصة مع حافظ الأسد الذي كان وزيرًا للدفاع منذ لقائه معه في نيسان ١٩٦٤ عندما لعب دور الوسيط لإثناء تجار دمشق عن دعوة الإضراب احتجاجًا على مجزرة حماة الأولى، وقد نجح في ذلك مما اكسبه ثقة الطرفين.
وبعد انقلاب حافظ 1970واستئثاره بالسلطة ورغبته في إجراء تعديلات في مسارات الحكم كان للشلاح الدور الأكبر في صياغة المعادلة بين التجار والنظام الجديد.
وحيث إن النظام الذي أرساه حافظ كان من أكثر أنظمة العالم غموضًا وتعتيمًا وكمًا للأفواه وتجفيفًا لمصادر المعلومات. حتى صدق عليه لقب ‘مملكة الصمت’ وفي ظل ذلك فإنه من الصعب القول بأننا نستند إلى مصادر موثوقة للمعلومات سوى منقولات شفهية متكررة وشذرات من هنا وهناك أو مفاتيح بين السطور من المؤلفات القليلة، أهمها كتاب باتريك سيل الجزء الثاني الذي كان ممنوعًا من التداول في سورية ومذكرات بدر الدين الشلاح التي طبعها بشكل غير رسمي ووزعها بشكل شخصي. ولكن من خلالها يمكن أن نتكهن بالخطوط الرئيسية لتلك المعادلة وهي:
١- إيقاف الإجراءات التعسفية بحق التجار والصناعيين.
٢- تحديد وتوسيع طفيف للمجالات المسموح بها للقطاع الخاص بالحركة والنشاط بأمان.
٣-عدم السماح بالعمل التجاري أو الصناعي الجماعي أو في تكتلات أو شركات كبيرة أو متعددة النشاطات. وقد منحت حريات وتسهيلات لعمل التجار بشكل فردي ضمن الحدود المسموحة أو ربما مع شريك أو عدد قليل من الشركاء، في حين تم مقاومة وإفشال أية محاولة للعمل الجماعي أو التكتلات الاقتصادية أو التجارية.
٤- عدم السماح بالتدخل في السياسة أو العمل السياسي في أي حزب أو جمعية أو تجمع حتى حزب البعث نفسه وهو الذي سعى إلى الهيمنة على كل فئات المجتمع فإنه لم يسع إلى ضمهم. وكان نظام حافظ صارمًا في هذه النقطة، فكل من حاول تجاوز الخطوط المسموحة تم سحقه بلا رحمة.
٥-على كل رجل أعمال ‘من كبار التجار أو الصناعيين’ أن يرتبط بأحد عناصر السلطة الحاكمة إما بالشركة أو المحاصصة أو الخوة. وهذا الأمر سرعان ما أصبح معلومًا لكل من عمل في سورية سواء من التجار المحليين أو العرب أو حتى الأجانب بأنه لا يمكن العمل في السوق السوري دون وجود هذا الضامن من الشخصيات القوية في النظام والتي كانت في السبعينات من الشخصيات السياسية أو العسكرية ثم مالت الكفة لصالح ضباط الأمن والمخابرات في الثمانينات.
إن هذا الاقتران الإجباري قد خلق جوًا مرضيًا من الناحية الاقتصادية، حيث غياب المنافسة والفرص المتكافئة. جعل بعض التجار والصناعيين يصعدون بشكل سريع مع صعود وتمكن القرين السلطوي، ويخبون أو يأفلون بغيابه أو استبعاده من المشهد دون أية أسباب متعلقة بالإدارة أو الاقتصاد والتجارة.
وأبرز الأمثلة هنا مجموعة التجار ورجال الأعمال اللذين كانوا مقترنين مع رفعت الأسد اللذين برزوا أثناء صعوده الصاروخي بين ١٩٧٩ حتى ١٩٨٤ واختفوا أو خرجوا إثر طرده من سورية مثل نذير هدايا ومحمد وفيق عرنوس وآخرين.
خلال الفترة الممتدة من ١٩٧٠ حتى ١٩٩٠ بقيت هذه العلاقة بين السلطة والتجار رغم الشكوك المتبادلة والعلاقة الباردة المتذبذبة العواطف محافظة على توازنها القلق ما بين مد وجزر حسب الظروف السياسية المحيطة الخارجية والداخلية، وحافظت على قواعد اللعب بشكل عام مع بعض الضربات تحت الحزام أحيانًا.
ولكن على التوازي مع ذلك كان هناك خط آخر يفتحه رجال السلطة بمفردهم يمكنهم من مراكمة ثروات وأموال طائلة داخل وخارج سورية من خلال استغلال مواقعهم أو سلطتهم أو صلات قرابتهم.. لتحقيق ذلك.
وربما السمة الأهم التي اتسمت بها مرحلة حافظ بأنه لم يتمكن أحد أركان السلطة في عهده من الاستفادة أو الاكتساب إلا بالطرق غير المشروعة من الفساد المالي أو الاداري (اختلاس مباشر، صفقات غير مشروعة، الاستيلاء على أراضي واملاك الدولة بشكل غير شرعي، التهريب. إضافة للسمسرات والخوات) وقد كان ذلك ركنًا أساسيًا في سياسة السيطرة والتحكم التي اتبعها في غض النظر من جهة وتجميع الوثائق والملفات من جهة أخرى، وهي التي جعلته قادرًا على القضاء المبرم على أي منهم في لمح البصر. وقد ظهر هذا واضحًا عند انشقاق عبد الحليم خدام، حيث ظهرت الملفات المخفية خلال ساعات، مما يؤكد أنها كانت جاهزة تحت الطلب.
أما ثروة القصر في هذه المرحلة فقد اعتمدت على ثلاث موارد رئيسية خارج إطار الرقابة وهي (المساعدات الخارجية، صفقات السلاح، النفط) وجميعها كانت سرية ومحمية بحجة الأمن القومي وغير مدرجة في الموازنة ومرتبطة برأس النظام مباشرة دون حسيب أو رقيب.
فرغم أن التعاقدات مع الشركات النفطية الأجنبية كان مفروضًا أن تعرض على مجلس الشعب فقد مررت دون ذلك ولم يعلم عن تفاصيلها سوى قلة من الموثوقين المرتبطين بالقصر مباشرة ولم تدرج في الموازنة ولم يعلم الشعب السوري شيئًا عنها حتى بدأت بعد أمد التسريبات من الصحافة الأجنبية وبدأ الحديث حوله يتداول في الشارع السوري فتم إخراج المسرحية المشهورة التي أوكل فيها لأحد أعضاء مجلس الشعب دور السؤال عن أموال النفط وليجيبه فورًا رئيس المجلس بأن أموال النفط في أيدي أمينة، ويتم نقل الحوار عبر التلفزيون الرسمي مباشرة لتكون الرسالة واضحة للشعب السوري بأن هذا موضوع متعلق برأس النظام مباشرة ومن يمسه فإنه يمس قداسته بما لذلك من عواقب.
النظام السوري والعلاقة المتذبذبة مع التجار
في أواخر الثمانينات هبت عاصفة التغيير في أوربا الشرقية وسقط جدار برلين وانفرط عقد الاتحاد السوفياتي. فاستشعر النظام بالخطر ثم استشف ضرورة التغيير وجاء خطاب رأس النظام في ٨ آذار ١٩٩٠ بوعود كبيرة بالتغيير والانفتاح وتبعها إعطاء مساحات من الحرية في الصحافة الرسمية وسمح في انتخابات مجلس الشعب في صيف ١٩٩٠ بترشيح قوائم مستقلين إلى جانب قائمة الجبهة الوطنية. وتم فتح حوار مع النقابات وفئات المجتمع وأهمها التجار والصناعيين أفضت إلى إصدار قانون الاستثمار رقم (١٠) لعام ١٩٩١ والذي قيل إن غرفة تجارة دمشق ورئيسها راتب بدر الدين الشلاح قد لعبوا دورًا مهمًا في صياغته وقد فتح مجالات واسعة للاستثمار وتشكيل الشركات. كما دخل إلى مجلس الشعب بعض الممثلين عن شريحة التجار مثل إحسان سنقر ومأمون الحمصي ورياض سيف.
وساد جو من التفاؤل والأمل في حدوث تغيير سلمي تدريجي في بنية وسلوك النظام، ولكن هذا الأمل سرعان ما تلاشى بعد أن اطمأن النظام أن الإرادة الغربية والأميركية خصوصًا لا تسعى إلى إسقاط الأنظمة العربية على غرار ما حدث في أوربا الشرقية، بالأخص بعد أن أدى دورًا مرسومًا في خدمة التحالف الأميركي الذي دمر العراق بحجة تحرير الكويت، فسرعان ما تراجع هامش الحرية الضيق أصلًا، وتم التلكؤ في الاصلاح الاداري والسياسي الذي اكتفى بتوسيع شكلي للجبهة الوطنية، وآل الانفتاح الاقتصادي لمصلحة أولاد المسؤولين دون غيرهم، وظهروا للعمل في العلن لأول مرة. وبرز في تلك المرحلة كلا من ‘علاء شفيق فياض، فراس طلاس، جمال خدام، مفلح الزعبي..’ فأسسوا الشركات بأسمائهم وامتلكوا العقارات وافتتحوا المطاعم والملاهي والمنتزهات السياحية. مع استمرار بعض القوى المتنفذة بالعمل وفق الطريقة القديمة بالاستثمار عن طريق واجهات مع بقائهم خلف الستار، ربما أبرزهم اللواء ابراهيم حويجي الذي اعتمد صديق ابنه الشاب الدمشقي محمد حمشو للقيام بأعماله التجارية وصفقاته المشبوهة والمقاولات المرتبة مسبقًا. وقد ذكرنا هذا الاسم تحديدًا لأنه من القلة اللذين انتقلوا إلى المرحلة الثالثة بعد اقترانه بالجيل الثاني في رأس السلطة.
ظهر المشهد جليًا لشريحة التجار الدمشقيين والحلبيين وغيرهم حيث أنه في هذه المرحلة قد دخل العديد من التجار اللذين أثروا في دول الخليج أو خلال طفرة أوربا الشرقية وتجار من باقي المحافظات قد أثرو خلال عقدين بطرق مشروعة أو غير مشروعة. فلم يعد هناك شريحة متجانسة من حيث الانتماء المكاني أو العائلي.
وقد تأكد للجميع -بالأخص من عادوا من الخارج للعمل في سورية بنية صادقة- أنه لا يوجد انفتاح ولا جو ملائم للمنافسة الشريفة أو الفرص المتكافئة حتى في حدها الأدنى ولا حرية صحافة ولا استقلال أو نزاهة في القضاء.
أما التعليمات التنفيذية والقوانين الجديدة فكانت تُفصل على مقاس رجال السلطة ولمصلحتهم بغض النظر عن المصلحة العامة، ولعل أبرز مثال هنا هو القانون الخاص بالاستثمار السياحي والذي اعتبر كمكمل لقانون الاستثمار رقم ١٠ والذي تبين أنه مفصل على مقاس محمد مخلوف مدير البنك العقاري آنذاك وهو المخول بمنح القروض الخاصة بالاستثمار السياحي وهذا ما مكنه من الاستفادة بمبالغ قدرت بعشرة مليارات ليرة سورية كانت تعادل مئتي مليون دولار.
لم يكن معظم رجال الأعمال اللذين قدموا من الخارج على تصور واضح لحجم الفساد والتغول السلطوي وشبكات الابتزاز المترابطة المتشابكة التي تبدأ من أصغر موظف في التموين أو المالية حتى تصل إلى رأس الهرم، فكثير منهم غادروا وقلة استطاعوا أن يتأقلموا ويعملوا في هذه البيئة الموبوءة.
عاد الركود والعطالة من جديد لتمسك مفاصل الاقتصاد السوري حتى أواخر التسعينات
قبيل رحيل حافظ وفي مطلع ١٩٩٩ تم من جديد إشاعة أجواء تفاؤلية، وتم تنشيط غرفة التجارة والجمعية الاقتصادية التي باتت تعقد جلسات حوارية عميقة حول الاقتصاد السوري كل يوم ثلاثاء تحضرها فعاليات كثيرة من تجار وأعضاء مجلس شعب وأساتذة جامعات. وقد حضر بشار نفسه عدة جلسات كمستمع دون أية مشاركة. وبدأ بعدها ظهور المنتديات الفكرية والثقافية فيما سمي اصطلاحًا ‘ربيع دمشق’.
النظام السوري والعلاقة المتذبذبة مع التجار
في هذا الجو جاء بشار إلى السلطة أواسط عام ٢٠٠٠ورغم أن خطاب القسم الذي ألقاه في مجلس الشعب كان عامًا وفضفاضًا ولا يحمل رؤيا واضحة لتغيير كبير في بنية وأسلوب النظام، إلا أن الكثيرون من الفعاليات الاقتصادية والثقافية اللذين التقوا مع بشار شخصيًا في فترة التحضير بترتيب من اللواء بهجت سليمان قد أكدوا أنهم لمسوا رغبة حقيقية لديه بالتغيير دون أن يكتشفوا أنهم خدعوا. وأنا لا ألومهم، ففي تلك اللحظة المفصلية كل من في قلبه شيئًا من الوطنية كان لديه أمنية أن يتم تغيير سلمي من رأس السلطة إلى أسفلها، لأن هذا هو أسهل وأقل الحلول تكلفة. ولكن حبل الأمنيات قصير!!
لم ينته عام ٢٠٠١ حتى تم إنهاء ربيع دمشق واستقرت السلطة على ما هي عليه، حيث استمرت كل القواعد والأسس التي أرساها الأب في ممارسة الحكم من الناحية السياسية والأمنية.
أما في الجانب الاقتصادي الذي هو محور موضوعنا، فكان هناك تغيير أساسي في المعادلة، فبعد أن كان رأس النظام مترفعًا عن الخوض في المعمعة الاقتصادية بنزاعاتها ونوازعها، وكانت متروكة للتجار والمسؤولين يتقاسمونها أو يتنازعون عليها تحت رقابته العليا، دون تدخل إلا إذا أوشكت الأمور الخروج عن السيطرة فيكون تدخله حاسمًا.
أما رأس الهرم في السلطة الجديدة المكون من الثالوث (بشار ماهر وأنيسة ممثلة بشقيقها محمد مخلوف) فقد اعتمد سياسة الاستحواذ الكلي على الفعاليات الاقتصادية الأساسية واستقر على اعتماد المهندس رامي مخلوف ابن الخال ليكون الواجهة المكشوفة للعمل، وعن طريقه وتحت عباءته يتم توزيع بعض المكاسب الجزئية على المحظيين من المسؤولين وضباط الأمن.
لقد كان هذا التوجه واضحًا منذ البداية، وفي أول وأشهر قضية، وهي صفقة الهواتف الخلوية ‘الموبايل’ حيث إن المؤسسة العامة للاتصالات كانت قد طرحت هذه المناقصة منذ عام ١٩٩٨ ولكن صراعات الأجنحة المختلفة في السلطة قد منعت إمكانية ترسيتها على أي جهة، رغم تقديم العديد من العروض السخية المتعطشة لدخول السوق السوري البكر.
لم يحسم الأمر إلا عندما استقرت السلطة تمامًا لبشار فمع بداية عام ٢٠٠١ تم توقيع العقود من قبل المؤسسة بضغط مباشر من القصر وتم الفرض على مجلس الشعب بإقرار الصفقة رغم اعتراضات من ممثلي شريحة التجار التقليدية بالأخص مأمون الحمصي ورياض سيف. الذين قرروا خوض المعركة ضد تغيير قواعد اللعبة وتغيير المعادلة الاقتصادية التي حقق بها نظام الأب التوازن ما بين احتكار السياسة وتوزيع المنافع الاقتصادية والتجارية، ولكن معركتهم كانت خاسرة (ودفعا ثمنها غاليًا) بسبب ضعف الدعم الشعبي الذي لم يشعر أن هذه معركته آنذاك، ‘ رغم أنه دفع الثمن من جيوبه أيضًا دون أن يشعر’ ولضعف وتهلهل شريحة التجار التي فشلت في بلورة موقف موحد أمام هذا التغيير الذي سيكون له نتائج مؤثرة على مستقبلهم.
منذ ذلك التاريخ أصبح رامي مخلوف الوكيل الحصري لأي نشاط اقتصادي أساسي، فلم يكن ممكنًا لأي شركة أجنبية الدخول إلى السوق السوري دون التفاوض معه والدخول من بابه، ولم يكن ممكنًا فتح أي مشروع كبير إلا بموافقته أو مشاركته، ولم يكن ممكنًا فتح أي نشاط جديد إلا عن طريقه أو بعد أن يعطى أفضلية السبق بما فيها من مكاسب وما لها من أهمية من الناحية التجارية.
وهكذا بدأت مسيرة فتح (وليس انفتاح) للأبواب التي كانت مغلقة في الاقتصاد السوري على تتابع بطيء يسمح بابتلاعها وهضمها قبل الوجبة التالية، فمن المدارس والجامعات الخاصة إلى البنوك الخاصة فشركات الصرافة إلى سوق الأوراق المالية ‘البورصة’ وصولًا إلى الشركات القابضة.
ولا داعي لذكر التفاصيل هنا لأنها صارت معروفة لكل السوريين.
بالإضافة إلى المحور الرئيسي الذي شكله رامي مخلوف استمرت محاور ثانوية بالاعتماد على تجار آخرين مرتبطين مباشرة برأسي النظام بشار وماهر ولكن في أنشطة أقل ربحية وأهمية.. ومنهم على سبيل المثال محمد حمشو وسامر الفوز. الذين اقترنوا بماهر.
وسليمان معروف والخيمي والدباغ وإياد الأخرس ‘شقيق اسماء’ الذين ارتبطوا ببشار مباشرة.
كما تركت مساحات صغيرة لبعض أبناء المسؤولين وكبار الضباط الذين دانو بالولاء التام لبشار وماهر، مثل مجد بهجت سليمان في مجال الإعلان مع شريكه بشار كيوان ومضر إبراهيم حويجي، وفراس شاليش وغيرهم ممن باتوا يسمون أثرياء الصف الثاني.
إن هذا الشفط الجائر والنهب المنظم طويل الأمد الذي دفع ثمنه الشعب السوري عبر عقود مما أزاح فئات كبيرة إلى ما تحت الفقر والعوز.. وهذا ما جعل الجو مهيأً للانفجار العظيم في آذار ٢٠١١ في انتفاضته العظيمة التي لن ينساها التاريخ رغم فشلها في إسقاط النظام، وطول أمدها الذي حولها من ثورة شعبية إلى حرب داخلية طويلة مع تداخلات إقليمية ودولية كثيرة لم تحسم نتائجها بعد.
إن هذه المرحلة كانت زاخرة بالأحداث والتغييرات السياسية والاقتصادية، فأنجبت الكثير من أثرياء الحرب في صفي النظام والمعارضة وأنتجت علاقات ومعادلات جديدة ونزاعات بين السياسة والتجارة يمثل ذروتها الدرامية الخلاف المعلن مع رامي مخلوف وما يخفي وراءه من خبايا.
المصدر: صحيفة اشراق